Print this page

اللغة هي الوطن.. لكن ما يحدث في المغرب الكبير فوضى صادمة

«نعم لدي وطن :اللغة الفرنسية» هذه العبارة الشهيرة لم ينطق بها سوى كاتب ملأت شهرته الآفاق ،وترك بصمات

واضحة في المتن الروائي الفرنسي ،بحكم تضلعه في لغة موليير وتطويعه لها و تمكنه من الصناعة السردية. وبحكم رؤيته الفلسفية العميقة والقلقة ،إنه الكاتب التراجيدي ألبير كامي Albert Camus.

نفس العبارة استعارها منه الكاتب والصحافي جون دانييل عميد الصحافة الفرنسية والمؤسس والمديرالحالي لمجلة «نوفال أوبسرفاتور» عندما حرر افتتاحية في الأسبوع الأخير من شهر أفريل 2015 بعنوان «اللغة وطننا». وأن يختزل دانييل الحكيم والممتلئ فكرا وفلسفة وقيما يسارية الوطن في اللغة .ويجعل هذه الأخيرة رديفا للوجود التاريخي والجغرافي والمادي والرمزي والحضاري والثقافي والبشري لفرنسا ،معناه أن مجد فرنسا وكيانها الوجداني والفكري مدين للغة الفرنسية ،حتى ولو كان الفرنسيون يدركون وهم على حق، أن اللغة الإنجليزية هي لغة مشتركة بين العلماء في جميع أنحاء العالم، والغالبية العظمى من المنشورات والمؤتمرات العلمية تتم بلغة شكسبير‘ بل أكثر من ذلك أصبحت اللغةالإنجليزية لغة السينما والفن والإعلانات والرياضة‘ ويشاهدها الفرنسيون كل يوم على شاشات التلفزيون في عقر دارهم.

بدون شك إن الأنفة والتاريخ والكرامة والهوية ،عناصر تدفع الأمم الحية إلى التشبث بلغاتها والتفاخر بمنجزاتها في شتى مجالات وحقول المعرفة ،واعتقد أن القراء و فئات واسعة من المواطنين المغاربة لهم ما يكفي من الذكاء والغيرة والوطنية والحكمة والروية ليحكموا سلبا آو إيجابا على بعض السلوكات اللغوية الشاذة والمواقف المتطرفة التي تسجل وتنشر في معظم الدول المغاربية ومن بينها المغرب الذي ينص دستوره في الفصل الخامس بكل وضوح على أن العربية والأمازيغية لغتين رسميتين للبلاد .وفي اعتقاد عدد من المهتمين بتدبير الشأن اللغوي في المغرب‘ فإن من يخل بروح الدستور يسعى إلى الفتنة اللغوية وإلى خلق حالة من التشظي والانفصام والاستيلاب ،وتوفير شروط احتقان آو انفجار هوياتي عواقبه لن تكون إلا وخيمة وثقيلة .وهذه المواقف التي تقوض مقتضيات الدستور وتستخف بالاختيارات اللغوية والثقافية للأمة، يحركها في ذلك ،منطق المصالح الذاتية الضيقة، ولها بعد سيكولوجي وثقافي استلابي، ومرتبطة، أحببنا ذلك أم كرهنا، بلوبي متماسك، له مصالح مادية مباشرة ،من خلال الدفاع المستميت عن استعمال العامية في بعض صورها السوقية المنفرة ،التي تتماهى بشكل ممجوج مع كل ماهو فرنكوفوني. وهنا تطرح أسئلة كثيرة من قبيل :أين هي القوانين و أحكام الدستور ؟ أين هي الأحزاب كمؤسسات سياسية يفترض فيها أنها تحمل مشروعات وتصورات، وتنهل من مرجعيات وثوابت فكرية وحضارية ؟ أين هي النخب التي ينبغي أن تكون بمثابة الصوت والضمير الجماعي المتصدي لعوامل المسخ الثقافي والهوياتي؟ أين هو المجتمع المدني الذي يجب أن يلعب دوره في المراقبة والاعتراض ؟ أين هو دور المؤسسات التعليمية خاصة الجامعات؟ أين هي الرسالة التربوية والوطنية للنقابات ؟ .أين هي صلاحيات الحكومات و مؤسسات الحكامة كما هو منصوص عليها في الدستور ؟.

المسخ اللغوي العام أصبح متصدرا للمشهد في الشوارع والفضاءات الحيوية المغاربية .فالإعلانات والملصقات تكتب بلغة منحطة لا هوية لها ،لغة يقولون عنها إنها “العامية “ علما أنها لغة هجينة مسكونة بهاحس الكسب المادي. أليس هناك من يحاسب منتجيها؟ .ثمة صدمة قوية لها ارتدادات واسعة النطاق ،نتعرض لها على مدار اليوم، بسبب غرابة اللغة الإعلانية، والبرامج والمسلسلات والأفلام المصحوبة بترجمة ركيكة، وتعليقات بعيدة كل البعد عن اللغة السليمة. ولا يمكن أن يقبلها عقل سليم، أو منطق مهني يقظ. خلاصة هذا الواقع اللغوي ،أن هناك توجها غير مسبوق إلى تدمير واستئصال العربية النقية والجميلة وإفراغ العامية الراقية من محتواها . ومهندسو هذا الاستئصال الذين يدعون الدفاع عن ”العامية”،هم أصلا لا يتحدثون بها ،فهم يجدون متعة استثنائية ولذة وبهجة و ارتياحا، عندما يتحدثون بالفرنسية ..وحتى لا يفهم من كلامي أنني شوفيني ومتعصب للعربية ،أقول لمن يحملون قنابل موقوتة في أذهانهم واستيهاماتهم الثقافية واللغوية: إن هناك شرائح عريضة تقرأ باللغة الفرنسية أكثر مما تقرا بالعربية ولديها آخر إصدارات دور النشر في باريس وتتابع أغلب النقاشات في القنوات والإذاعات الفرنسية ،وتتجول يوميا بين عدة قنوات ومحطات ،وتشارك بمداخلات باللغة الفرنسية عندما يقتضي الأمر ذلك .وتفتخر بالمكونات اللغوية الوطنية، وتعمل باستمرار على التعمق في فهم الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية وغيرها من اللغات …لكن الكبرياء والتاريخ والكرامة والهوية عناصر تدفع جميع الأمم إلى التشبث بلغتها وتاريخها وحضارتها بعيدا عن المقاربات الشعبوية التبسيطية .

المشكل عندنا في الدول المغاربية ومجمل المنطقة العربية سياسي بامتياز .أي غياب قرار واضح في مجال السياسة اللغوية .ولذلك نشاهد فوضى عارمة تحدث يوميا في العديد من الإذاعات والمواقع والآن في المؤسسات التعليمية .وبدأ عدد لايستهان به من الصحافيين يجنحون إلى اعتماد لغة مسطحة وهجينة ، اعتقادا منهم أنهم يكرسون بذلك مفهوم القرب الإعلامي المفترى عليه، مما يطرح بجدية التفكير في إحداث مؤسسات أو آليات وطنية للوقاية من تشويه اللغة . ألا يشاهد مواطنو الدول المغاربية القنوات العربية ويتواصلون معها ويفهمون أخبارها .ألا يبحرون في المواقع الالكترونية المحررة بعربية في متناول الجميع ؟أتساءل كم من زائر يزور المواقع التي تستعمل اللغة الفرنسية .وما هي الصحف الأكثر مقروئية في المغرب وتونس والجزائر وموريطانيا؟ هل أن النخب الماسكة بزمام القرار السياسي والاقتصادي تتحدث الفرنسية ؟ومع ذلك يدافع جزء من الارستقراطية اللغوية والاجتماعية عن اللغة الفرنسية ويحرص بقدسية استثنائية على استعمالها والتواصل بها. و لتبرير ارتباط مكونات هذه الشريحة الاجتماعية المسكونة بعشق لغة موليير بانشغالات الناس، فإنها لا تكف عن الترافع من أجل عامية غير قادرة علميا على الاستجابة لكثير من المتطلبات البيداغوجية والعلمية والثقافية، علما بأنه يمكن الاستئناس ببعض مفرداتها في الشرح والتبسيط في المرحلة الابتدائية. مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار لكون مختلف الدول المغاربية توجد فيها عاميات تطرح مشكلا بنيويا وعويصا في تحقيق المشترك اللغوي بمعناه الوظيفي والعقلاني والمنتج،.علما أن اللغة ليست كائنا مقدسا ومحنطا «بل تتطور باستمرار في كل المجتمعات» ويمكن أن تخضع إلى اجتهادات واضافات وتعديلات واشتقاقات لكن شريطة أن يتم ذلك من طرف أهل الاختصاص ووفق منهجية علمية.

في حوار أجرته يومية المساء المغربية يوم 7 أكتوبر عام 2015 مع أحمد لمسيح أشهر وألمع شاعر مغربي يكتب بالعامية والفصحى أيضا . يقول هذا لأخير «أستغرب من بعض المثقفين،و بعض الزَّجَّالِين بالخصوص، أنهم تحمَّسُوا لهاته الدعوة الملغومة،والمُلْتَبِسَة،-يقصد التدريس والكتابة بالدارجة- رغم أنني أدافع عن الكتابة بالعامية كحق إبداعي، أعني خارج كل الدعوات التي هي ترويج مغلوط لأفكار مغلوطة. يمكن أن تتم الاستعانة بالدارجة في تفسير بعض الأمور في القسم، وفي الدرس، وهذا يحدث في كل البلدان، ولكن الدرس يبقى عربياً. وأنا أتساءل: لماذا يعود بنا هؤلاء إلى نقاش ودعوات فشلت في الثلاثينيات في مصر ولبنان، فسعيد عقل مثلاً، كشاعر عربي كبير، أفْسَدَتْه السياسة، لأنَّه كان يدعو إلى العامية، وكتَبَ بها. أنا أرتاح حين أجد قامات فكرية، أو إبداعية كبيرة،تعترف بالتنوُّع الثقافي واللغوي، ولا تحصر نفسَها في ادِّعاء يكتفي بلغة دون أخرى». وحسب رأيي هذه هي العقلانية والواقعية اللغوية المفقودة عندنا ،والتي تقوم على الإعتراف المتبادل بين مختلف مكونات النسيج اللغوي الوطني،وليس الإقصاء والتنابذ والاحتقار والقتل الرمزي والشعبوية اللغوية . وهذا الموقف عين العقل والصواب ،لأنه عقلاني ودستوري ووطني يسعى إلى تجنب الفتن والتصدعات الهوياتية والثقافية والاجتماعية.

كم صرخنا ملء حناجرنا، وكم رددنا بكل البراءة والعفوية التي كانت تطبعنا «المغرب لنا لا لغيرنا» و»بلاد العرب أوطاني.. لنا مدنية سلفت سنحييها وإن اندثرت»، وكم تغنينا وعددنا مزايا ومحاسن اللغة العربية، لدرجة حسبنا معها أن تحرير موضوع إنشائي بطريقة سليمة وأنيقة يكفي لوضع التلميذ في مكانة سامية ولن يطاله أي مكروه أو عقاب، ولن تمتد إليه سلطة الأستاذ لتفتك به وبطموحاته. بل أكثر من هذا، كان يمكن لمن يقرض الشعر، أو يتلو خطابا بطريقة جذابة وخالية من الأخطاء، أن يحظى بتعامل خاص لدى مختلف السلط والأوساط.

ليس من المهم التصدي لكل هذه التحديات اللغوية بالأجوبة الضرورية، لكن لا بأس من الإشارة إلى الاختلالات التي أنتجتها الاختيارات التعليمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، التي دافعت عنها النخب الحاكمة منذ عدة عقود، لأنها لمست أن مصلحتها تكمن في مجال لغوي يتداول الفرنسية ويتمسك بقيمها ومحمولاتها، وتبعا لذلك لم تكن هناك سياسة لغوية تعليمية حقيقية قائمة على مخطط محدد الأهداف، الشيء الذي أحدث اعوجاجا وتشوها في المنظومة التربوية، ووجد طلابنا أنفسهم في متاهة لا بداية ولا نهاية لها. .

والأنكى من كل هذا أن التعليم العمومي في دولنا المغاربية بمختلف أسلاكه بدا للذين وجدوا في خيرات الأوطان مصدر إثراء سريع، بمثابة حمل ثقيل على الدولة، لذلك وجب التخلص منه والعمل على خوصصته، مما يعني إنعاش الأمية وتكريس الجهل، ولم لا إنشاء وزارة للتجهيل العمومي؟
ليس صدفة أن تفرنس الحياة في الدول المغاربية في خرق سافر وصارخ لمقتضيات الدساتير الوطنية ، وليس بالأمر الغريب أن ينخرط رجال الأعمال المغاربيون في المناخ الفرنسي، فهم لا يتحدثون ولا يتواصلون في اجتماعاتهم وعلاقاتهم اليومية إلا بالفرنسية. ويجدون صعوبة كبيرة عندما يضطرون للإدلاء بتصريح بالعربية، فإما أنهم يتلكؤون ويتمتمون ببعض الكلمات الممزقة الأوصال والمبعثرة المعنى، أو يرفضون مبدئيا الحديث بالعربية، وليس بالمسألة المثيرة للدهشة أن تلاحظ أن الإعلانات التجارية أو الإشهارية المبثوثة في التلفزيون أو المثبتة فوق جدران البنايات، أو تلك المنتشرة في المواقع الاستراتيجية للمدن الكبرى، مكتوبة أو ناطقة بالفرنسية، وكأنها موجهة إلى الفرنسيين، وهذا ما يعكس سلوكا تجاريا وتواصليا بليدا، لأنه يستغبي المواطن ويحتقره، علما أن هذا المواطن هو المستهدف تجاريا واقتصاديا. وحتى عندما أرادت شركات الإشهار إعمال مقاربة القرب اللغوي، فإنها عمدت إلى استعمال عامية لقيطة وكسيحة ومشوهة أصابت الفضاء اللغوي العمومي بتلوث غير مسبوق، وساندتها في ذلك مجموعة من الإذاعات الخاصة. .

لمَ كل شيء في بلداننا مفرنس؟ فحتى قائمة المشروبات والمأكولات في المقاهي والفنادق والمطاعم تحتكرها الفرنسية ولا تزاحمها لغة أخرى إلا في الحالات النادرة ؟ بصراحة لا أفهم دلالة التمادي في هذا التطرف اللغوي، الذي لا يحترم المواطن ولا الزبون. ولا أعتقد مطلقا أن السياحة ستنجح بهذه الطريقة من التواصل. ولا أجد تفسيرا مقنعا لهذا السؤال .لماذا يشعر أبناء شريحة اجتماعية معينة برغبة في الانفصال عن لغتهم الأصلية ،وعن أوطانهم، بل يحتقرون من يستعمل اللغات الوطنية؟، علما أن فرنسا نفسها تدعم اللغات الأم، حتى لا تخاطب شعوبا تائهة ومغتربة لا انتماء لها أو هوية تفتخر بها..

المشاركة في هذا المقال