Print this page

قهوة الأحد: في تاريخ النظام الدولي وأزماته

تعود بذور النظام العالمي حتى ولو أن فكرة أو مفهوم multilatération (لم يظهر إلا حديثا) الى التحولات الكبرى التي عرفها

العالم مع ظهور الأنوار والثورات التي عرفتها أوروبا منذ القرن الثامن عشر - وقد كان الفيلسوف البريطاني طوماس هوبز (Thomas Hobbes) أول من أكد في كتاباته ومؤلفه (Leviathan) على إهمية بناء علاقات بين الدول أساسها السلم العالمية وترتكز على مبدإ التشاور وعلوية القانون.

وستعرف هذه النظرة والرؤيا للعلاقات الدولية تطورا مهما مع فلسفة الأنوار والحداثة التي ستؤسس للعالم الحديث على نقط في مستوى تنظيم السلطة السياسية داخل الدول بل كذلك في ضبط الأسس الجديدة للعلاقات بين الدول والخروج من هيمنة قانون الغاب وهيمنة منطق الطبيعة، ولعل أهم مرجع لهذه الرؤيا الجديدة والتصور الجديد للعلاقات بين الدول المبنية على المساهمة الجماعية في حماية السلم العالمية هو كتاب الفيلسوف الألماني كانط (Kant) بعنوان «Projet de paix perpétuelle» أو «مشروع سلم دائمة».

وستعطي هذه الرؤيا الفلسفية والسياسية نقطة الإنطلاق لبروز نظام عالمي جديد وستبدأ أولى المؤسسات الدولية في الظهور منذ النصف الثاني للقرن التاسع، وستصاحب المؤسسات الدولية الخطوات الأولى للعولمة حيث ستبرز بعض المؤسسات المهنية كالمنظمة العالمية للتلغراف سنة 1865 والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية سنة 1878، ومنذ ذلك الوقت ستعرف المؤسسات العالمية تطورا كبيرا ليمر عددها الجملي من قرابة 37 مؤسسة سنة 1909 الى ما يقارب 300 مؤسسة اليوم.

وقد تميز هذا التطور الكبير خلال القرن العشرين بأربع خاصيات كبرى. الخاصية الأولى هي تواصل تكوين المنظمات العالمية المهنية والتي أصبحت تشمل كل المجالات والتي تهدف الى تنظيم المقاييس والمعايير الدولية في شتى المجالات لتسهيل عملية التعاون بين الدول في شتى المجالات كالطيران والمحاسبة والأنظمة الديوانية وغيرها.

الخاصية الثانية هي ظهور المنظمات السياسية والتي ستهتم بقضايا السلم العالمية والأمن الجماعي ويعتبر بروز هذه المنظمات تطورا كبيرا في مفهوم السلم والذي اعتبره القانون الدولي من صلوحيات الدول لتصبح المحافظة عليه من مشمولات المنظمات الدولية، ولعل من أهم المنظمات في هذا المجال هي عُصبة الأمم التي وقع بعثها إثر الحرب العالمية الأولى،

وفشل هذه المنظمة في درء خطر الحرب العالمية الثانية لن يمنع الدول من إعادة التجربة من جديد وتكوين منظمة الأمم المتحدة مباشرة إثر الحرب العالمية الثانية والتي ستواصل العمل على الحفاظ على السلم العالمية والأمن الجماعي.
وفي هذا المجال السياسي ظهرت كذلك العديد من المنظمات العالمية في مجالات مختلفة من ضمنها حقوق الإنسان.

كما تميز تطور النظام العالمي في هذه الفترة الذهبية بخاصية ثالثة تهم دخول المجال الاقتصادي للمحافظة على استقرار النظام الاقتصادي العالمي والموجة الثانية للعولمة، فمباشرة إثر الحرب العالمية الثانية قامت البلدان، المنتصرة في الحرب ببناء نظام بريتون وودز وتأسيس صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ثم ظهرت مؤسسات عديدة في مجالات اقتصادية مختلفة منها التجارة والصناعة والفلاحة وغيرها.

أما الخاصية الرابعة لتطور النظام العالمي فتخص بداية التوجهات الاقليمية وظهور بعض منظمات التعاون الاقليمي في عديد الجهات، إلا أن هذا التوجه سيبقى محدودا وجنينيا الى حدّ بداية أزمة النظام العالمي وتصاعد صعوبات وتحديات العولمة حيث ستتجه الدول الى بعث مؤسسات وأطر للتعاون الاقليمي لمجابهة هذه الأزمات المتعددة.
عرف النظام العالمي تطورا كبيرا في القرن العشرين مع ظهور عديد المنظمات الدولية والتي ساهمت إثر الحرب العالمية الثانية في الحفاظ على السلم العالمية والأمن الجماعي، كما ساهمت هذه المنظمات في دعم التعاون الاقتصادي العالمي بين الدول.

إلا أن هذا النظام العالمي المتعدد الأطراف بدأ يعرف الكثير من الصعوبات والأزمات، وأصبح عاجزا في السنوات الأخيرة على ايقاف الحروب ودرء المخاطر وحماية الاقتصاد العالمي.
وقد جاءت أزمة الكورونا لتثبت دخول النظام العالمي في أزمة وشلل عميقين ليؤكدا ضرورة الخروج من هذا النظام وبناء نظام جديد.

• في أسباب أزمة النظام العالمي:
لقد أثبتت الأزمة وهن وعجز النظام الدولي المتعدد الأطراف وعدم قدرة المؤسسات الدولية على ضبط استراتيجية عالمية قادرة على إيقاف تفشي هذا الفيروس ودرء خطره على الانسانية، ففي أول أزمة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية بهذا الحجم وتهدد الانسانية فشل النظام العالمي فشلا ذريعا ليؤكد أزمته العميقة وضرورة إعادة بث دماء جديدة فيه.
وفي رأيي فإن أزمة النظام العالمي تعود الى أربعة أسباب أساسية: السبب الأول يهم في رأيي انخرام الأسس التي قام عليها النظام العالمي منذ عقود طويلة والتي جسدتها الأمم المتحدة في مواثيقها وقوانينها إثر الحرب العالمية الثانية، فقد هيمن فهم ضيق لمهام المنظمة الأممية وحدود السلم والأمن اللذين تعهدت بالحفاظ عليهما والتي يعتبرها تقتصر على الحروب والصراعات المسلحة، لم تأخذ هذه النظرة بعين الاعتبار المخاطر الجديدة التي بدأت تقض مضاجع العالم ومن ضمنها الجوائح الصحية وحتى التحديات المناخية.

وهذه المسألة تطرح قضية أساسية وهي تعدد الرؤى والثقافات على المستوى العالمي مما خلق صعوبات وتحديات كبرى من أجل ضبط أسس فلسفية المبادئ والقيم المشتركة، فلئن تم تشييد النظام العالمي على أساس المبادئ الكونية لحقوق الفرد والحريات الليبيرالية فإن عالم اليوم يتميز بتعدد الثقافات وبالتالي مهد الباب لظهور تنوع فكري لعالم ما بعد هيمنة الغرب.
وقد طرح هذا الاطار الفلسفي والفكري العالمي التعددي والمتنوع التساؤلات والتحديات من أجل بناء توليفة فكرية وفلسفية جديدة تشكل أساس العمل الجماعي والتعاون بين مختلف الدول في إطار النظام العالمي.

أما السبب الثاني لهذه الأزمة فهو سياسي ويعود في رأيي إلى صعود الشعبوية في الكثير من البلدان الديمقراطية، وستكون لهذه القوى تأثيرات لا فقط على المستوى الداخلي من خلال رفض النخب والعمل على تخوينها بل كذلك على المستوى الخارجي حيث ستنادي بضرورة إعطاء الأولوية للمسائل الداخلية والابتعاد عن النظام العالمي. لقد لقيت هذه الدعوات للانكفاء على الداخل آذانا صاغية في الدول العظمى والتي كانت لاعبا أساسيا في النظام العالمي. ولعل أهم مثال على ذلك هو موقف الإدارة الأمريكية تحت رئاسة دونالد ترامب والذي كسب الانتخابات على قاعدة شعار «أمريكا أو لا» (America First).

ومنذ وصوله الى سدة الرئاسة أخذت الادارة موقفا راديكاليا ومناهضا للعديد من المؤسسات الدولية ومن ضمنها الأمم المتحدة ومنظمة التجارة الدولية وآخرها منظمة الصحة العالمية حيث قررت الولايت المتحدة الأمريكية ايقاف مساهماتها بالرغم من أهمية الجائحة وحجم الأزمة الصحية التي يمر بها العالم.
وفي مقابل تراجع الدول الكبرى يشهد العالم المتعدد هجوما من قبل عديد القوى الأخرى ومن ضمنها الصين والتي تحاول من خلال ديبلوماسية نشيطة السيطرة على عديد المؤسسات.

وقد خلق هذا التنافس في مختلف أطراف ومؤسسات النظام العالمي جوا سياسيا مشحونا لم يسمح ببناء مواقف سياسية توافقية وتجميع المنظومة الدولية على مواقف موحدة.

يرجع السبب الثالث لهذه الأزمة الخانقة التي تهدد النظام الدولي الى المسألة الديمقراطية وضعف تمثيلية الدول النامية في أغلب المؤسسات الدولية. وهذه المسألة ليست بالجديدة بل كانت في جوهر النقد الذي وجهته العديد من البلدان للنظام الدولي خاصة بعد استقلال الدول المستعمرة وبروزها على الساحة الدولية. وقد طالبت هذه الدول بتمكينها من مكانة أكبر لابلاغ صوتها والدفاع عن مصالحها. ولعل من أبرز المؤسسات التي نالت الكثير من النقد نذكر مجلس الأمن وكذلك مؤسسات «بريتون وودز» أي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.

الا أنه وبالرغم من هذا النقد والمطالب المتعددة لإصلاح النظام العالمي واعطائه أكثر تمثيلية من طرف الدول النامية بقيت المؤسسات الدولية محافظة على نفس المبادئ والتركيبة الموروثة من الحرب العالمية الثانية، وكان لهذا الجمود انعكاس سلبي على مشروعية النظام العالمي وعلى نظرة الشعوب إليه.
المسألة الرابعة التي لعبت دورا مهما في ضعف النظام الدولي فعالية المنظمات الدولية وقدرتها على التأثير والتغيير من أجل تحسين الأوضاع الدولية. فقد أصابت أمراض البيروقراطية على المستوى الوطني المؤسسات الدولية لتصبح بدورها محدودة الفعالية وتعوزها القدرة على التغيير.
لقد ساهمت جملة هذه الأسباب في الوهن والضعف والأزمة التي يمر بها النظام العالمي وغياب قدرته على الفعل بصفة كبيرة لايقاف الخطر الجاثم على صدورنا.

• النظام العالمي بعد الجائحة:
لقد أثبتت هذه الجائحة حاجتنا الأكيدة والمتجددة لنظام عالمي قادر على مجابهة المخاطر الكبرى التي تواجه الانسانية، وهذه الحالة لا بد أن تدفعنا الى العمل بسرعة من أجل استنباط نظام دولي جديد قادر على الوقوف الى جانب الدول من أجل درء المخاطر الكبرى.
وفي رأيي فإن إعادة بناء النظام العالمي الجديد لا بد له أن يعيد التفكير في الأسس والرسالة الأساسية للنظام العالمي ومبادئه.

أما من ناحية الأسس فإننا نعتقد أن النظام العالمي الجديد لا بد أن يضع نصب عينه حماية الانسانية من المخاطر الكبرى وبناء الأسس لنمو وتعاون دولي وتضامن أممي بين الشعوب. وهذه النظرية الجديدة تتطلب الخروج من النظرة السائدة السابقة وفتح مجال تدخل النظام العالمي الى القضايا الكبرى الى جانب السلم والأمن كالصحة والتغذية والمناخ والتعليم.
كما أن كملية إصلاح النظام العالمي لابد لها كذلك أن تحدد مقاييس جديدة تعتمد الديمقراطية والتعدد والانفتاح على الآخر والفعالية والكفاءة.

لقد طرحت هذه الجائحة والأزمة الصحية تحديا كبيرا على الحضارة الانسانية لم تعرف له مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، وهذا التحدي يتطلب أكثر من أي وقت مضى إعادة بناء النظام العالمي على قاعدة التعاون والتضامن بين الشعوب.

المشاركة في هذا المقال