Print this page

منبـــــر: سلافوي جيجك اليوم حظر وغدا نظر(2)

بقلم: ماهر حنين
لا يطيل جيجك الحديث كثيرا في اعلان قبوله بدور الدّولة الآني في المراقبة والمعاقبة ذلك هو دورها الحيني بلا مفرّ , فمن غير المقبول فلسفيا و أخلاقيا

التهاون في تطبيق إجراءات الوقاية الطبية و الامتثال لواجب التباعد الاجتماعي كخير أسمي بحجّة نقد سلطوية الدّولة الحديثة . ليس هناك سبيل للمقاومة اللّزجة للوباء لا بحجّة الخصوصية الأنتروبولوجية ولا نفورا أبديا عنيدا من كلّ ما هو كوني ولا تمسّكا بعائدات اقتصادية (موضوع المقال الأول).
نفهم الآن ونحن وحدنا مزايا الدّولة ونفهم أن الإدراك الحسّي لأجسادنا الفردية هو الذي يجعلنا ندرك أنها لا تختلف عن جسد أي كان بل و نكتشف أن مجرد لمس الأجساد لبعضها البعض أو حتي لمسها للأشياء ينقل بينها بموجب حتمية البيولوجيا المشتركة الوباء الخفي , تعوّدت البشرية في مجتمعات تراتبية تعطيل تواصل الذّوات مع الاخرين وغيّبت جسور اللغة والرموز والمصالح ممكنات الحبّ بين الأفراد والشعوب . لكن عقب أشيل في كلّ واحد منا اليوم يوّحدنا ويفضح هشاشتنا .
ما يهم ّالفيلسوف السلوفيني في عمق التحليل هو ما يسميه العدوي الحميدة الممكنة بعد هذه المحنة وهي عدوي أيديولوجية جيّدة بحسب تعبيره مضادة لروح الرأسمالية الجديدة قوامها مثلا الايمان المشترك و الكوني بالحاجة الي نظام رعاية صحّة عالمي , لا أحد يملك القدرة علي مغادرة العالم حيا للفرار من مرض قد يصيبه عاجلا أم آجلا اذا ما أصاب أي كائن بشري بل ربما أي كائن حي ذلك هو لغز الطبيعة وهو أكبر الألغاز الي جعلت عديد الفلاسفة لا يتخلون عن اليقين الكلي لكينونة العالم أي فكرة الايمان بأن الذات الإنسانية بقدر ما هي ذات في العالم هي كذلك موضوع في قلب هذا العالم .
مهمة الفيلسوف صارت تتعدي البحث عن استقلالية الذات بل الإقرار بأن العالم كائن آحادي لا مثيل له في المرآة فالعالم لا يقارن الا بذاته ولا بشيء آخر . قد نقيم داخله بأشكال مختلفة ولكنه هو «هو». من بين من يهدد فرضية الاشتراك في عالم واحد لفرض تعدد العوالم وبناء الجدران بينها وتبرير تفاوت الحقوق للإقامة فيها هي الرأسمالية الجديدة . لأجل ذلك يعي جيجك جملة المخاطر المحتملة بعد مرور ذروة الأزمة وزوال ضيق الأفق الذي سببه الفيروس الشبح للبشرية كلها و جعلها تتلقف أنفاسها . أولها احتمال أن تصبح صورة المدن المغلقة و ضرورات العزلة بين البشر هي شكل الحياة القادمة وبالتالي حرمان المجتمعات البشرية من قدرة التواصل في الحيز العام و التداول في شروط حكومة محلية او عالمية ديمقراطية قدر المستطاع ثانيها هي عودة الثقة في الحاجة الى مزيد من الأنظمة الفاشية و'' «الشّعبوية اليمينية» لأننا لم نعد نطلب الآن وهنا أكثر من حفظ البقاء حتي وان ضمنه تنين حديث بالمعني الهوبزي هو الدّولة.
التفكير الذي يقترحه يعيد لمهمة فهم ما يجري حولنا مكانتها المركزية في كلّ مشروع سياسي وهو في هذا السياق تفكير منخرط في فهم ما انتجته الرأسمالية المعولمة كثقافة و كنمط عيش جديدين ليلّخصه في أربعة محاور :
أولا توسع مجال الملكية الفردية ليشمل مجالات المعرفة والعلم والفكر حيث لم تعد مثل هذه المنتجات متاحة للجميع بل تحتكر من قبل رأس المال وتوظف في مجالات مراكمته في عدةّ قطاعات لا فقط تكنولوجيا الاتصال بل كذلك البحوث حول التعديل الجيني المتدخل في مجال الفلاحة وصناعة الأدوية والطاقات البديلة تحوّل إلى حيز التملّك الفردي فرغم عدم خضوع هذا الإنتاج الفكري لمنطق الندرة فانه يحتكر ولا يتقاسم .
ثانيا الرقابة التي تمارسها تكنولوجيا الاتصالات على حياتنا الخاصة وعلى سلوكنا صارت جزءا من همينة رأس المال فنحن نتحدثّ اليوم عن رأسمالية الرّقابة و خزن المعطيات الشخصية و التحكم فيها لأغراض شتي
ثالثا الكارثة البيئية المتأتيّة من غلبة منطق النمّو والتّصنيع واستخدام الطّاقات الأحفورية على حساب مدّخرات الأرض والتوازن الأيكولوجي ومن ثمةّ تجاهل الكوارث المحتملة وحقوق الأجيال القادمة .
رابعا الجدران الإسمنتية والالكترونية واللامرئية التي تبني بين الدول والشعوب والجماعات البشرية في كل قارات العالم لمنع لقاء الإنسان بالإنسان واستحالة قيام مجتمع السلّم العالمي وجسور التضامن الأممي .
تلك هي ملامح العالم الذي نعيش فيه كلّنا ولا ننعم فيه بموجب العقيدة الليبرالية بنفس الحقوق فكيف لنا ان نفكر غدا في عالم أفضل بعد أن يهدأ الفيروس وقبل أن نصطدم بوضعية قصوي قادمة؟
ما يكتبه سلافوي هذه الأيام يؤكّد دور وباء كورونا في وصولنا الى ادراك لا حدود عولمة السوق فحسب، بل أيضًا الحدود الأكثر فتكًا للشعبويات القومية التي تصر على سيادة الدولة علي اقليمها كما لو كانت خارج العالم أو فوقه كما يعتقد ترامب لقد انتهى الأمر مع شعار «أمريكا (أو أي شخص) أولاً» ما دام لا يمكن إنقاذ أمريكا نفسها إلا من خلال التنسيق والتعاون العالمي.
أنا لست طوباويا يقول هذا المفكر المثير للجدل، الا إن الأزمة الحالية تبين بوضوح , أن التضامن والتعاون العالمي لبقاء الجميع وبقاء كل واحد منا هو الشيء العقلاني الوحيد الذي يتوجب علينا القيام به. ولا يقتصر الأمر على الفيروس فالتغيرات المناخية تقتل عددًا أكبر بكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، بل أكثر من فيروس كورونا، ولكن لا يوجد أي رعب بشأن ذلك.
من وجهة نظر حيوية بدائية، يميل البعض إلى رؤية الفيروس على أنه عدوى نافعة تسمح للبشرية بالتخلص من العجزة والضعاف والمرضى، مثل التخلص من الأعشاب نصف الضارة، وبالتالي يسهم في الصحة العالمية مثل هذه الفظاعة المعلنة و المكتومة تحثنا لابتكار «نهج شيوعي» بتعبير جيجك لا بالمعني التقليدي بل بمعني الواسع و المشترك للتخلص فعلا من مثل هذا الموقف الحيوي البدائي .
هكذا يضعنا الموقف النقدي الذي يقترحه جيججك أمام مسارين للتفكير و الفعل بالمعني السياسي
المسار الأول اذن هو التفكير في دور الدّولة, هذه الأخيرة تستعيد ماهيتها الوطنية بعد ان اكتشفت الشعوب زيف ما وعدت به العولمة بنهاية عصر الدولة الحامية للوطن وللسوق الداخلية وللإنسان من المهد الي اللحد ليصبح التحدي الأكبر بل المهمة السياسية الاولي لكل رؤية برنامجية لكل يسار جديد هي جعل الديمقراطية تؤثر بالإيجاب في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العمومية وجعل الدّولة تنفق على هذه الخدمات لتجعلها متاحة للجميع بعدل وتساوي.
ليصبح تغيير السياسات العمومية عمل مضني ولا يجدث دفعة واحدة لأنه موضوع صراع يتعدّى حقل الأفكار و الآراء ليتخذ وجه صراع طبقي واجتماعي لا يتخلى فيه المستفيدون عن منافعهم عن طيب خاطر حتي وان ظهرت علي ملامحهم من حين لآخر علامات الشفقة و التضامن والشّك ولا يحقق فيه المستضعفون مقاصدهم بالتمني بل بخوض المعارك السياسية صغيرها وكبيرها.
ما يحتاجه الفقراء و بسطاء الناس هي حقوق تضمنها السلطة العمومية الأعلي أي الدولة فقصف الدّولة من خارجها لم يعد كافيا ومجديا لقوي التغيير الاجتماعي لقد صار البحث من داخل ممراتها المسقوفة عن خطط جديدة وهو الأكثر جدوي في نظري والمهم ان نؤمن بأن الدولة المقصودة هنا ليس أداة تنظيم المجتمع قانونيا ومدنيا من فوق بل أداة خدمته دون حيف
المسار الثاني هو الاهتداء الي رابطة إنسانية جديدة او دستور كوني جديد يحدّ من وحشية رأس المال ويقطع مع مثلث الوهم الذي روّجت له الليبرالية ( النمو الاقتصادي يؤدي الي تقليل الفقر و الي توزيع عادل للدخل ) فالنمو يتحقق في قطاعات عدة بالريع ودون الحاجة للعمل وقوة العمل الرّخيصة تفقد أدوات نضالها السياسي و النقابي في عديد دول العالم و الثورة تتكدس في ايدي أقلية و الأرض قد تكون غير قابلة للحياة بعد أقل من قرن ان استمر الانسان في العيش فيها بأنانية ودون اصغاء لأنينها.
مع جيجك ليس هناك أمل كبير أن يدرك الناس يوم الاقتراع ما ذا يريدون وان تسمح القوانين الانتخابية و كلبية صنف من الخبراء في شق طريق ممكن للخلاص ولكن لا خيار لنا غير ان نستمر في جعل التغيير الاجتماعي بوصلة لشدّ الهمم علينا ان نستغل كلّ آليات الإنذار المبكر التي تسمح بها الديمقراطية وان نمشي معا.
يتبع

المشاركة في هذا المقال