Print this page

على هامش العودة المدرسية: عندما تغيب «الرقمنة» تحضر «الكورونا» ...

من قال أن العودة المدرسية لم تنطلق بعد، وأنها مازالت من الاختصاصات السيادية الحصرية لوزارة التربية فهو بالتأكيد واهم ..

ومن روّج عن قصد أو عن غير قصد بأن العودة المدرسية الرسمية قد شوشت عليها جائحة الكورونا فانه يكون قد غفل عن فيروس اخر أشد فتكا قد نخر بمدرسة الجمهورية من الداخل منذ سنين طويلة، ونجح في تحويلها جينيا الى منظومة من المدارس الموازية، بهيكلية أخطبوطية منظمة، وبتوزيع جغرافي منصف وعادل يستجيب لمبدإ التمييز الايجابى التي جاء به الدستور، وبحوكمة أفقية مفتوحة يضطلع فيها المعلم أو الاستاذ المشرف على الدرس الخصوصى بدور «المدير» و»القيم العام» و»المخاطب الوحيد» للاولياء في نفس الوقت، انها بكل بساطة «كورونا الدروس الخصوصية».. الفيروس المرئي الذي شاءت سخرية الاقدار أن نتضامن جميعنا بدرجات متفاوتة في انتشاره الوبائى السريع والشامل وفي شيطنة كل محاولة اختراق لجداره الخرساني السميك بأدوات الرقمنة المتاحة والمتوفرة على عكس ما يشاع...
كلنا نعلم أن تراجيديا التاريخ شاءت في الاونة الأخيرة أن تدخل دول العالم في مرحلة من «الحجر الصحى العام»، كما شاءت رياح الجغرافيا السموم أن تخرج منها منظومتنا التربوية تقريبا بخفي حنين بعد أن تم اسقاط «الخيار الرقمي» كشكل من أشكال المواجهة المباشرة والفعالة للجائحة واستبداله بدروس متلفزة تلقينية قد تستهوى جيل الستينات والسبعينات من القرن الماضى لكنها بالتاكيد تظل عاجزة على اغراء قسم واسع من جيل الفضاء الافتراضى المتوحّد فايسبوكيا وانستغراميا حتى النخاع ...
ونحن على أبواب سنة دراسية جديدة، وكالعادة وبطريقة «التتليف» التونسية الشهيرة تم تحويل وجهة النقاش العام من ضرورة الاسراع بتفعيل المنصات الرقمية المتاحة للتعليم عبر الشبكة التي أثبتت نجاعتها في العديد من التجارب المقارنة القريبة منا الى لغو دائر حول وضع بروتوكول صحى هلامى يستحيل تطبيقه في وسط مدرسي وجامعى يؤمه يوميا جيوش جرارة من التلاميذ والطلبة، يفتقر الى ابسط مقومات شروط الصحة والسلامة إذا لم يتم اسناده بالخيار الرقمي المتاح والممكن تونسيا...
بالنتيجة تمخضت سلسلة المشاورات بين الوزارة والطرف النقابى مؤخرا عن عودة مدرسية رسمية بنظام الافواج وبنصف الوقت العادى المخصص للتلميذ الذى لم يستكمل بعد مقرره الدراسى للسنة المنقضية.. مشاورات لم يتم خلالها حتى مجرد ذكر «الخيار الرقمى» لا من قريب ولا من بعيد أو توقع سيناريو ماذا يمكن أن يحدث لو تفشى الوباء داخل الوسط المدرسى والجامعى بشكل واسع يصعب السيطرة عليه ؟.. باختصار شديد ستسجل العودة المدرسية 2020 - 2021 انتصار «منظومة الدروس الخصوصية» المتنفذة على «مدرسة الجمهورية» برمى المنديل، كيف لا وهى المنظومة التي ستتكفل بالنصف الثانى من الوقت المخصص للتدريس خارج أسوار المدرسة بشكل معلن وفاحش...
لماذا كان «الخيار الرقمي» غائبا عن الأذهان أم أن فيروس «الدروس الخصوصية» حال دون ذلك في الوعى الباطن للعديد من المسؤولين عن القطاع ؟ ألم يكن هذا الخيار قادرا على تحقيق أكبر قدر من «التباعد الجسدي» المطلوب في زمن الكورونا ؟ خاصة وانه يقوم على المزج الذكي بين النمط الدراسي الحضوري والتدريس عن بعد téléprésentiel .. يٌثمّن من جهة ما تزخر به بلادنا من موارد بشرية وبنية تحتية رقمية متطورة تحتاج فقط الى بعض التعديلات من قبل مزودى خدمات الانترنت ومشغلي الاتصالات، ومن جهة ثانية يستفيد بما تم تحقيقه في القطاع الخاص أثناء «الحجر الصحي العام» في مجال التعليم عن بعد.. يسمح بوضع روزنامة عمل emploi du temps تٌوازن بين استمرارية العملية التربوية في أبعادها التواصلية والبيداغوجية ومقتضيات الصحة والسلامة من الخطر الكوروني المتربص...
ألم يتفطن بعد القائمين على القطاع بان «الخيار الرقمى» يٌشكّل بحق الرئة التي يتنفس منها البروتوكول الصحى الخصوصى بالوسط التربوى باعتبار أن من شانه ان يخفف من وطأة عامل اكتظاظ الاقسام والمدرّجات الجامعية ؟
فيكفي أن نقسم الصف الواحد من التلاميذ أو الطلبة الى مجموعتين حيث يتم تداول الدروس فيما بينهما كل خمسة عشر يوما وفق ثنائية حضورى / عن بعد télé-présentiel حتى نساهم في تأمين عودة مدرسية آمنة تستجيب في الحد الأدنى لمقتضيات البروتوكول الصحى وديمومة المرفق التربوي.. هل يحتاج ذلك الى عبقرية فذة أم فقط الى ارادة حقيقية في التغيير تقطع مع حاجز الخوف من لوبيات الدروس الخصوصية المتنفذة ؟
وبغاية اسقاط «الخيار الرقمى» نهائيا من المعادلة التربوية لما يشكله من خطر حقيقى على وجود «منظومة الدروس الخصوصية الموازية» يتم تسويق كم كبير من المغالطات منها أننا لا نملك بنية تحتية كافية لتامين تغطية كافة مدارس بالانترنت خاصة تلك المتواجدة بالمناطق المحرومة والمعزولة في حين أن مشروع «المدرسة الرقمية» انطلق منذ أكثر من عقد من قبل «المركز الوطني لتكنولوجيا التربية» ، يكفي أن نذكر منها عمليات التسجيل والترسيم عن بعد التي أمست من الطقوس الرقمية التربوية المعتمدة والمألوفة، وان برنامج التغطية الشاملة للانترنت من الجيل الثالث والرابع بدأ الشروع فيه فعليا سنة 2017 ليعرف وتيرة أعلى أثناء الموجة الاولى من الجائحة، في هذا الصدد ألم يبد مشغلو الانترنت اثناء «الحجر الصحى العام» استعدادهم لتمكين التلاميذ والطلبة للنفاذ المجاني الى منصات التعليم عن بعد ؟
من المفارقات المؤلمة انه بالأمس غير البعيد كانت بلادنا رائدة في مجال رقمنة المنظومة التربوية في فضائنا المغاربى والافريقى ، فكان لنا السبق في محيطنا العربى والمغاربي باحداث مؤسسة متخصصة في الرقمنة المدرسية بجميع ابعادها (المركز الوطنى لتكنولوجيا التربية)، ومنذ مطلع الألفية الثالثة حققنا سبقا دولىا جديدا ببعث جامعة افتراضية (الجامعة الافتراضية بتونس) تنتمى للجيل الأول من شبكة الجامعات الافتراضية في العالم...
الم تصنف بلادنا سنة 2019 الاولى مغاربيا والثانية افريقيا خلف «جنوب افريقيا» في مجال الانترنت ؟ أسئلة واخرى تعيدنا الى مربع الخصومة الأصلية الدائرة بين منظومة «الدروس الخصوصية» وعدوها اللدود «مشروع رقمنة المنظومة التربوية»...
من الأكيد أنه كان من المتاح أن نؤسس لافتتاح سنة دراسية نموذجية قوامها مزيج من التعليم الحضوري والتعليم عبر الشبكة المعبّر عنها بنظام Télé-présentiel ، لكننا مرة ثانية نفوّت على أنفسنا فرصة أخرى ونحن على أبواب سنة «كوفيدية» جديدة لن ترحم من تخلف على الالتحاق «بقطارها الرقمي السريع» TGV numérique...

المشاركة في هذا المقال