Print this page

«المقاطعة الإعلامية» وتعامل الصحفيين مع انتهاك مبادئ الديمقراطية: المهنة الصحفيّة ومواثيقها كفيلة بابتكار الأسلوب الأمثل

بعد أيّام على طرح موضوع «المقاطعة الصحفيّة» لائتلاف الكرامة يجب التساؤل عمّا إذا كانت النقاشات والتعليقات المتفاوتة

التي أثيرت بين الصحفيين قد ساعدت فعلا على إثراء النقاش المهني وتركيم مزيد من التصورات بشأن موقع الإعلام في الحياة السياسية وما ينبغي وما لاينبغي القيام به لتنظيم هذه العلاقة بين الصحفيين والسياسيين.
سياسيّا كان رد فعل هذا الائتلاف سريعا واضحًا ومتوقّعا وكان جزءاً من علاقته العدائية بأكثر من طرف في الفضاء العمومي في تونس، وصراحة من الغريب أن تَنتهك كطرف سياسي مبادئ التعايش الديمقراطي وحرية الإعلام وتستهدف الصحفيين ممن تصنفهم مناوئين لك، ثم تستغرب أن يطوّروا موقفًا منك، ولكنها حالة الإنكار التي تجدد نفسها كل مرة .
أما بالنسبة للمهنة الصحفيّة وأطراف الواقع الإعلامي من مهنيين وهيئات فمازالت الفرصة متاحةً للنظر بأكثر عقلانية لمسألة المقاطعة المطلقة والتمعن حقيقةً ودون تشنج فيما إذا كانت ممارسة مهنيّة تتلاءم مع روح المهنة والتزاماتها .
المقاطعة والالتزامات الصحفيّة
للأسف في غياب النقاش التحريري المهني داخل قاعات التحرير وغرف الأخبار تحوّلت مناقشة دعوة النقابة في جانب إلى تهجّم مؤدلج وموجّه ضدها وتأويل عدائيّ سياسي لموقفها، مثلما كانت المواقف المقابلة متصلّبة تعطي أولوية للمعاقبة والمقاطعة قبل التأمل في مآلات ذلك مهنيا وحتى سياسيّا، وفِي مدى واقعيته.
أعتقدُ شخصيا أن المقاطعة - وهي إجراءٌ لافتٌ وثقيلٌ في حجمه - لا يمكن أن تكون إلاّ قرارا تحريرياّ، أي أمرًا يناقشُ داخل قاعات التحرير، ويتوجبُ أن يكون المجتمع الصحفيّ جزءا من تحليل وتقدير هذا الإجراء وفهمه ومتى ولماذا يستخدم، إذا كان هناك داع أو نتيجة من استخدامه .
علاقة الصحفي بالمهنة وبالمجتمع لا تتحدد فقط بإنتاج المحتوى الصحفي بل بما يطرحه على نفسه (وما تحدده المواثيق ) من التزامات تدور كلها على مبدأ أساسي هو الحق في الإعلام وتداول الأخبار وإيصالها، ومن أجل يتعهّدُ بالوصول إلى الحقائق مهما كانت سياقاتها، وبعدم اجتزاء الواقع أثناء عملية وصفه ونقله ومعالجته صحفيّا، و الأهمّ أنه يمارس هذا الالتزام كمهنيّ لا كطرف سياسي أو طرف في صراع ما حتّى إذا فُرض عليه.
المواثيق المرجعية تفرض على الصحفيّ إعلان موقف واضحٍ من التصريحات والمواقف والأحداث التي تُعرّفُ كانتهاكات أو انحرافات أو كجرائم مثل خطاب الكراهية أو الوصم والعنصرية والتمييز وصولاً إلى التحريض على العنف والقتل، وهو ملزم بالتصدي لذلك متى وقع، ولكنها لا تشيرُ للمقاطعة أو الأساليب المماثلة، ولكن لنقل أن المواثيق في مجملها توجهاتٌ ومبادئ وليس دليل استخدامات، والجهد هو في إدراك كيفية تطبيقها وفقا للأحداث والمواقف الطارئة والمتغيرة وفقاً لكثير من المحددات، وهنا يكمن النقاش المهني.
المقاطعة والالتزام الإعلامي بضمان التمثيلية السياسية
من بين المحددات التي تعود دائما إلى الواجهة وظيفة الإعلام في السياق الديمقراطي عموماً (وبالخصوص في السياق الانتقالي )و هي ضمان التمثيليةٍ السياسية أي الصيغُ التحريرية والتناول والأشكال الصحفيّة والبرمجة عموما التي تُظهر التنوّع والتعددية بشكل واقعيّ ومتوازن، (وعندما أقول ضمان التمثيلية لهذا الأطراف المتعددة فذلك لا يعني التصفيق لها ولا مباركتها، بل مناقشتها وإخضاعها للمساءلة) لذا فيفترض أن أي موقفٍ للصحفي أو للمهنة وهيئاتها أو أي إجراءٍ مهما كان حجمه وخلفيته، يُفترض أن يراعي هذه الوظيفة مثلا.
سيظهر سؤالٌ مشروع وهو هل أن التعبيرات المتطرفة والراديكالية هي جزءٌ من التنوّع؟ الجواب في رأيي هو من صميم الواقع وليس مسقطا وقبليّا.
واقعيّا فطالما لم يتحوّل هذا التطرّف إلى أفعال وأقوالٍ تجرّمُ وما لم يتضارب مع الدستور وأحكامه فهو جزءٌ من هذا التنوع لا يمكن تجاهله.
ولكن من الواضح أن الراديكالية والخطاب المتطرف هو منطق سياسي محبذ لائتلاف الكرامة عبره تُقرأ مواقفه ومرافعاته، وهو ولاعتبارات عدة ينتهج التصعيد والخطاب العدائي والفرز والتحريض كاستراتيجية سياسية تجاه كل مناوئيه من سياسيين وصحفيين، وهذا نمط شعبويّ مبتذل وهو مسؤول على مزيد تسميم الحياة السياسيّة وعلى التدني بفرص النقاش العمومي، ومن المؤسف حقّا أن يمنحَ مثل هذا المنطقُ صاحبه موقعًا سياسيّا متقدما في التشريع وفِي الحياة السياسية وخزّانا انتخابياّ.
ولكن مع ذلك فهذا الائتلاف يبقى مكوناً سياسيًّا هو جزءٌ من واقع برلماني صانعٍ للخبر، وقد يصبح يوماً ما قصة خبريّةً رئيسية، وهذا ما يجعل من مسألة مقاطعته مطلقاً أمرًا غير واقعيّ.
وربّما يتوجب الانتباه إلى أن تعقيد الواقع الإعلامي وتعدد الفاعلين وحجم الاستقطاب السياسي قد يؤدي وبدل عقلنة الموقف المهني إلى فتح الباب أمام إجراءات أخرى من قبيل المقاطعة والمقاطعة المضادة بين وسائل الإعلام وأطراف مختلفة مما يربك مجمل الخطاب الإعلامي ويؤدي لخلق جُزرٍ متباعدة في خطها ولائحة ضيوفها ومواقفها.
هل كانت المقاطعة في العالم خيارا مهنيا موحّداً ؟
حقيقةً قد لا يكون الحديث عن التجارب الإعلامية في دول أخرى في صالح دعاة تعميم المقاطعة المطلقة، ولا يبدو أن المجتمع الصحفي لجأ في العالم وفي حالات مختلفة ومتنوعة إلى إجراء مهني موحّد كهذا، الأمثلة كثيرة فنقلُ أخبار المافيا في إيطاليا كانَ موضوعا صحفيا وجزءاً من التعاطي مع الواقع اليومي بما فيه من أحداث دامية ولم يعتبر ترويجاً لها، بل إن صحفيين إيطاليين استمروا في العمل رغم تعرضهم للتهديد والاستهداف.
وتصدُّر أقصى اليمين والتيارات الشعبوية بمواقفها المتطرفة في بلدان وسط أوروبا كان أثارَ نقاشات مهنيّة صحفيّة عن كيفية التناول، ولكن دون الذهاب إلى حد موقف المقاطعة، ونقلُ أخبار الجبهة الوطنية في فرنسا- رغم المخاوف من تعزيز حظوظها انتخابيّا- لم ينقطع ولم يدلّ على أن الصحفيين مقصّرون في تعاطيهم وإدراكهم للمخاطر السياسية، حتى عندنا بادرت الجبهة الوطنية نفسها سنة 2017 لمقاطعة الصحفيين، والمثال الوحيد الذي رفض فيه الصحفي يان بارتاس استقبال قياديين من الجبهة الوطنية في إحدى قنوات canal + كان ردّا على مقاطعة الجبهة نفسها برنامجه، وعملت القناة على ضمان ظهور منتسبين للجبهة في مساحات أخرى.
وربما كانت آخر الأمثلة السنة الماضية في تولوز بفرنسا عندما اعتدى منتسبو «السترات الصفراء» بشكل فجّ ومهين على صحفيين مع دعوات تحريضٍ ضد بعض وسائل الإعلام من قبل أنصار هؤلاء المحتجّين، حينها دعت هيئات صحفيّة محلية في فرنسا لمقاطعة أخبار «السترات الصفراء»، ولكن نقابة الصحفيين الفرنسيين اكتفت بالتضامن مع الصحفيين وإدانة الاعتداء، وعددٌ كبير من المهنيين تعاملوا بفتور مع موضوع المقاطعة، ولكن ماذا كان خيارهم؟ كان الجواب على الاعتداء من داخل المنطق المهني الصحفي: لنغطّي أخبار السترات الصفراء بما يكشف عدوانيتهم وانحراف مظاهراتهم عن أهدافها كلما كان ذلك متاحاً.
هل هناك ردّ مهني يتيح ترشيد المقاطعة؟
النقاش التحريري إذن، بواسطة منطق المهنة هو السبيل الأمثل للخروج من السجال المتعلق بمقاطعة هذا الائتلاف أو غيره من الأطراف السياسبة المتطرفة أو الغارقة في الفساد والمسؤولة عن تردّي الواقع السياسي، وهو بطرح السؤال كيف يمكن بلورة موقف قويّ مهنيّا دون التخلي عن الالتزامات الأساسية للصحفي والصحافة :
- لم تحدد نقابة الصحفيين التونسيين مالمقصود تحديدا بالمقاطعة وهذا يجعلني أميل إلى اعتبار ذلك مبدأً توجيهياّ يقوم على توضيح الموقف الرافض لممارسات ما لهذا الطرف السياسي، ولكنه يتيحُ لكل وسيلة إعلام على حدة أن تقدّر كيفية ترجمة هذا الخطوة، أي أن المبدأ التوجيهي هو تصوراتٌ عامةٌ يُظهر فيها الموقف المهني ولكنها أقرب لاقتراح مناقشة تحريريّة داخل غرف الأخبار وقاعات التحرير في كيفية التعاطي مع ظواهر الراديكالية و خطابات التحريض.. ولا تقيّد وسائل الإعلام بإجراء محدّد، بل يمكن تسميته موقفاً مهنيا وليس بالضرورة مقاطعةً.
- الحقل السياسي أقوالا وأفعالا هو صانعٌ للخبر ولكن بالإمكان لوسيلة إعلام تحديد حجم الخبر المتعلق بهذا الائتلاف وموقعه بالحد الأدنى، أو بالإمكان إقرار عدم ظهور منتسبي هذا الائتلاف في حلقةٍ ما مثلا، أو في مجمل البرامج المباشرة الخاصة بالحوارات السياسية، والاكتفاء بمقاطع مسجلة مع توضيح سبب ذلك للجمهور.
- بالإمكان مثلا إيجاد صيغة للتذكير في مختلف المساحات الإعلامية بالموقف من هذا الائتلاف وسببه، وطبعاً مهما كانت مستويات التعامل مع هذا التيار يتوجبُ أن يتم تقييد ذلك بمدى زمنيّ محدّد.
- وقد يكون الخيار المهني الأكثر عمليّةً و واقعية هو المعالجة الصحفيّة لكلّ هذا، أي تحويل ممارسات هذا الائتلاف ومواقفه إلى مادة لعمل صحفي مهني ومتوازن، كفيل بتوضيح مسؤولية هذا الطرف السياسيّ على تردّي الأجواء الديمقراطية أوإفراغ التعايش السياسي والتعددية من مضمونهما أو تهديد المبادئ الدستورية وقيم الديمقراطية.
- وعلى العموم فقد راكمت المهنة الصحفيّة في مسار تطورها محليا ودوليا الكثير من الخبرات في التعاطي مع الطارئ واللافت وفِي مواجهة أي تهديد، وهي خبرات تبحثُ عن الحلول والمواقف من داخل الالتزامات المهنيّة والقواعد والأخلاقيات وليس من خارجها، على الصحافة فقط أن تكون قادرة على ابتكار هذه الحلول ففيها إعادة ابتكار للوعي المهني وتجديده.

بقلم: نصر الدين اللواتي 

صحفي - باحث في علوم الإعلام والاتصال - جامعة غرونوبل 

المشاركة في هذا المقال