Print this page

منبر: وثيقة التوانسة...دستور 27 جانفي 2014

بقلم: سلوى الحمروني
أستاذة تعليم عالي في القانون
نعيش اليوم استعدادات حثيثة لانتخابات تشريعية ورئاسية بعد فترة حكم اتسمت بالتقلبات السياسية، بالإحباط وبالمخاوف.


ونلاحظ في هذا المجال وجود العديد من المحاولات المواطنية التي تقدم نفسها كبديل عن طبقة سياسية اثبتت فشلها وعدم قدرتها على السير بالبلاد نحو الاحسن.
كما نلاحظ أيضا تعدد الأنشطة الجمعياتية المرتبطة بطموحات سياسية مُعلنة او خفية. فنجد الجمعيات "الخيرية" تكثف من نشاطها في المدة الأخيرة والعديد منها يُرفق هذا النشاط بتحميل مسؤولية تدهور الوضع المعيشي للتونسيين للسياسيين وخاصة من هم في الحكم.
وكثر الحديث في المدة الأخيرة عن نشاط جمعية «عيش تونسي» في علاقة بالحملة الإعلامية المكثفة التي نراها من خلال شبكات التواصل الاجتماعي او من خلال المساحة التلفزية المهمة التي تحتلها او من خلال بعض الوجوه الفنية الشعبية في تونس.
ولعل اغلب التونسيين والتونسيات لم يهتموا بهذه الجمعية عندما قدمت العديد من الخدمات الثقافية والترفيهية للعديد من الجهات المنسية وهو شيء محمود في بلد لم نتعود فيه على ضخ الأموال الخاصة في مجال الثقافة أي في مجال غير مربح.
وهو أيضا شيء محمود لان المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيات سمح لنا بمشهد جمعياتي متنوع قائم على الحرية، يهدف الى دعم الديمقراطية من خلال دعم المجتمع المدني كسلطة مضادة.
وثيقة التوانسة، هذا ما نجده على موقع الجمعية التي قدمت هذا العمل على أساس انه نتيجة استشارة شعبية مست اكثر من 400000 تونسي وتونسية في فترة ما بين شهر نوفمبر 2018 ومارس 2019. والحقيقة انني كنت من اللاتي تم الاتصال بهنّ ومن بين من اجبن عن أسئلة المتصل. ولكني كنت أيضا ممن طرح أسئلة لم تجبني عنها المستجوِبة الا بمحاولة معرفة من أكون { وهو في الواقع دليل على ان الجمعية تتصل بصورة عشوائية}.
وثيقة التوانسة، هي عبارة عن اثنتي عشرة نقطة او ما تسميه الجمعية اجراء يمثل حلا لمشاكل عبّر عنها التونسيون والتونسيات.
هذه الوثيقة كانت سببا للاهتمام اكثر بالجمعية، لمهاجمتها ولاعتبارها تريد دخول السياسة بشكل ملتو وبأموال اجنبية.
وبقطع النظر عن هذه المسائل يبدو لنا من المهم ان ننظر في هذه الوثيقة وفي هذا التمشي بصورة موضوعية.
يمكن أن يجد القارئ أن أول هذه الإجراءات المقترحة هي التخلي عن امتيازات السياسيين الذين لهم مناصب. قد يكون هذا الاجراء مجرد شعار يعبر عما يفكر فيه التونسيون والتونسيات لكن دعنا نتساءل هل أن الاجراء جدي؟ هل تساءلت الجمعية هنا عن حجم هذه الامتيازات بالنسبة لميزانية الدولة؟ هل فكرت في طبيعة العمل السياسي وما يقتضيه من حد ادنى من الرفاه حتى يقوم «أصحاب المناصب» بدورهم؟ هل فكرت الجمعية في علاقة هذه المسالة بالحد من الفساد او بتشجيعه؟
حول الفساد بالتحديد، هل تعلم الجمعية ان لدينا هيئة دستورية هذه وظيفتها؟
هل تعلم الجمعية ان القانون التونسي يسمح بمعاقبة «السراق و الفاسدين في المستشفى العمومي»؟. هل تعلم الجمعية ان طرد كل موظف عمومي غير ممكن خارج القواعد القانونية الحالية وان غير ذلك يستدعي تنقيح القانون من قبل السلطة التشريعية؟ هل فكرت الجمعية جديا في مقترح وضع امني في كل وسيلة نقل؟
هل تعلم الجمعية ان الاشكال في كل ذلك هو ليس ما نريده بل هو كيف نحققه؟
لن نطيل في التعرض لبقية النقاط ونكتفي بتذكير بسيط: هل تعلم الجمعية ان وثيقة التوانسة تم الاتفاق حولها يوم 27 جانفي 2014 وانها نصت على علوية القانون، على الحكم الرشيد، على العدالة الاجتماعية، على المساواة امام المرفق العام، على حسن التصرف في المال العام، على دور الشباب في التنمية وعلى حزمة من حقوق الانسان السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية؟ هل تعلم الجمعية ان ما ينقصنا اليوم هو ليس المزيد من الشعارات بل تنزيل الحقوق الدستورية منزلة الواقع؟
لا نريد من خلال هذا المقال محاكمة النوايا أو مهاجمة هذه الجمعية التي قدمت الكثير للتونسيين والتونسيات. نريد فقط وضع النقاط على الحروف:
وثيقة التوانسة بدأت في مقدمتها بالقول باننا لا ننتظر شيئا من السياسيين { ما عادش تستناو شي مالسياسيين} وخلُصت الى القول بان توقيع الوثيقة سيسمح بتغيير الأشياء ووضع البلاد على الطريق الصحيح {مع بعضنا نحطو لبلاد عالسكة} وهو ما يُفهم بشكلين: اما ان الجمعية ترفض السياسيين وهي بالتالي لا يمكن ان تتحول لحزب سياسي ولا ان تشارك في الانتخابات لان ذلك سيضعها في صف السياسيين المغضوب عليهم واما ان تدخل معترك السياسة من باب ضيق جدا وهو وهم السياسة بدون سياسيين وفي كلتا الحالتين لا نرى تناسقا في التمشي.
نذكر في هذا المجال ان تصور النظام القانوني للجمعيات تم على أساس تفريق أساسي بينها وبين الأحزاب.
فالمرسوم عدد 88 عرف الجمعية بانها «اتفاقية بين شخصين أو أكثر يعملون بمقتضاها وبصفة دائمة على تحقيق أهداف باستثناء تحقيق أرباح». أما الأحزاب فعرفها المرسوم عدد 87 {المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية بأنها «جمعية تتكون بالاتفاق بين مواطنين تونسيين يساهم في التأطير السياسي للمواطنين وفي ترسيخ قيم المواطنة ويهدف إلى المشاركة في الانتخابات قصد ممارسة السلطة في المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي».
وعلى أساس هذا التفريق مكّن المرسوم 88 الجمعيات من حق تقييم دور مؤسسّات الدولة وتقديم مقترحات لتحسين أدائها، من حق إقامة الاجتماعات والتظاهرات والمؤتمرات وورشات العمل وجميع الأنشطة المدنية الأخرى وكذلك من حق نشر التقارير والمعلومات وطبع المنشورات واستطلاع الرأي. لكن نفس المرسوم منعها «أن تجمع الأموال لدعم أحزاب سياسية أو مرشحين مستقلين إلى انتخابات وطنية أو جهوية أو محلية أو أن تقدم الدعم المادي لهم». ويبدو هذا المنع منطقيا لتفريق الأحزاب عن الجمعيات خاصة وان الأخيرة يمكنها التمتع بالتبرعات والهبات والوصايا، وطنية كانت أو أجنبية، في حين ان المرسوم 87 المتعلق بالأحزاب السياسية حدد لهذه الأخيرة سقفا متعلقا باشتراكات الأعضاء ومنع عنها أي تمويل مباشر أو غير مباشر نقدي أو عيني صادر عن أية جهة أجنبية.
جاء القانون بهذا التقسيم المنطقي وهو مبني على تفريق أساسي بين من يطمح لممارسة السلطة وبين ما يقوم مقام السلطة المضادة. فكيف يمكن للجمعيات اذن ان تتمتع بكل ما يُمنع على الأحزاب وهي تريد الحلول محلها في ممارسة السلطة؟
يبدو لنا ان دولة القانون التي نريد لا تعتمد فقط على احترام شكلي للقانون بل على احترام روح القانون وهدفه.
وثيقة التوانسة، قد تكون محاولة للتعبير عن فشل الساسة في تحقيق انتظارات التونسيين والتونسيات وخاصة الاقتصادية والاجتماعية منها. قد تشكّل أيضا محاولة لتجديد الطبقة السياسية كغيرها من المبادرات المواطنية كمواطنون او قادرون او غيرهم لكن هؤلاء اعلنوا نية خوضهم المعركة السياسية منذ البداية.
ان ما نخشاه اليوم لا علاقة له بتخوف على الأحزاب السياسية وهي مسؤولة بدرجة كبرى عن اختلاط الأوراق وعن تفكك المشهد السياسي اليوم. ما نخشاه هو ان يكون الدور السياسي للجمعيات مدخلا لضرب مكاسب المجتمع المدني ومنها أساسا المرسوم 88. نحن نحتاج اليوم واكثر من اي وقت لمجتمع مدني صلب قادر على مراقبة الأحزاب ومحاسبتها اذا كانت في السلطة فماذا يبقى من مصداقية هذه السلطة المضادة اذا أصبحت تعمل فقط على الوصول الى السلطة؟

المشاركة في هذا المقال