Print this page

منـــبر: حتى لا تلتهمنا الانتخابات: رسالة إلى المنتخبين والمنتخبات الجدد

بقلم: الأستاذ عبد الباسط بن حسن
متى ستخرج تونس من الزمن السياسي الانتخابي لتدخل زمن الإجابة عن أسئلة تاريخ الانتقال ومتطلبات الواقع ؟

لقد نجحت تونس في تنظيم استحقاقات انتخابية عديدة في السنوات الأخيرة ووضعت بدايات أسس التداول السلمي على السلطة. كما تبلورت قواعد التنافس بين الأحزاب الوليدة ونجاح بعضها و«معاقبة» البعض الآخر بالصندوق وأصبحت لدى المواطنين والمواطنات بدايات ثقافة المشاركة السياسية.

ولكن كل هذه التطورات المدنية الكبرى لم تعد تكفي فبين كل مناسبة انتخابية وأخرى تتعاظم الهوة بين عالم السياسة الحزبية وعالم سياسة البناء الفعلي للانتقال الديمقراطي بما يعنيه من مؤسسات دستورية وإصلاحات كبرى واقتصاد منتعش وعدالة ناجزة ومجتمع دامج.

إن زمن سياسة الانتخابات وممارسة السلطة يكاد يلتهم الزمن الأشمل وهو زمن الناس ولذلك بقيت قضايا حارقة وأساسية مهمشة مثل تركيز المنظومة الديمقراطية ومحاربة الفساد وإصلاح التعليم والصحة والنقل وحل مشاكل مؤرقة مثل تدهور الطاقة الشرائية والبطالة والتلوّث البيئي.

إن الابتعاد عن الاجابة عن أسئلة الزمن الحقيقي لتونس والإغراق في مشاكل السلطة قد أحدث هوة بين النخب السياسية والمجتمع وعمق مشاعر اليأس والإحباط.

كما ان هذا الانفصام بين الزمنين قد حول السياسة إلى إدارة متواصلة للأزمات بدل حلها وصياغة وتنفيذ سياسات تقوم على خدمة الصالح العام.

هذا الإشكالية هي التي أنتجت وضعا مأساويا تظهر فيه من حين لآخر حوادث جسام تعصف بالمجتمع ثم تعود لتختفي فكأننا من فرط تجاهلنا للقضايا الحقيقية للمجتمع صنعنا آلة للإنتاج المتواصل للأزمات التي تستهلك إعلاميا ثم تختفي دون حلول.

إن مآسي كبرى أثارت المجتمع مثل قضية أطفال الرقاب وموت الرضع وحوادث موت العاملات الفقيرات والجرائم العنيفة والكوارث الطبيعية وانقطاع الأدوية وغيرها كثير. وهذه ليست ظواهر شاذة بل هي علامات على إشكاليات أعمق استوطنت جوهر المجتمع وأصبحت أسئلة مفزعة تطرح على منظوماتنا القيمية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.

إنها لحظة مأساوية فارقة تطلع من أعماق فشل بناء دولة القانون وإصلاح المؤسسات وتردي الاهتمام بالصالح العام والحوكمة واستشراء الفساد وعدم الاهتمام جديا بجودة التعليم والخدمات الصحية والنقل والبيئة والسكن والبنية التحتية ...

إنه تحول مخيف إلى زمن لامبالاة ترزح فيه الطبقات الاجتماعية المتوسطة والضعيفة الهشة والفقيرة تحت أوزار تدهور جودة الحياة ولا مبالاة السياسات العمومية وضعف أداء الدولة وارتباكها تحت وقع أنماط سياسية واجتماعية واقتصادية موازية تتغذى من استدامة الأزمات. إن منظومة اللامبالاة المسيطرة اليوم خطيرة بشكل غير مسبوق إذ تفكك الروابط الاجتماعية وتضعف كل أشكال الرعاية والتضامن وتهدد فكرة الدولة وتحولها إلى «كائن» لا تاريخي عاجز عن الاهتمام بالمواطن . كما تدفع كل إنسان إلى البحث عن خلاصه الفردي خارج إطار العقد الاجتماعي فتتعاظم مظاهر المطلبية الفئوية والمصالح الأنانية والبحث عن الهروب من البلاد بجميع الأشكال والتعبير عن الاحتجاج بردود الفعل اليائسة والعنف المدمر للذات وللآخرين.

وقد بدأت منظومة اللامبالاة في التأسيس لثقافة تسندها وتمنع مواجهتها وتفكيك عناصرها. ولعل أهم علامات هذه الثقافة الإفلات من المحاسبة والعقاب وتغلغل المنظومات الموازية في مختلف مجالات الحياة وإعلاء خطاب وممارسات انتهاك سلطة الدولة واستبدال قيم الحوار والتفاوض بثقافة الشخصي والاجتماعي القائمة على الكراهية والتعصّب والشتيمة والوصم.

هذه الثقافة التي تبرر منظومة اللامبالاة تجد صدى في جزء من المشهد الاعلامي والافتراضي الاستهلاكي الذي ينتج رموزها وشخصياتها وجمهورها.

ولقد أتت الانتخابات الاخيرة في بعض دروسها برسائل خوف عدد كبير من الناس من السياسة التي تأخذ بلادهم إلى اللامبالاة. فهناك عدد كبير من الذين انتخبوا بكثافة قد عبّروا عن ارهاقهم ورغبتهم في تغيير سياسة تستلب حياتهم وتؤدي بهم إلى البؤس، أما الذين قاطعوا الانتخابات فقد عبروا مرة أخرى عن كرههم وعدم ثقتهم في سياسة لا تغير شيئا من واقعهم.

لقد تحولنا تدريجيا من مرحلة عهود استبداد يخاف فيها الناس من السياسة وممارستها إلى مرحلة انتقال ديمقراطي يكره فيها عدد كبير من الناس السياسة ويعتبرونها جزءا من مشاكل حياتهم لذلك بدأت ظواهر مثل الشعبوية والمغالاة في المواقف والتعصب تستوطن تدريجيا فضاءات السياسة وتأخذ مكانها في برامج بعض الأحزاب والحركات السياسية.

إننا أمام لحظة فارقة في حياة الديمقراطية الوليدة في تونس لحظة تحتاج إلى وقفة جماعية وإلى حوار شامل وجريء حول الوجهة التي يجب أن تذهب فيها بلادنا فنحن لسنا في مرحلة صعوبات ظرفية في المسار الانتقالي بل أمام أسئلة جوهرية لا يمكن أن نتأخر أكثر في طرحها: أي مجتمع نريد ؟

هل هو مجتمع المؤسسات الفاعلة ودولة القانون والتنمية الانسانية المستدامة ومنظومة الحريات، أم هو مجتمع التمييز والفوضى وانتهاك مستقبل الأفراد ومكانة الدولة ؟

هل هو مجتمع يقوم على سياسة الإدارة الصالحة لــ « المدينة » وسياسات مبنية على الكرامة ؟ أم هو مجتمع تمتهن فيه كرامة الإنسان بسياسة المصالح وسياسات تعمّق الفوارق في كل المجالات وتفكك أسس المساواة والعدالة؟

إن الأصوات التي تنادي اليوم بضرورة قيام منظومة جديدة لممارسة الحكم تقوم على الكفاءة والاقتدار الفني والاقتصادي ليست مجانبة للصواب بعد أن أنهكت المقاربات المرتبكة والسياسات الفوضوية جسد المجتمع وخرّبت أسس الاقتصاد ووضعت البلاد على حافة مخاطر جمّة. ولكن مقاربة الكفاءة الإدارية والاقتدار الاقتصادي لا تكفي في هذه المرحلة رغم أهميتها.

إننا في مرحلة تحتاج إلى كفاءة واقتدار ومسؤولية وتضحية من أجل الشأن العام وكل ذلك في اطار رؤيا أشمل للسياسة تقوم على قيم أساسية وتكون أرضية مشتركة للسياسيين والسياسيات والمجتمع المدني والقطاع الخاص. رؤيا قيميّة تمنع منظومة اللامبالاة من أن تزرع جذورها في قلب المجتمع فتصبح الديمقراطية صعبة المنال.

إننا في حاجة إلى سياسة كرامة تعود إلى قيم سعت إليها تونس منذ عقود طويلة وهي الكرامة والحرية والمساوة والعدالة، سياسة تحوّلها كل الطاقات الخلاقة إلى سياسات عمومية تضع الإنسان ومصالحه في قلب كل عملية تغيير وإنجاز. إنها سياسة تقوم كذلك على مجموعة علامات طريق ومبادئ وهي:

• أولا: «سياسة أمان»: سياسة تُشعر من خلال إصلاحات كبرى لمختلف جوانب الحياة كل فرد بأنه ينتمي إلى وطن يهتم به وبمستقبله. سياسة أمان تسهر على وضعها كل القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتصبح أرضيّة وطنية مشتركة وتضع سياسة الأمان أولوياتها اعتمادا على أكثر الأشياء إثارة لقلق النّاس وشعورهم بالوحشة والخوف مثل قضايا المقدرة الشرائية والتعليم والصحة والسكن اللائق والموارد والبيئة. سياسة الأمان يجب أن تصاغ جماعيا وتصبح أداة تستخرج منها كل السياسات على مدى متوسط وبعيد.

• ثانيا: سياسة المدنيّة: وتتمثل في تفعيل خطاب المواطنة والمحاسبة الاجتماعية من خلال احترام ثقافة المدنية وممارستها منذ الطّفولة وحماية الفضاء المدني بدعم حرية الرأي والتعبير والوجدان والدين والضمير وعدم تهديد العمل النّقابي والجمعياتي وضمان استقلاليته عن كل التوجهات الايديولوجية والدينية والمالية والسلطوية.

• ثالثا: سياسة منظومة السلطة العادلة والمستقرّة: وهي مجموعة المبادئ والتشريعات والمؤسسات التي تضمنان استقرارا في ممارسة السلطة وتناسقا وحوكمة تضمن شعور الانسان بقيمة الدولة ومؤسساتها ويشعر كذلك من خلالها بقيمة المواطنة، إنها السلطة توضّح توزيع الأدوار على مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين وتضمن نهاية رغبات الاستبداد والتسلّط وتتيح لكل المواطنين والمواطنات ممارسة الحقوق والحريات والواجبات التي يضمنها الدستور والمواثيق الدولية.

• رابعا: سياسة جودة الحياة: هي السياسة التي تعود إلى مرجع أساسي وهو الواقع اليومي للناس فتضع ما يجب من سياسات تضامنية لإدماج الجميع في المجتمع ومواجهة كل مظاهر الإقصاء والتهميش. إنها سياسات الحياة التي تأخذ بعين الاعتبار آلام وأحلام الناس وتعتبرها أساس بناء المجتمع وتحاول أن تبدع حلولا عملية للجمع بين إطلاق مبدإ المبادرة والحفاظ على التوازنات التي تمنع انفراد عدد قليل بالثروة والجاه.

• خامسا: سياسة صيانة الدولة: وهي القيام بكل ما يجب من مبادرات وخطط لتقوية دولة القانون وضمان احترامها بإصلاح الادارة والأمن والقضاء وتحفيز الناس على الشعور بأهمية الرابط الذي تمثله الدولة من خلال الجمع بين الحقوق والمسؤوليات. إن إعادة القيمة لسيادة دولة القانون أولوية مطلقة لمواجهة إمكانات تفتيت المشروع الديمقراطي بعودة شبح الجهويات والفئوية والانفلاتات.

• سادسا: سياسة المعرفة : وهي الاستثمار المطلق في ما يمكن اعتباره أولوية أولويات تونس وهي الثقافة والتربية والتعليم والإبداع إنها الرأسمال الرمزي الأساسي لتونس الذي يتطلب جرأة واختيارا حضاريا بوضع كل الموارد البشرية والمادية في خدمته. فلا إمكانية لبناء مجتمع العدالة والديمقراطية والمساواة دون استثمار في المعرفة بجميع أشكالها.

إنها رسالة في زمن تحديات لا يمكن أن نواصل فيه تجاهل الانسان جريا وراء مصالح واعتبارات لا يمكن أن تبني إلا اللامبالاة والفوضى. إنه الانسان يدعونا مرة أخرى إلى مراجعة تصورنا الحضاري لذاتنا قبل فوات الأوان.

المشاركة في هذا المقال