Print this page

منبــــر: ولكم أن تتخيلوا..

بين عشية وضحاها تغيّرت تونس كثيرا، انتهت كل المعارك والحروب السياسية الطاحنة في هذا البلد، تلك المعارك التي كانت تدور حول الهوية

وما جاورها من لغة أكل عليها الدهر وشرب، انتهت تلك الحروب التي كلما اشتدت إلا وهزلت الدولة ووهنت أركانها، كان هذا قديما ، فلم يعد في تونس أي اصطفاف سياسي أو إيديولوجي، ذلك الاصطفاف الأعمى الذي خرّب ودنّس وحقن المجتمع بمزيد من صراعات خاوية، صراعات طواحين الهواء.. هذه البلاد التي منّ الله عليها بهداية سماوية عجائبية، تغيرت دون أن نفهم شيئا، حتى أنّ العالم تأكّد أنّ لغزا ما تركه سيدي محرز لتونس حصّنها من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. تماما كما حدث مع كورونا تونس..

كل العالم أصبح يتحدّث عن هذا الإستثناء التونسي الذي حيّر الجميع وأسقط العلم بالضربة القاضية، حتى أنّ هنالك العديد من السياح الذين صاروا يتبركون بتراب تونس ويحملون بعضه كتعويذة نجاح..

لم تختف المعارك من تونس كي لا نبالغ، بل أصبحت كل المعارك نبيلة في أصلها، معارك القيم والمبادئ والأفكار، معارك البرامج الخلاقة، تنافس الشباب المبدع، الذي شُرّعت له الأبواب كي يكون كذلك.. حتى أنّنا بلغنا أقصى درجات الوعي.. وتجاوزنا الوعي إلى ما بعد الوعي والحقيقة أنّ جهود الجميع تضافرت، نخبة خاصة سياسية لم يُر لها مثيل لا في مشارق الأرض ولا في مغاربها، قادت شعبها ليزهر ويحب الحياة ويكون مثلا للشعوب السعيدة، حسدنا العالم على هذا خاصة.. وأصبحت لتونس الخضراء ألقاب عالمية أخرى، تونس العمل، تونس العدل، تونس الحب..تونس الفن..

انتهت المزايدات والشعبويات وصراعات الهوية ولم يعد المشهد خانقا جحودا يلغي مصلحة البلاد ويعبث بمصالح العباد، واندثر كل توصيف يمكن أن يقسّم التونسيين ويلهيهم عن المعارك الأساسية، وطبعا ربح الشعب الكريم مع حكومته معركة دفع النمو وخلق الثروة، مما ارتقى بالإقتصاد، بعد أن وقع إحكام مؤسسات الدولة، وبعد أن وقع احتضان الأدمغة التونسية التي تتسابق للهجرة، وغيرها من المعارك التي لا تحصى ولا تعد.. كسبها الشعب بعدما هنأ على رزقه وأمنه وصحته ومستقبله.. هذا الشعب السعيد.. ‎ولم يعد التونسي منتفخا بالانفعالات وبالغضب، مستعدا للعراك دائما.. لم يعد التونسي يحمل سلاح الشتائم في لسانه ويطلقه بصفة عشوائية هنا وهناك.. ببساطة عندما تخرج من بيتك لا ترى إلا الإبتسامة ولا تسمع إلا سلاما سلاما ..

وكادت المحاكم تُغلق، اختفت كل الجرائم فجأة من البلاد.. وأصبح التونسي يعانق أخاه التونسي، وانتهى عهد حماية الشخصيات أو التكفير والعياذ بالله، أو كل عاهة من شأنها أن تقوض السلم الإجتماعية فالأمن عمّ البلاد وقلوب العباد، ولا ننسى أن المرأة أصبحت متساوية في الحقوق والواجبات مع الرجل في كل شيء، ممارسة وتطبيقا وانتهى العنف ولم يعد هنالك تحرّش ولا تلك الأمراض القديمة.. وكسدت "باتيندات" جمعيات حقوق الإنسان بصفة عامة.. وأغلقت هيئة مكافحة الفساد إلى الأبد، فلم يعد هنالك فساد أبدا، معاذ الله، وأفرغت السجون، وامتلأت المكتبات والمسارح ونشطت مخابر البحوث العلمية، وأرسلنا مكوكا أو اثنين إلى الفضاء، ولم نعد نستورد أي منتوج، كل شيء يصنع في تونس.. وانتهى الفقر إلى الأبد والبطالة كذلك.. صرنا نضع كل خبراتنا ومواردنا وتقنيتنا وعلومنا ومعادلاتنا وذكاءنا لخدمة بقية الشعوب الفقيرة المسكينة..

وأصبحت قيم الجمهورية ترفرف عاليا في الدولة المدنية العادلة والقوية والناعمة والجميلة والساحرة، ورأينا ملامح جديدة لـمواطن أصله وفصله يصبّ في الإيمان بقيمة العمل واحترام الآخر وعلوية القانون، بعد أن بنينا ثقافة السلم الاجتماعية، لبنة لبنة، في المدارس وفي الجامعات وفي الشوارع وفي الساحات وفي المصانع وفي كل مكان وقطعنا دون رجعة مع التطرّف والرجعية والهمجية.. وأصبح الإعلام هادفا وانتهى عهد إعلام العار كما انتهى عهد تكميم الأفواه وشراء الذمم والعياذ بالله.. كل عصاة الدولة المدنية أعلنوا توبتهم وانخرطوا في الفعل انخراطا جامحا.. ولكم أن تتخيلوا شكل الحياة كيف أصبح.. باختصار أصبحنا شعبا سعيدا..

المشاركة في هذا المقال