Print this page

منبــر// الحرب التجارية بين أمريكا والصين بقلم: فتحي الشامخي

شرعت الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، منذ شهر مارس 2018، في شن حرب تجارية ضد المصالح الاقتصاديّة الصّينية،

بدْءا بالترفيع في نسب الرسوم الجمركية، من 10 إلى 25 بالمائة، على عدد متزايد من البضائع المستوردة من الصّين، وصولا - منذ شهر ماي الماضي- إلى استهداف قطاع صناعة الاتصالات، وتحديدا شركة هواوي المصنّع العالمي الثاني للهواتف والريادية في مجال شبكات الاتصال ولا سيما تكنولوجيا الجيل الخامس.

لا شيء يفيد، في الوقت الراهن، عدول الإدارة الأمريكية عن سياستها التجارية العدوانية. كما لا شيء ينبئ في مستقبل قريب بتوقف تصاعد الأزمة، حيث ما انفك الرئيس الأمريكي يوسع من نطاق هجومه التجاري ضد المصالح الاقتصادية الحيوية الصينية، في إطار ما يمكن اعتباره الحرب التجارية الأكبر من نوعها في التاريخ الاقتصادي، سواء من حيث قيمة الأضرار الماليّة التي تتسبب فيها وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية على كلا البلدين أو آثارها السلبيّة المتوقعة على مجمل الاقتصاد العالمي، علاوة على كونها مواجهة ما بين القوتين الاقتصاديتين الأعظم في العالم في الوقت الراهن واللتين تمثلان مجتمعتين 42 بالمائة من إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي

تقدر الخسائر الماليّة المباشرة لهذه الحرب التجارية، منذ جويلية 2018، تاريخ دخول الإجراءات الجمركية الأمريكية الجديدة حيّز التنفيذ، حسب قناة بلومبارغ الأمريكية، ما قيمته 888 مليار دولار، تكبدت الصين الجزء الأكبر منها (584 مليار دولار). كما انعكس مفعول الإجراءات التجارية الأمريكية العدوانية بالسلب على حجم صادرات الصين وعلى نسق الاستثمارات الصناعية فيها، وهو ما أدى بدوره إلى انكماش نسبة نموّ الاقتصاد الصّيني خلال السنة الماضية في حدود 6.6 بالمائة، ومن المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى 6.3 بالمائة خلال هذه السّنة حسب صندوق النقد الدّولي في صورة تواصل هذه الحرب التجاريّة.

كما تأثر الاقتصاد والمجتمع الأمريكيان بدورهما من هذه المواجهة التي بدأتها الإدارة الأمريكية فقد طالتهما الانعكاسات السلبيّة للسّياسة التجاريّة العدوانيّة التّي يصرّ الرئيس الأمريكي على مواصلتها، وعلى توسيع دائرتها لتشمل مجمل المنتجات الصينية واستهداف القطاعات الاقتصادية الصينية الاستراتيجيّة. كما تسعى هذه الإدارة إلى توسيع المجال الجغرافي لسياستها التجاريّة، من خلال الضغط على حلفاء الولايات المتحدة الأمريكيّة وحثهم على الانخراط في حربها التجاريّة هذه على الصّين، وهو ما استجابت له أستراليا، على سبيل المثال، التي اصطفت وراء الإدارة الأمريكية في حربها ضد شركة هواوي.

يقدّر المحللون الاقتصاديّون المفعول السّلبي المتوقع، خلال هذه السّنة، للتدابير التجارية العدوانية التي قررتها إدارة الرئيس ترامب، على نموّ الاقتصاد الأمريكي بنسبة 0.4 بالمائة في حين تتوقع مجموعة جولدمان ساكس البنكية أن يكون المفعول السلبي لهذه التدابير أسوء بكثير في حال تسببت الحرب التجارية الجارية في تراجع هامّ على مستوى أسواق الأسهم في الولايات المتحدة الأمريكية.

تجدر الإشارة إلى أن أغلب البضائع الصينية التي شملتها الإجراءات الجمركية الجديدة هي منتجات شبه مصنعة تدخل بدورها في صناعة منتجات مصنعة في الولايات المتحدة الأمريكية مما تسبب، حسب البنك البريدي الأمريكي أي. آم، في ارتفاع تكلفة الإنتاج بالنسبة للشركات الأمريكية خاصة منها الشركات صغيرة الحجم التي يصعب عليها تنويع مزوديها. كما أنه من المتوقع في الفترة القادمة أن تنسحب الإجراءات الجمركية على حوالي 4000 منتوج صيني إضافي، مما سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع أسعار البيع بالتفصيل لهذه المنتجات بالنسبة للمستهلك الأمريكي. وهو ما يفسر سعي العديد من اللوبيات الاقتصادية وتعالي العديد من الأصوات في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل حثّ دونالد ترامب على العدول عن سياسته التجارية العدوانيّة والعودة إلى طاولة التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق تجاري مع الصين.

من ناحية أخرى، يتوقع صندوق النقد الدّولي أن تغذّي سياسة التصعيد والانتقام الأمريكية إلى عدم الثقة والمخاوف بشأن السياسات التجارية ممّا سيؤدي بدوره إلى انخفاض مستوى الاستثمار واضطراب منظومات التوريد وتباطؤ نمو الإنتاجية عبر العالم. ويتوقع الصندوق كذلك أن تتراجع نسبة نمو الاقتصاد العالمي خلال سنة 2019 إلى 3.3 بالمائة بالمقارنة مع ما كان منتظرا في البداية، حيث أنه: "ليس هناك تهديد أكبر خطورة على النمو الاقتصادي العالمي من الحرب التجارية ما بين الولايات والمتحدة الأمريكية والصين" وفقا لتصريح وزير الاقتصاد الفرنسي برينو لومار.

لقد بات من المؤكد اليوم أن استمرار الحرب التجارية، التي تشنها إدارة ترامب الأمريكية ضد الصين، سوف تضرّ بالعديد من القطاعات الصناعية والنشاطات الاقتصاديّة الحيوية وتلحق الأذى بعموم المستهلكين في كلا البلدين كما سوف تعرقل وتيرة تعافي الاقتصاد العالمي وتؤدي إلى اضطراب السوق العالمية وإلى الإلقاء بظلالها على عدد متزايد من الاقتصاديات، بينما كان من المفترض أن تعمل الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب الصين على تحمّل المسؤولية المطلوبة لدفع نمو الاقتصاد العالمي، غير أن الإدارة الأمريكية أصرّت على شنّ حرب تجارية بشكل أحادي غير عابئة بانعكاساتها الوخيمة والإمعان في فرض الرسوم الجمركية الإضافية على البضائع الصينية مرارا وتكرارا، متنكرة للتوافق الذي توصّل إليه الجانبان بعد جولة من المفاوضات العسيرة.

إن ما يدفع الرئيس ترامب إلى التمادي في سياسته التجارية العدوانية ضد الصّين بشكل خاص إنما هو اعتقاده أن هذه الأخيرة غير قادرة على الصمود ورد الفعل دفاعا عن مصالحها الحيويّة، وهو مجانب للصواب حيث يتمتع الاقتصاد الصيني بصلابة قوية وهو قادر تماما على الصمود أمام المخاطر والصدمات الخارجية وهو ما أثبته خلال الأربعين سنة الأخيرة إذ أن الصّين تمتلك منظومة متكاملة من الصناعات وتتمتع بتفوق تكنولوجي في عديد مجالات الإنتاج ولها قدرة ابتكارية علمية وتكنولوجية حيوية وفي تطور مطرد، كما تعد فئات الدخل المتوسط الأكبر في العالم، ولها سوق استهلاك واستثمار هائلة. وعلى الرغم من كل هذه القدرات الهائلة فإن الصين لا تريد حربا تجارية، بالرّغم من أنها قادرة على مواجهتها. كما أن الصين ليس من عادتها الخضوع للضغوط الخارجيّة وهي لديها اليوم القدرة الكافية والعزم اللازم للدفاع عن حقوقها وعن مصالحها الحيويّة، وهي تسعى بالتوازي مع ذلك إلى التعددية ونظام التجارة الحرة أيضا.

يرى الجانب الصيني دائما أن فرض الرسوم الجمركية الإضافية لن يحل أي مشكلة وشن الحرب التجارية سيضرّ بالآخرين وبنفسه في آن واحد. وتأمل الصين أن يعمل الطرف الأمريكي معها للتوصّل إلى اتفاق تجاري قائم على المنفعة المتبادلة والتعامل على قدم المساواة والإيفاء بالوعود.

المشاركة في هذا المقال