Print this page

منبــــر: لـم يبق أحد ليدافع عنك..

قد تبقى المبادئ والأخلاق هي الأسمى في بناء حضارة ما في حين تندثر أشكال الحكومات والنُظم السياسية دائما وأبدا.. ذلك هو التاريخ..

سمعت تصريحا لقيس سعيد الأستاذ الجامعي لا الرئيس يعود لسنة 2013 في اعتصام الرحيل تحديدا بعد الاغتيال السياسي الثاني للشهيد محمد البراهمي، يتحدّث فيه عن رؤيته للمشهد آنذاك.. ولفتت انتباهي جملتان من قوله، الأولى: « لقد تمّ تزوير عقول الناخبين» والثانية «ليرحلوا جميعا بحكومتهم ومعارضتهم».
قد يعرف قيس سعيد الرئيس أنه ليس قيس سعيّد الأستاذ، لأنّ الرئيس يجب أن يكون قادرا على جمع شمل التونسيين لا تفريقهم وإعطاء إحساس بالاستقرار والطمأنينة.. ولا يستعمل معجمه الحربي باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة ولا يتحدّث عن الصواريخ في منصتها إلا متوجها للأعداء.. قد يكون لتونس الكثير من الأعداء ممن يتربصون بها، ولكننا نعرف الكثير منهم دون شك، كالفقر والبطالة والخصاصة والفساد والأحلام المؤجلة.. كتأخر المنظومة التربوية والتعليمية والتقنية وغيرها.. تلك التي لن تحلّ ويصلح شأنها بكن فيكون، أو بين عشية وضحاها.. ربما ستمتدّ لأعوام وعقود ومن يقول عكس هذا، هو حالم لا ريب..
«عقلية كن فيكن» ورثها العديد من التونسيين، وكأنّ هنالك المنجي الواحد الأوحد، المختار، هو نفسه مصباح علاء الدين السحري وهو عمر المختار أو صلاح الدين الأيوبي أو النبي المجهول، يمكن أن يصلح حال البلاد قبل أن يردّ له طرفه..
زمن المعجزات لم نعرفه إلا في الكتب، لكن الإعجاز الوحيد هو محاربة الجهل والإيمان بقيمة العمل.. والصبر على الزمن لنرى مفعوله، فلاشيء ثابت غير الزمن.. لا أحد يملك مصباح علاء الدين ولا عصا سحرية، ولا أحد يمكن أن يكون شخصية بعثت من كتاب التاريخ.. العالم يتغّيّر وبعض عقليات الجماهير لم تتغير..
فكرة حراسة العقول مخافة أن تُزور لأمر مخيف بدوره للغاية، وفكرة رحيل طبقة سياسية كاملة لأمر مخيف أيضا.. فكل له الحق في وطنه مادامت قيم الجمهورية تجمعهم ومادامت المواطنة تسويهم ومادام القانون يطبّق عليهم..ومادامت الجنسية التونسية تحتويهم.
إن الاختلاف ضرورة حتمية، وإن إقصاء أو قتل أيّ شكل من أشكال الاختلاف، يعني شيئا واحدا لا غير، أنكّ في الأخير تقصي حريتك وتقتلها.. لأنّك بإقصاء الآخر لا تقصي إلا نفسك، وبقتله لا تقتل إلا نفسك.. ما دامت الحرية هي المبدأ والأساس..
حق الاختلاف يعني بالضرورة احترام ما يمثّله الآخر من فكر ومعتقدات ومخيال وتمظهر.. فلا أحد هو مركز الكون ولا أفكاره كذلك، ولا إرثه الحضاري وليس هو مركز الكون..
إنّ حق الاختلاف يبقى أقوى ممارسة للديمقراطية بمفهومها الدقيق ، مجتمعها نابض، يتحرّك ويتفاعل، لا جماد ولاساكن بين مستنقعات الجهل والسجون، فالديمقراطية التي استشهد من أجلها الأبطال، من نعرفهم ومن لا نعرفهم، والتي اضطهد من أجلها المضطهدون، والتي أسالت الكثير من الحبر وأزالت الكثير من الخوف ومن القمع ومن الظلم ولم تلغه تماما حتى الآن لأنّ جراح الماضي لم تشف بعد، أجيال بأكملها عاشت تحت وصايا الديكتاتورية، لا نتحدّث عن خنق الأحزاب السياسية وتقليم أظافرها شيئا فشيئا فقط ولا عن محاكمات الرأي، ولا عن التعذيب والترهيب وقمع جميع الحريات..
في هذه الديكتاتورية القريبة لم يضطهد السياسي فقط ولا النقابي ولا الصحفي ولا صاحب الفكر والرأي والفن.. إنما اضطهدت الأحلام والأفكار بكل أجيالها .. حتى المواطن الذي لا يعرف من حياته سوى رغيف لأطفاله(ها) اضطهد بشكل أو بآخر وحرم من بعض الأماني البسيطة، تعرّض للظلم والأذى، بشكل أو بآخر.. كل من مثّل القبضة الأمنية كان يقمع ويلفّق ويقهر، ولا أحد يستطيع أن يتكلّم.. الأغلبية الساحقة كانت منحية للخوف أو التملّق أو مستعدة لاجترار الظلم..
وكلما تكبر الديكتاتورية يتّسع الجهل ويزداد القمع ويستشري الفساد، من يمكن أن يجزم أن لا تنقلب الأضداد يوما ما وتصبح الديمقراطية الناشئة ديكتاتورية ناشئة إذا صار الحاكم بأمره هو الحقيقة المطلقة وتبعه القطيع دون هوادة.. أيّ حاكم بأمره كان من كان.. فالديمقراطية تصوّر الإنسان كائنا حرا لا فردا من القطيع.. وإن رفض حق الاختلاف يصبّ أساسا في فرض اللون الواحد الذي يكرّس الرأي الواحد الأوحد، عندها يكون الاستبداد في أبشع صورة له..
إلى حدّ اليوم هناك دعوات شعبية كاريكاتورية هنا وهناك بالتخلي عن مجلس النواب، وتتسائل لمَ هذا المجلس؟ ربما تماهت في ذهن البعض صورة المجلس كمؤسسة تشريعية في صورة تشكيلات النواب، فتحوّلت الدعوات بالتخلي عنهم إلى الدعوات بالتخلي عن هذه المؤسسة التي إذا انخرمت اهتزت الدولة ووهنت أركانها..
في الحقيقة تنخرم الدولة بانخرام جميع مؤسساتها، أو مجتمعها المدني بكافة أطيافه وأشكاله بما فيه من منظمات وجمعيات وطنية وخلايا حيّة من المثقفين والمفكرين ونبضهم..
وعلى مقياس بلد مثل تونس، الاختلافات كثيرة بين التونسيين في مستوياتها المتعددة، ولا مناص من عقد اجتماعي يضع مشاغل البلاد على الطاولة بعيدا عن الدوغمائية والطوباوية والتفرّد بالرأي.. فالسياسة ليست إلا مرآة للفكر.. ولا فكر حر مع التشبّث بالحقيقة..
لا أحد اليوم يستطيع أن يقنع القطيع أنه قطيع، ولا أحد يستطيع على الإطلاق أن يعرف كل شيء ويفهم كل شيء والآخر هو اللاشيء، ففي كتاب سيكولوجية الجماهير اعتبر الطبيب وعالم النفس والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون Gustave Le Bon، أن القرارات التي تتوصل إليها مجموعة من الأفراد حتى من يُصنفون كأذكياء لا تختلف كثيرا عن القرارات التي تتخذها مجموعة أخرى أقل ذكاء وأكثر غباء أو حتى تلك التي تتميز بالبلاهة، ويقول : «إن معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها»، لذلك لا أبدا ترقى الأمة، بحكومتها أو ثروتها، بل باجتماع مجهودات أفرادها.. هكذا أيضا استنتج صاحب كتاب سيكولوجية الجماهير.
هنا أتذكّر مقولة اللاهوتي الألماني المعادي للنازية مارتن نيمولر : «في ألمانيا أولا جاءوا للشيوعيين لم أبال لأنني لست شيوعياً، وعندما اضطهدوا اليهود لم أبال لأنني لست يهودياً، ثم عندما اضطهدوا النقابات العمالية لم أبال لأني لم أكن نقابيا.. بعدها عندما اضطهدوا الكاثوليك لم أبال لأني بروتستنتي..وعندما اضطهدوني أنا.. لم يبق أحد حينها ليدافع عني».

المشاركة في هذا المقال