Print this page

منبر: بَلَادْ البَّرْ وبَلَادْ البحَّرْ

على قائمة العشر بلدان الأولى عالميا في الانتاج الاقتصادي هناك بلدان فقط، عاصمتاهما على البحر، هما اليابان وأندونيسيا والبقية عواصمهم برّية،

إنه لم يكن محكوما، لا قديما ولا حديثا، على عواصم البلدان وكبريات مدنها أن تكون على البحر. لدينا كانت قسنطينة عاصمة الملك الأمازيغي ماسينيسا والقيروان عاصمة الدولة الإسلامية الأولى، بالرغم من أن المبادلات الخارجية كانت موجودة، لكن تسخر لها موانئ تربطها بشبكة طرقات أو قنالات أو أودية كبرى حسب معطيات كل بلد، توصلها للمدن الداخلية. كما أن جزءا هاما من المبادلات كان انطلاقا من البر في اتجاه البر وليس بالضرورة مرورا بالبحار، كما كان الشأن طويلا في خصوص المبادلات عبر الصحراء، مما آل بمنطقة الجريد عندنا أن تكون، مثل حلق الوادي ورادس اليوم، من أهم مداخل التجارة الخارجية للبلاد التونسية. وقبل أن يستفحل أمر المبادلات الخارجية العابرة للقارات حتى تصبح أحيانا هي الطاغية في اقتصاديات الأمم، كانت العلاقة بين بلاد البر وبلاد البحر مبنية على التكامل، بل الوزن الغالب كان لبلاد البر، نظرا لوزن الفلاحة التي كانت تشغل أكثر من أربعة أخماس المواطنين وتقدم ثلثي الدخل القومي. أي أن كثافة النشاط الاقتصادي بالشريط الساحلي لدينا مقابل الفراغ داخل البلاد، الذي يبدو وكأنه من البديهيات، غير بديهي تماما، وإنما نتيجة مسار خصوصي. وللتذكير التاريخي، عندما دخلت الجيوش الاسلامية الغازية لإفريقية أيام الفتوحات الأولى، دارت المعارك، عن الجهة التونسية بقيادة القائد البيزنطي حاكم البلاد آنذاك، انطلاقا من منطقة سبيطلة، لأنه كان مقيما هناك. أي أن جهة القصرين، المنطقة التي يدخل لنا منها اليوم الإرهاب المرابط بجبالها، كانت في السابق «المنطقة العاصمة»، موقع إقامة الحاكم البيزنطي. كما كانت حيدرة، الواقعة بنفس المنطقة، في العهد الروماني، إحدى أكبر القواعد العسكرية لحماية أفريقية من الهجومات الغربية.
وقد أردنا من خلال الرسم أن نبرز الموقع المميز للقصرين كأقرب موقع من كل العواصم الجهوية للمناطق التونسية، وكيف كان بالإمكان أن تكون منطقة القصرين مركزا لوجستيا مرموقا، يقبل كل سلع المبادلات الآتية من كل مناطق التراب التونسي قبل إعادة توزيعها، بما فيه الربط مع الجارة الجزائر عن طريق تبسة. وتبرز عقلانية التموقع الترابي للقصرين بالنسبة لباقي البلاد من خلال المحاور الكبرى وما تعنيه من طاقة لديها على ربط مختلف المدن، حيث يشمل محور اتجاه صفاقس مدينة سيدي بوزيد، وفي اتجاه سوسة والساحل يشمل المحور المعني القيروان، وفي اتجاه تونس يشمل المحور المقصود سليانة، وفي اتجاه طبرقة يشمل محور المبادلات الكاف وجندوبة، وفي اتجاه قفصة ينفتح المحور الأصلي على محورين فرعيين، ينطلقان من قفصة، واحد يشمل توزر والثاني قابس، ثم، انطلاقا من قابس، يتم تواصل أول مع مدنين التي تستقطب كامل باقي الجنوب الشرقي ومرور ثاني بقبلي للربط مع توزر.
ومأساتنا في خصوص التهيئة العمرانية والتنمية الجهوية أننا بقينا أسيري خيارات تاريخية كان لها قديما ما يبررها، ولم نقم بأي تحديث خدمة للسياقات التاريخية الجديدة، واكتفينا بالترقيع الممل واستندنا للتهميش كركيزة للتنمية نتيجة العقم الفكري والركاكة الذهنية، منها مثلا أن فلسفتنا في خصوص «شبكة الطرقات السيارة» تتمثل في مجرد «خط حبلي» يدخل من أقصى شمال غرب البلاد ليخرج من أقصى جنوب شرقها، لا يتشابك مع أي شيء آخر حتى مع نفسه، تصوره مبني على «العبور السريع»، لربط العواصم المغاربية فيما بينها، دون ربطها بدورها بالمدن الكبرى الأخرى بمختلف المناطق الساحلية والداخلية، حتى تكون «الشبكة المغاربية تتويجا لربط الشبكات الوطنية فيما بينها».
بالطبع تصور القصرين مركزا لوجستيا بمستوى دولي يتطلب حضور الصناعة الراقية والتجارة المتطورة وأجهزة التمويل العصرية وشبكات الاتصال المرقمن وما يتبع ذلك من خدمات السياحة والتربية والتعليم العالي والتكنولوجي والتكوين والصحة والثقافة والترفيه، كل ذلك بين أحضان أجمل الغابات الجبلية وعيون الماء العذبة وفي حضور أعرق الثقافات الجهوية بتراثها الغني ومواقعها الأثرية التاريخية الشاهدة على عصر انقضى لا محالة لكن يمكن أن يعود.
وهنا مربط الأحمرة انطلاقا مما سيثيره ذلك من شديد الاستغراب بالسؤال: كيف؟ القصرين؟ ثم ماذا؟ هل بنسبة نتيجة 11 % في البكالوريا طبعا مع تحاشي التساؤل حول تلك النسب هل هي نتيجة أم سبب؟
لما كان الجميع ينتظر أن تأتي الثورة التكنولوجية التي هزت العالم ولم تقعده من شرق شمال الولايات المتحدة المتمدن والمتطور والمثقف والمتحضر، صارت المباغتة فجاءت من البقعة المقابلة لها كليا، أي من جنوب غربها، مسفهة كثيرا من التوقعات المبحرة في علوم التوقع، ولكن هل على مجرد استخلاص البعض اليسير من الدروس هم قادرون؟

المشاركة في هذا المقال