Print this page

هل سينتهي الغنوشي بورقيبيا؟ حول الصراع الداخلي في النهضة ومستقبل رئيسها

بقلم: طارق الكحلاوي
باحث وناشط سياسي
كان يوما استثنائيا واحد تداعيات "زلزال" الانتخابات الداخلية لانتخاب قائمات التشريعية للحركة. يوم الاحد 14 جويلية وبمجرد

تسرب المعطيات الاولى لمخرجات اجتماع المكتب التنفيذي المطول لحركة النهضة، الذي استغرق بدون انقطاع أياما عدة منذ الخميس الفارط، والمخصص للمصادقة على القائمات المنتخبة بدأت حالة غليان غير مسبوقة تتضمن على سبيل الذكر لا الحصر تعليقات علنية على صفحات التواصل الاجتماعي لقياديين تاريخيين مثل عبد اللطيف المكي وسمير ديلو تتحدث عن "اختناق الاجواء" وتهدد بالاستقالة و"الاعتزال".

سبق ان تحدثت في مقال سابق نشر في صحيفة "المغرب" قبل شهر (11 جوان) اننا ازاء اجواء غير مسبوقة تاريخيا في "التدافع" الداخلي. كنت اشرت حينها، وذلك كان قبل الجولة الاخيرة في سلسلة الانتخابات الداخلية، ان الاتجاه العام في نتائج الانتخابات الداخلية تحيل بوضوح على خسارة الرموز المحسوبين على "خط الشيخ" الانتخابات لمصلحة رموز "التيار الاصلاحي"، وهو ما تأكد في انتخابات الدورة الاخيرة. وصف البعض ما حصل بـ"الزلزال" رغم ان النتائج لم يتم نشرها، وهو توصيف مناسب، كما ساشرح لاحقا بناء على النتائج بشكل تفصيلي وهو ما يتم لاول مرة في مصدر علني. لكن لم يتوقع احد ان "التدخل الجراحي" لرئيس الحركة سيصل الى العظم، ليضرب ليس فقط الالية الديمقراطية الداخلية التي سوقت اليها النهضة بل ايضا وربما ستؤدي الى ضرب وحدة الحركة.

بعض الناشطين النهضويين استحضروا على صفحات التواصل الاجتماعي حادثة نسبوها للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة عندما قرر قراءة "النتائج بالمقلوب" عندما لم يجد مرشحه المفضل محمد الصياح في نتائج الانتخابات الداخلية للحزب. بمعزل عن صحة الحادثة توصيف راشد الغنوشي ببورقيبة وبمعنى اخر مقارنته بوجه اوتوقراطي كان في صراع وجودي مع النهضة، يبدو انه يلمس الخطوط الحمراء في النقد الداخلي النهضوي لكنه يعكس تغير السياقات ورهانات الصراع الداخلي: فهل سينتهي الغنوشي بورقيبيا؟ ماهي مآلات الصراع الداخلي النهضوي؟ واخيرا كيف ينظر الغنوشي الى مستقبله السياسي، في السلطة او الحركة، او الاثنين معا؟

«زلزال» الانتخابات الداخلية وانفلات زمام الحركة من رئيسها:
تمت بين اخر شهر ماي ومنتصف شهر جوان انتخابات داخلية غير مسبوقة داخل حركة النهضة، ويجب الاقرار انها غير مسبوقة ايضا تونسيا في سياق ديمقراطي: انتخاب اعضاء القائمات التشريعية للحركة من قبل "الناخبين الكبار" اي اعضاء هياكل الحزب (اعضاء المكاتب المحلية والجهوية)، وهو احد تنقيحات المؤتمر العاشر التي سناتي على اهم فصل فيها لاحقا.

تمت الانتخابات في سياق مناكفات داخلية متصاعدة حول مسالتين، الاولى مرشح الرئاسية، والثانية وهي الاهم مؤتمر 2020 ومغادرة او بقاء رئيس الحركة. وتمت ايضا في سياق وضع عام تبدو فيه النهضة متهيئة لانتخابات عامة لن تكون مثل سابقاتها وسط توقعات ان لا تتجاوز نسبتها الانتخابية 25٪ في احسن الحالات، وانها لن تستفيد مثلما حصل سابقا من "اكبر البقايا" بسبب تقارب نوايا التصويت. بمعنى اخر سيكون التنافس محتدما على المرتبتين الاولى والثانية، وان المرتبة الثالثة والرابعة لن تكون في متناول الحركة الا ربما في أحسن الحالات في بعض دوائر الجنوب.

مثلما فصلت في مقال سابق (11 جوان) توجد تمايزات مختلفة ومعقدة بلا شك داخل الحركة لكنها تركزت قبل وخاصة بعد المؤتمر العاشر في مجموعتين "خط الشيخ" و"التيار الاصلاحي". تم خوض الانتخابات الداخلية ضمن هذا الاطار، حيث انه في كل دائرة انتخابية انقسمت الاصوات بين قائمتين مرتبتين بالتناصف. ولان الصراع كان اساسا ذكوريا استفادت عديد الوجوه النسائية من التنافس بما ادى الى حصول العديد منهن على اعلى الاصوات بين الجنسين. الاهم ان النتائج كانت بوضوح في صالح "التيار الاصلاحي". عموما يمكن تلخيص النتائج كما يلي:
-"خط الشيخ" لم تحصل الوجوه المحسوبة عليه على المرتبة الاولى الا في القصرين (نور الدين العرباوي) والقيروان (فريدة العبيدي)، كما يمكن اعتبار فوز نور الدين البحيري في بن عروس ايضا في ذات الاتجاه (تموقع رئيس الكتلة في الصراع الداخلي مثير للانتباه اذ بقي عموما قريبا من رئيس الحركة رغم انه يُنظر اليه كزعيم مجموعة ثالثة وكانت انتخابات رئاسة الكتلة التي تمت منذ اشهر قليلة مناسبة للتعرف على طبيعة تموقعه ذاك). ايضا يمكن اعتبار نتائج بعض الدوائر في الخارج (مثلا العالم العربي: ماهر مذيوب، ايطاليا: اسامة الصغير) بوصفها نتيجة لعمل دائرة العلاقات الخارجية التي يشرف عليها رفيق عبد السلام المقرب من رئيس الحركة وصهره.
-"التيار الاصلاحي": كانت بعض السباقات رمزية من حيث طبيعة المعركة اذ تم اختيار دوائر انتخابية كبرى لما يشبه "النزال التاريخي". اختارا مثلا رمزين من "التيار الاصلاحي" عبد الحميد الجلاصي وعبد اللطيف المكي اكبر دائرتين اي على التوالي تونس 2 وتونس 1 وترأسا قائمة فيها تناوب على اساس التناصف. وتحصل كلاهما على المرتبة الاولى في قائمة الذكور. وكان النزال خاصة في تونس 2 شديد الرمزية والتنافس حيث كان هناك حديث عن امكانية ترشح رفيق عبد السلام وتراجعه عن ذلك مباشرة قبل الانتخابات، وحيث تقدمت الى الرتبة الاولى نسائيا امال عزوز والجلاصي ذكوريا وكلاهما محسوب على "التيار الاصلاحي" في حين تأخر عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى والقريب من رئيس الحركة الى المرتبة الثانية ذكوريا والرابعة في القائمة. وهو ما يعني استحالة حصوله على مقعد في الانتخابات التشريعية للمرة الثانية على التوالي (سبق ان ترشح في تونس 2 سنة 2014).

عموما كانت النتائج زلزالا حقيقيا بالنسبة لـ"خط الشيخ". اذ في تونس 1 حصلت مفاجأة بحصول موظفة في الحركة ووجه مغمور جدا (صفاء مدايني) على الرتبة الاولى بالتناصف، وتحصل مقربون من رئيس الحركة واعضاء في التنفيذي على مراتب متأخرة (يمينة الزغلامي في المرتبة التاسعة، ومحسن النويشي عضو "التنفيذي" والمكلف بالانتخابات في مرتبة اكثر تأخرا)، في حين حصل لطفي زيتون القريب تاريخيا من رئيس الحركة على المرتبة الثانية ذكوريا والرابعة بالتناصف (اذا تم الحفاظ على هذه الرتبة لا يستطيع حسابيا وحسب توقعات نوايا التصويت الوصول الى مجلس نواب الشعب)، قبل استقالته من مهامه كمستشار للرئيس.

في بقية دوائر تونس الكبرى تراجع ايضا مقربون من رئيس الحركة ورموز تاريخية الى مراتب دنيا (في اريانة تحصل الصحبي عتيق على المرتبة الثامنة وخسر في منوبة عماد الخميري الناطق باسم الحزب واتى ثانيا امام وجه شاب نزار الحبوبي). في بنزرت تحصل سمير ديلو احد رموز "التيار الاصلاحي" على المرتبة الاولى في حين تحصل بشير اللزام القريب من "خط الشيخ" والذي تصدر سابقا قائمات الحركة في الانتخابات على المرتبة السابعة. في زغوان ايضا تصدر محمد بن سالم وهو وجه من وجوه "التيار الاصلاحي" والمعارض علنا لرئيس الحركة الانتخابات الداخلية بالتناصف. في نابل 1 نجد وجها نسائيا مغمورا في المرتبة الاولى والثاني في التناصف معز الحاج رحومة ايضا محسوب على "التيار الاصلاحي"، ونابل 2 نفس الشيء حيث نجد وجها محليا محسوبا على "الاصلاحي" (التومي الحمروني). تحصل في الكاف حيث يترشح تاريخيا عبد اللطيف المكي احد الوجوه القريبة منه والمحسوب على "الاصلاحي" الرتبة الاولى (حسين الجندوبي).
في القيروان حصل تحالف بين مكاتب المعتمديات جعل مرشحيها في مقدمة الترتيب ووجدت مكاتب القيروان المدينة نفسها القريبة من "خط الشيخ" وايضا سيد الفرجاني خارج الترتيب. في سوسة تحصل الوجه التاريخي العجمي الوريمي والمتصالح مع الجميع والبعيد عموما عن الصراع الرتبة الاولى ذكوريا. في سيدي بوزيد تحصلت الشابة حياة العمري مرتبة متقدمة على البقية في حين لم يتحصل عضو "التنفيذي" نوفل الجمالي على مرتبة متقدمة. في قفصة تحصل محسوبون على "التيار الاصلاحي" مثل محسن السوداني على المراتب الاولى. في صفاقس ايضا 1 و2 لم يكن "خط الشيخ" سائدا وتحصل رئيس مجلس الشورى السابق فتحي العيادي الذي لا يمكن تصنيفه ضمن اي من المجموعتين على الرتبة الاولى في صفاقس 1. اذا ذهبنا الى الجنوب نجد وجها تاريخيا مثل عامر العريض في دائرة مدنين في مرتبة رابعة بالتناصف، في حين في قابس، المهمة رمزيا وهي ولاية رئيس الحركة، تموقع وجه مغمور، عبد الله الحريزي، في المرتبة الاولى وتموقع محمد الزريق المقرب من "خط الشيخ" في المرتبة السابعة.

لم يكن صعبا ان يرى رئيس الحركة ان ما يحصل استفتاء مبكر حول زعامته للنهضة. هزيمة المقربين منه رسالة داخلية واضحة. وعلى هذا الاساس اخر اجتماع التنفيذي للمداولة. وهيأ نفسه لانتقام على نار باردة.

الانتخابات بوصفها «استنئناسا» و«الزلزال» المضاد من قبل رئيس الحركة:
منذ اعلان نتائج الانتخابات الداخلية كان محور النقاش الخافت الداخلي، والذي اصبح علنيا تدريجيا منذ الاحد، هو الفصل 112 من النظام الاساسي للحركة الذي كان من جملة تنقيحات المؤتمر العاشر. يأتي الفصل في سياق باب خاص بالانتخابات ويحدد ضمن الفصول 108-111 شروط الترشح وكيفية الانتخاب ثم نأتي الى الفصل 112 وهو كما يلي: "يتولى المكتب التنفيذي المصادقة على القائمات. وللمكتب التنفيذي صلاحية تغيير الترتيب وله استثنائيا اضافة عضو الى القائمة وله استثنائيا جدا اضافة رئيس للقائمة".
في احد مجالس الشورى الاخيرة يبدو انه تم التداول في تأويل معنى الفصل 112، وخاصة حدود "الاستثنائي" و"الاستثنائي جدا". ويبدو أنه حصل توافق على عدم المساس جوهريا بالقائمات خاصة على مستوى الرئاسة في اكثر من عدد محدود من القائمات. لكن باتت المؤشرات على تدخل كبير في القائمات بعد ظهور نتائج الدورات الانتخابية الاولى. واصبح ممثلو "التنفيذي" الحاضرون في الجلسات الانتخابية يرددون مصطلح "الاستئناس" بالانتخابات، وان تمرينا ديمقراطيا اكثر منها نتائج نهائية.

بعد تأجيل متواتر لاجتماع "التنفيذي" انطلق بدون انقطاع يوم الخميس الفارط، وتم التأكيد على عدم تسريب نتائجه ومخرجاته. لدينا الان روايتان لما حصل في سياق نصوص داخلية تم تسريبها للفضاء العلني. منها رسالة لنائب رئيس الحركة علي العريض حيث يشرح مبررات التغييرات الكبيرة في القائمات كما يلي: "ما لوحظ في هذه الانتخابات من بعض النقائص المفهومة في كل بداية من مثل بعض النقص في الإلمام بمهام النائب وطنيا وجهويا والمواصفات الضرورية فيه او من مثل بعض التفاهمات التي لم تتأسس بالضرورة على الكفاية والجدارة والثقل الانتخابي للحركة." وفي المقابل كانت نصوص أخرى لقياديين مثل الجلاصي والمكي تتحدث بوضوح عن "الاسقاط" والتدخل في ارادة الناخبين وحتى "البتر". البعض تحدث في الكواليس عن "مجزرة". الواضح ان لا احد خاصة من "التيار الاصلاحي" كان يعتقد ان التدخل "الجراحي" سيكون شاملا بهذا القدر وليس "استثنائيا".

أهم مخرجات هذا التدخل كانت كالآتي والتي سالخصها خاصة انها اصبحت الآن في المجمل معروفة:
- اهمها على الاطلاق وضع رئيس الحركة نفسه على رأس قائمة تونس 1 وهو ما شرحه العريض في رسالته كما يلي: " ترشح الشيخ راشد وفِي العاصمة بكل الرسائل والدلالات التي تحملها هذه المبادرة السياسية من تاكيد لاهمية البرلمان ودوره المحوري في نظامنا السياسية ومن تجميع للحركة وجهودها في هذه المعركة الساسية الانتخابية ومن دفع بالحركة الى صدارة الاهتمام والتركيز السياسي الوطني والعالمي و بكل ما يوفره ذلك من فرص وما يذكيه من اهتمام وحتي من صراع يجب خوضه بحكمة واقتدار .فالحركة بكل قائماتها وبالقائمة التي سيترأسها رئيسها الاستاذ راشد الغنوشي ستكون مركز الاهتمام والمتابعة شكلا ومضمونًا ومرشحين ومرشحات." ساعود لاحقا لتحليل هذه النقطة لكنها تعني عمليا انهاء اي حظوظ لعبد اللطيف المكي في هذه الدائرة، مقابل الاقتراح عليه العودة الى الكاف وهو ما رفضه مهنئا المرشح المنتخب محسن الجندوبي.
- تغيير ترتيب عدد من المحسوبين على "التيار الاصلاحي" بتأخير ترتيبهم من الاولى او الثانية الى ما بعد بما يعني من قضاء على حظوظهم في الوصول الى مجلس نواب الشعب، وتصعيد المحسوبين على "خط الشيخ". من ذلك وضع الهاروني رئيس قائمة مبدئيا في تونس 2، واقتراح على الجلاصي للانتقال الى نابل وهو ما رفضه ايضا. ايضا تغيير الترتيب في دائرة منوبة ليصبح الخميري رئيس قائمة، وسيدي بوزيد ليصبح الجمالي رئيس قائمة. او في حالة اخرى يتم اقصاء تام لمحمد بن سالم في زغوان مقابل وضع النويشي على راس القائمة.
- وضع رؤساء قائمات من خارج الحركة في سياق تعزيز مركزية القرار: مثلا في القيروان وضع ابن الشيخ البراق على راس القائمة والذي تتهمه مختلف المكاتب المحلية بانه "تجمعي". هناك حديث عن تواصل رئيس الحركة مع الفنانة ووزيرة الثقافة سنية مبارك ليعرض عليها رئاسة القائمة. نفس الشيء ايضا في علاقة بطارق ذياب.
من الواضح ان القرارات ادت الى حالة معارضة علنية غير مسبوقة. وخلال "اعلام" التنفيذي في اجتماعات داخلية لبعض الجهات حدث جدال وصراع مفتوح ادى عموما الى تاجيل الاعلان عنها. بما يعني اننا خرجنا من السياق الرسمي العادي.
عموما يرى انصار "التيار الاصلاحي" ان هذا التدخل يؤكد تصورهم في ان رئيس الحركة بوصفها مؤسسة مستقلة بذاتها تهيمن بشكل غير معقول على سير الحزب. وان الوضع الخاص بالحزب وديناميكيته وايضا الوضع العام لم يعد يحتمل هذا النوع من "التدخل السافر". وعليه يتم استحضار بورقيبة وكيفية تسييره للحزب منذ السبعينات والتي كانت تدل على أعراض "شيخوخة مرحلة"، وانتهاء لعصر السيطرة المعنوية والكاريزمية المطلقة للزعيم، في هذه الحالة للشيخ.

ومثما شرحت في مقال سابق يبدو مركز الصراع بين الطرفين مؤتمر 2020. من الواضح الان ان رئيس الحركة غير معني بمغادرة الحزب كما ينص النظام الداخلي وبنقل سلطات الزعامة الى نائبه (من الواضح ان سلوك علي العريض المحسوب والمتزهد "الوسطي" ياتي في سياق التموقع لخلافة ممكنة في المستقبل دون الوقوع في صراع وجودي مع رئيس الحركة). حيث ان رئيس الحركة استخلص بوضوح ان الانتخابات الداخلية تعني انتهاء عهدته بشكل مبكر، وحيث ان الكتلة البرلمانية ستلعب دورا اساسيا في اي تجاذبات داخلية قرر ان يرمي بكل ثقله هناك، ليس فقط بضمان اعضاء كتلة من غير المعارضين وخاصة من الموالين، بل ايضا باقحام نفسه مباشرة في حلبة البرلمان. بما يعني مراهنة كاملة في ادوات حسم الصراع الداخلي على ضمان كتلة منسجمة وموالية.
يبدو انصار "التيار الاصلاحي" في وضع صعب. اذ يخشون ان يتم اتهامهم بـ"تقسيم الحركة" او التسبب في خسارتها في الاستحقاقات القادمة. ولهذا اذ يبدون رفضا للقرارات وادانة لها يقومون بذلك بما يجعلهم غير منطلقين لاعلان العصيان الكامل. ففي نهاية الامر يملك رئيس الحركة اوراقا عديدة من الصلاحيات القانونية الى النفوذ السياسي الداخلي والاقليمي، والتحكم في مصادر التمويل. في حين يملك "الاصلاحيون" تعاطف الهايكل والقواعد. وربما تلك ورقة غير كافية على الاقل الان. اعادة التنظم وانتظار مرحلة اخرى يضعف فيها "خط الشيخ" خاصة اذا لم تكن نتائج الانتخابات التشريعية ملائمة جدا تبدو الخطة الاقرب الى الواقع للانطلاق الى تغيير ممكن من داخل المؤسسات في المؤتمر 2020. لكن ان اغلق رئيس الحركة كل المنافذ٫ فانه ربما سيجبرهم على الخروج وربما سنكون ازاء حركتين حينها. وهو ما يبدو مضرا بالجميع.

الغنوشي وكيف يفكر في الاعتزال:
عرفت الاستاذ راشد الغنوشي منذ فترة طويلة نسبيا. اقدر الرجل شخصيا واعتقد عموما انه شخصية محورية داخليا واقليميا تستحق التمعن المعمق وان انخراطه في الصراع السياسي الراهن ربما اضعف امكانية تقدير وتقييم مساره بشكل موضوعي وجدي وانوي في مستقبل ما القيام بذلك من موقع المؤرخ والباحث وليس السياسي.
من الواضح انه يواجه خيارات صعبة في مفترق 2019-2020 ربما الاصعب في سيرة طويلة ومعقدة. اذ دائما الاصعب ليس البدايات بل النهايات. اعتقد ان احد اخطائه انه راهن بقوة بدفع ربما من بعض المقربين منه على امكانية ترشحه للرئاسية سنة 2019 رغم اني اعرف انه قبل ذلك لم يكن ينوي اصلا البقاء في تونس وكان يفضل التركيز على اعتزال بعيد عن تونس وعن السياسة في اطار "علمي" او ديني. أصبحت الاسئلة التي تواجه الرجل في رايي لا تتعلق بمسائل تفصيلية بل بمسالة اساسية: كيف سيتذكره الناس؟ ومن ثمة كيف سيعتزل واين سينهي حياته السياسية؟

ترشح الغنوشي على راس قائمة تونس 1 يحسم بوضوح خيار الترشح للرئاسية ويعكس اقتناعه ان مسألة استطلاعات الرأي مضيعة للوقت وانه في احسن الحالات سيتجاوز الدور الاول اذا استطاعت حملة التشريعية خلق دنياميكية كبيرة. لا اكثر من ذلك. كان عليه في الاسابيع الاخيرة ان يجد حلما بديلا عن قرطاج. وقد تم التداول في الكواليس طيلة الاشهر السابقة عن خيار تموقعه في القصبة او في باردو. ومن الواضح انه حاول أن يضع كل الخيارات واستانس باراء مختلفة خاصة في جولاته المختلفة محليا او اقليميا وفي الخارج.

موقع "رئاسة الحكومة" سيكون مشروطا بموقع اول بعيد عن البقية، وهو الامر الصعب قياسا بالوضع الراهن وامكانية منافسة حزب القروي. وايضا بضمانات مختلفة محلية واقليمية اذ القصبة عصب السلطة وهو الامر الممكن لكن غير المضمون. وبالتالي يكون الترشح ورقة لا تنفي امكانية التفاوض حول القصبة لكن تضمن على الاقل رئاسة البرلمان.هذا الموقع يبدو اقل كلفة سياسيا. كما انه سيمنحه ورقة للتفاوض مع بقية الاطراف بعد الانتخابات التشريعية في مستوى ترؤس الحكومة او دعم شخصية من خارج الحركة في الرئاسية، الامر الذي يبدو مؤجلا وسيبقى كذلك الى اللحظة الصفر. اذ "العصفور النادر" يبدو الاحجية التي لن تجد حلا وصنارة للجميع، خاصة ممن يطمعون بلا انتهاء في دعم النهضة، الى الدقيقة الاخيرة.

ومن غير المستبعد ان بعض الاطراف الدولية والأوروبية ابدت أو ستبدي ارتياحها لهكذا خيار. في كل الحالات يبدو معنيا بالتموقع بوضوح على رأس السلطة. ويبدو انه سيتشبث بخيار مركزية البرلمان مثلما يلمح علي العريض في رسالته. وهذا يعني ان النهضة ستضع كل ثقلها ضد اي محاولة لتحوير الدستور بما يحور النظام الى رئاسي. هذه ربما اهم رسائل ترشح رئيس النهضة الى التشريعية.

في كل الحالات لا يمكن تشبيه الغنوشي ببورقيبة. اذ السياق يمنع هيمنته على سلطة الدولة، ولا يُعرف عنه في كتاباته وممارسته السياسية على الاقل ميلا لذلك. لكن من المحتمل جدا ان ينتهي بورقيبيا على مستوى الحزب اذا واصل بذات الطريقة في تدبير الوضع التنظيمي الداخلي. اذ الاصرار على التموقع على راس السلطة والتموقع على راس الحزب. يبدو ذلك مكون تفجير لاكثر تنظيم سياسي معاصر في تونس تماسكا حتى الان وثقة على الميدان سواء اختلفنا معه او اتفقنا.

المشاركة في هذا المقال