Print this page

منبــر: حول المرشحين العوام للانتخابات الرئاسية

بقلم: حاتم مراد
أستاذ بجامعة قرطاج
إن الترشح للإنتخابات الرئاسية، ككل إنتخابات تعددية أخرى، حر وشرعي بداهة. فالديمقراطية، والقابلية للإنتخاب

الناتجة عنها، مفتوحان لكل المواطنين، ممن تتوفر فيهم الشروط القانونية والإنتخابية. لكن ليس أقل مشروعية تنبيه المرشحين العوام في الإنتخابات الرئاسية، من النساء والرجال، ممن لا يمتلكون أية تجربة سياسية، سواء ممن يتصور امتلاكها، والأثرياء كمالكي القنوات التلفزية، المفكرين متدني التعليم، مسيري الشركات والأجراء، وعاظ المساجد، ناشطي المجتمع المدني والتكنوقراط أو أي باحثين عن المجد، بأن السياسة ليست حفلا ممتعا. إنها جدية للغاية بحيث لا يجب أن تترك للهواة حتى وإن كانوا مستنيرين.

السياسة هي مهنة وحرفة. يعرف ممارسو هذه الحرفة في كامل أنحاء العالم أنها تتطلب ثلاثة شروط تامة: التكوين النظري والجامعي المناسب، بصورة عامة في علوم السياسة والقانون والإقتصاد السياسي (للتمكن من تحليل الوقائع)، وتجربة نضالية في حزب أو نقابة (لاكتساب الغريزة السياسية وآليات الممارسة التطبيقية)، وأخيرا ممارسة الوظيفة السياسية، سواء كعمدة، نائب، والي، أو وزير (لامتلاك تجربة صلب الدولة والمؤسسات). تنطبق هذه الضرورات الثلاث مجتمعة، وبالخصوص، على المرشحين للإنتخابات الرئاسية، لأنه يفترض فيهم تمثيل الدولة في الداخل والخارج (لكن أيضا على رؤساء الحكومات في الأنظمة النيابية).

ليس توفر هذه المعايير هو ما ضمن بالمطلق نجاح المرشحين المنتصرين في الإنتخابات. لكنه على الأقل يساهم في الحد من التهور وغياب الحرفية في وظيفة عليا سياسية ذات خطورة وأهمية. تمثل هذا المعايير شروطا مطلوبة، غير إجبارية، ولا منعا قانونيا، لكنها مما لا يمكن قبوله في الديمقراطية.

كيف يستطيع من لم يُكوّن أية غريزة سياسية خلال مهنته الأصلية، وممن أعلن ترشحه للرئاسيات، حكم تونس، وهو من خارج عالم السياسة؟ بالتأكيد، لا يمتلك رئيس الجمهورية سلطات مهمة مقارنة برئيس الحكومة. لكنه صاحب صلاحيات حصرية في الدبلوماسية والأمن والدفاع بالإضافة إلى وظائف اخرى متنوعة، سيكون على المرشح ممارستها في الوقت المناسب. للرئيس علاقات ذات طابع سياسي مع رئيس الحكومة والبرلمان، وعليه إيجاد السلطة الأخلاقية في المسائل الأساسية ذات المصلحة الوطنية والمهمة للرأي العام.

أيّة قدرات أو سلطة أخلاقية يمكن أن يمتلكها هؤلاء المرشحون العوام القادمون حديثا إلى السياسة، وبعد أن كانوا يزاولون مهنا غير سياسية، تسمح لهم بطمأنة التونسيين المحبطين أصلا خلال هذه الفترة؟ نتذكر كيف لم يقدر الرئيس السابق المنصف المرزوقي ممارسة سلطة أخلاقية مماثلة، بل حطّ من قيمة الوظيفة الرئاسية باضطرابه وكثرة كلامه، رغم أنه قضى جزء مهما من حياته (منذ عهد بورقيبة) في النضال السياسي. كيف تمارس السلطة، ويتم التكيُّف مع غير المتوقع، ومع الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والأمنية؟ كيف يمكن المرور بين الشياطين والذئاب القديمة التي ستنقلب عليه بمجرد انتخابه؟ هل يعرف هؤلاء المرشحون كيفية التفاوض مع رؤساء الدول والمسؤولين الأجانب، القيادة العليا للقوات المسلحة، التعامل مع نقابات لا يمكن إرضاؤها، قوى كبرى نهمة، منظمات دولية متطلبة أو صندوق نقد دولي قمعي؟ كيف تتم طمأنة رأي عام مُضلل بسبب صورة الذوات المتضخمة، التي تصدّرها استطلاعات رأي مخادعة؟ بالتأكيد، لا يعمل رئيس الجمهورية وحده، لأنه محاط بمعاونين من المفترض أنهم أصحاب كفاءة، لكن هو من يأخذ القرار في نهاية الأمر. يتوجب عليه لذلك أن يُحسن اختيار رجاله و امتلاك رؤية شاملة من جهته.

إن الطموح ضروري في السياسة. كل من يقبل ممارسة السياسة، أو لعب دور اجتماعي أو تاريخي، هو بالضرورة شخص طموح. ويجب أن يكون كذلك. لكن للطموح حدودا لأن من الواجب احترام مراحل محددة في المسار السياسي. من الشائع القول في فرنسا أن الأمر يتطلب ثلاثين سنة لصنع رئيس. إذن، من الأفضل الإنطلاق من أسفل السلم (مستشار بلدي، عمدة، عضو مكتب سياسي في حزب، مناضل قاعدي...) ثم الصعود تدريجيا في السلم السياسي بدل البدء بترشح للرئاسية والسقوط فجأة أو الإختفاء تماما من المشهد السياسي. الأمر الذي يحصل عادة لمثل هؤلاء المرشحين. فعليا يتعلم السياسي البقاء والديمومة والتجدد أو على الأقل النهوض مرة أخرى. فلا يعني الفشل عادة فشل طموحه أو مشروعه. أما بالنسبة للعوام، فبمجرد الفشل في الإنتخابات أو الإنهيار الكامل، يعودون إلى مهنهم الأصلية مغادرين الحياة السياسية على أطراف أصابعهم. إنهم يدركون أخيرا أنهم ليسوا مهيئين لهذه الحرفة. أين هم مرشحو انتخابات 2014 (كانوا في المجمل 27 مرشحا)؟ يمر التونسيون اليوم بمرحلة صعبة للغاية، بحيث لا يقبلون أن يكونوا طعما أو موضوع تجارب، لا لصالح الإسلاميين أو لصالح العلمانيين.

قصد الإستجابة لهذه المعايير، لا نتحدث عن الأزمنة البطولية (الحرب العالمية، الحرب الأهلية، حرب التحرير، الثورة العنيفة والدموية والجذرية )، ولا عن عباقرة السياسة الذين ظهروا هنا وهناك في التاريخ ليتركوا آثارهم. نتحدث عن الأزمنة الحالية، عن تونس في الفترة الإنتقالية، أين أصبح رجال السياسة المحنكون الذين حكموا في ظل النظام القديم، فاقدين للمشروعية (ليس كلهم) في أعين العموم، وأين عرف المعارضون القدماء رفضا إنتخابيا حادّا، باستثناء البعض ممن نجح في البقاء. اليوم، تمتلئ الساحة السياسية بالوافدين الجدد، قليلي الخبرة وغير المكونين كما يجب للمهمة. فليس صدفة بالتالي أن يملأ التجمعيون-الدستوريون الفراغ بسهولة كبيرة.

كما لا نتحدث بالمرّة عن رجال السياسة أو قادة الأحزاب الذين يجعلون من السياسة حرفتهم، في متسع من الوقت، وعبر اتباع مساراتهم الخاصة وامتلاك التجربة خلال هذا الإنتقال. بل نتحدث عن المرشحين الحالمين والغريبين عن السياسة، غير المهيئين لهذا العبء السياسي، الذي سيكون عليهم خلاله حمل الشعب على أكتافهم.

ثمة بالطبع استثناءات. من الصحيح، في النظام الأنغلوسكسوني، أن نرى عادة شخصيات من الفضاء الخاص يكرسون جزءا من حياتهم للشأن العام. كما يصحُّ أيضا أن يتمكن أشخاص دون التكوين المطلوب أو من يعبّر عنهم بـ" self-made men "، من النجاح في الحياة السياسية. لم يكُن Reagan متعلما، لكن امتلك تجربة المناضل النقابي لصالح ممثلي السينما. كان الشاب Justin Trudeau في الأصل مدرسا للفن الدرامي، ونجح في حكم دولة قارية. تم انتخاب Sebastian Kurz، المستشار النمساوي الشاب ورئيس الحزب الشعبي النمساوي، في عمر الـثالثة والثلاثين سنة 2017، رغم أنه لم يكن حاملا لشهادة. لقد انقطع عن دراسة القانون سنة 2011 ليمارس السياسة. لكن للأسف، تمت الإطاحة به في ماي 2019، منذ أيام قليلة، بعد إلتماس سحب الثقة. وهو لذلك أول رئيس حكومة نمساوي في التاريخ تتم الإطاحة به. مازال لديه الكثير لتعلُّمه.

من الجائز أن لا تمنع قلة الخبرة أو انعدام الأهلية السياسية، مسيرا سياسيا من الصف الأول، وهو القادم من فضاء غير سياسي، من أن يكون شعبيا، مهما كان ديماغوجيا وسطحيا، أو أن تكون له بعض النجاحات. هذا هو حال Trump، وهو ليس الوحيد في التاريخ. استنادا إلى رأي الأمريكيين أنفسهم، هو غير متوقع، مغرور، غير لبق، مريض نفسي ومتعصب. لهذا السبب، يظل مرفوضا من قبل الأمريكيين المتمسكين بقيمهم السياسية والأخلاقية التقليدية. لكن، علينا أن لا ننسى، لقد نجح Hitler بدوره في إنقاذ الإقتصاد الألماني عشية الحرب العالمية الثانية، خاصة عبر سياسة المشاريع الكبرى.

لكن هذه الإستثناءات نادرة، خاصة في عصر كعصرنا، حيث أصبحت إدارة المجتمعات أكثر تعقيدا. إن القاعدة في السياسة وفي الديمقراطية، هي امتلاك القيادات العليا المعرفة والتجربة والقدرة السياسية. قال الصحفي الكبير والمتابع للحياة السياسية الفرنسية، Alain Duhamel مؤخرا: «أنا مع التجديد الجيلي، وليس مع تفقير الزاد البشري السياسي. لا بد من إيجاد التوازن الصحيح».

المشاركة في هذا المقال