Print this page

الجالس وراء رئيس البرلمان

بقلم: توفيق العلوي
يذكّرك الجالس وراء رئيس البرلمان يوم الأربعاء 4 جوان 2020 بجالس وراء راكب في حافلة شعبيّة وقد مال شيئا ما لاعوجاج الكرسيّ،

أو ليمدّ ساقيه في فضاء أرحبَ، أو لفائض جسمه المنسرح على الأطراف، أو ليتمكّن من رؤية جميل... أترك لخيالك السرحان فيه. جليس من وراء حجاب، مبتسم ومنشغل، عبوس ومنفعل، مستقرّ ومنتقل، غير أنّي " بصّرت ونجّمت كثيرا، لكنّي لم أشهد أبدا جلسة تشبه جلسته".

كان الجليس يتقن لعبة التخفّي والظهور، فيصعب على العدسة التقاطه حسب مزاجها، يزجّ بهامته بين كتفيه، ويزحلق ساقية بتؤدة إلى أسفل كرسي الرئيس، ويدلدل يديه ملتصقتين بجنبيه، ويترك المبادرة لجسمه ليميل جهة شيخه، بحثتُ عنه في التلفاز ما وجدته، شيّعت عينيّ ما التقطته، كدت أميّل رأسي جنبات التلفاز بحثا عنه، فطنتُ إلى سذاجتي، فعدلت عن ذلك.
لا ترى منه أحيانا إلاّ هامة " قلقة متحركة شمالا أو جنوبا "، لا تكفّ عيناه عن الحركة يمنة ويسرة كمن يتابع مقابلة في " التنس "، وأذناه واقفتان لا تفوّتان من كلام المعارضة شيئا، تلتقط الشارد والوارد في تركيز كلّيّ لم نلحظه عند الرئيس الذي كان يقرأ أحيانا أوراقا غير مكترث بالسهام الموجّهة صوبه.

يضع الجليس أحيانا يده على فمه في وضعيّة " زغردة " ليهمس سرّا للرئيس في صورة يراها العالم جهرا، كان الهامس شبيها بالملقّن المسرحيّ، يصعب عليك التفطّن إلى كلماته، وتتعذّر قراءتها الشفوية لتخفّيها وبرقيّتها، فإذا الشيخ مكرّر ما يقوله المريد في انقلاب للأدوار حتّى إذا كانت المداخلة من أهل الحزب أو حلفائه قام الجليس يتمشّى في كبرياء وقد اطمأنّ إلى المقام، يسبقه بطنه الجاحظ وابتسامته الرامزة إلى أنّ الوضع تحت السيطرة.

كثيرا ما حاول الجليس تقريب هامته ما أمكن من الشاشة التي قدّامه يختبئ بها، لينقلب دور الشاشة من الإظهار والإخبار إلى الإخفاء والإخباء، يكاد يربّت عليها بخدّيه وقد همس للشيخ بشفتيه وهو يلعن المعارضة في تساؤل وجوديّ عن علّة وجودها أصلا.
كان إذ ابتسم ابتسم الرئيس فكأنّه يدغدغه من جنبيه، وإذا عبس عبس الرئيس، وتراه أحيانا يبتسم وحيدا دون موجب حتّى إذا كانت الصواريخ متهاطلة على شيخه، عاد لانكماشه وتقلّصه مختبئا وراء كرسيّ فخامته حامدا الله أنّ الضرب في جاره وإن كان شيخه.

يحرّك الجليس رأسا بشعر أسود يلقّن رئيسه الأشيب، لعبة البياض والسواد، الأسود الذي يلقّن الأبيض في إشارة إلى انقلاب القيم، فيسرح بك تأويلك إلى الذهب الأسود، مدارِ الصراع في شقيقتنا ليبيا، ويذهب بك خيالك إلى دلالات اللون الأبيض، فتراه رمز الفرح بالتسهيل لأولي الأمر الحصول على هذا الذهب، لتصل إلى أنّ هذا الذهب الأسود يسيّره اللون الأزرق المشترك بين لباس الرئيس وجليسه.

لقد رأيت قاعة البرلمان مختزلة في جليس الرئيس الذي ينظر إلى الجميع من علُو، يُنبئك بملامحه وحركاته وسكناته عن مجريات الجلسة، حلوِها ومرِّها، وقد يغنيك بها عن الإنصات، فانظر إليه تَرَ ما لا تقوله الكلمات حتّى تخال أنّك إذا حيّيته من خلال التلفاز حيّاك وهو مختبئ " بأحسن منها ".
لست أدري لمَ استحضرتُ، وأنا أنهي مقالي، بيت أبي نواس في مخاطبة الباكي على الأطلال:

قلْ لمن يبكي على رسْم درسْ
واقفا، ما ضرَّ لو كان جلسْ

ولكنّي أدري علّة معارضتي له:
قل لمن " أدْمنْ " على همْسٍ لهِفْ

جالسا ما ضَرّ لو كان وقْفْ".

المشاركة في هذا المقال