Print this page

قهوة الأحد: هالة الوردي والقراءة الجديدة للموروث الإسلامي

أثارت أعمال وكتابات الباحثة والأستاذة هالة الوردي الكثير من النقاشات والجدل. فمنذ صدور كتباها الأول «آخر أيام محمد « أو «les derniers jours de Muhammad»

عن دار النشر الباريسية الكبيرة Albin Michel سنة 2016 لم يهدا النقاش والحديث حول هذا العمل بين داعم يرى فيه قراءة جديدة وثورية للإرث العربي والإسلامي وناقد وحتى مشكك في الأدوات المنهجية والنتائج البحثية لهذا المنحى في التعاطي مع هذا الإرث . ولم يقتصر النقد والجدل على الجانب المعرفي والعلمي بل تجاوزه إلى الجانب الإيديولوجي والسياسي الرافض لهذا التوجه في التعاطي مع المقدس. وقد دفع هذا الرفض بعض القوى إلى حد تكفير الباحثة مما دفع بعض البلدان إلى رفض توزيع كتابها الأول ومما أخر في ترجمته إلى اللغة العربية وفي رأيي لولا هامش الحرية والتعدد الذي أتت به الثورة والذي دفع بعض المناوئين لهذا التمشي إلى قبول هذا الكتاب و لو على مضض لوصلت الأوضاع إلى ما هو أصعب وأشد.

ولئن خفت هذا الجدل بعد سنوات من صدور الكتاب الأول فانه عاد من جديد مع صدور الكتاب الثاني في البرنامج البحثي الذي وضعته الجامعية هالة الوردي وسلسلة الكتب التي تزمع نشرها لتقديم قراءتها لهذه الفترة التأسيسية في التجربة السياسية في المجال العربي والإسلامي . وقد صدر الكتاب الجديد عن نفس دار النشر الباريسية مع نشرة تونسية عن دار سيراس منذ أيام تحت عنوان «les califes maudits» أو «الخلفاء الملعونون».

أثار هذا الكتاب من جديد الكثير من الجدل و النقاش. وقد تجاوز هذا النقاش في بعض الأحيان حدود القراءة الموضوعية لتبيان الاختلافات والتعارضات ليصل حد التجريح والتشكيك.

وفي رأيي يجب الابتعاد عن هذه الطرق والتعاطي لا فقط مع كتابات وتحاليل هالة الوردي بل كذلك بشكل عام مع هذا الابتكار الابستمولوجي التونسي الأساسي والذي سعى منذ عقود إلى الفصل بين المقدس والدنيوي والتاريخي في قراءة موروثنا بطريقة علمية وموضوعية تؤكد على مكتسباتها وتشير إلى الصعوبات والهنات التي يجب تخطيها وتجاوزها.
وفي رأيي فإن أعمال هالة الوردي تنتمي إلى المدرسة التونسية لقرءاة التاريخ العربي والإسلامي والتي فتحها استاذنا هشام جعيط في مؤلفه الشهير «الفتنة الكبرى» وترجع أهمية هذه المدرسة التاريخية وتأثيرها في الدراسات الإسلامية في اختياراتها الفكرية والمنهجية وفي محاولتها قراءة الموروث الإسلامي قراءة تاريخية بعيدة عن القراءة التقليدية والتي فرضت الجانب المقدس لهذا التاريخ ولم تضعه موضع التساؤل والقراءة النقدية . وقد فتحت المدرسة الحديثة طريقة جديدة وثورية في قراءة هذا الموروث تعتمد على الأدوات الحديثة لعلم التاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية . وقد قدمت لنا هذه المدرسة دراسات مهمة مكنتنا من فهم وقراءة التاريخ العربي الإسلامي ومسك تناقضاته واختلافاته الفكرية والسياسية . كما كانت هذه المدرسة وراء ظهور أسماء عديدة لمفكرين وباحثين صار لهم شان كبير في الدراسات الإسلامية اذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر عبد المجيد الشرفي وحمادي الرديسي والشريف الفرجاني ويوسف الصديق وغيرهم كثير .

وتفتح في رأيي هالة الوردي مرحلة جديدة في تاريخ هذه المدرسة الدنيوية والتاريخية في قراءة الموروث والتاريخ العربي الإسلامي . فبعد ظهورها في سبعينات القرن الماضي وتقديمها للعديد من الأعمال والدراسات التي أحدثت ثورة معرفية في هذه القراءات التاريخية شهدت بعض التراجع والفتور في السنوات الأخيرة فلقد قل وتراجع عدد الدراسات والكتب المنشورة بالرغم من الهامش الكبير للحرية الفكرية والأكاديمية التي فتحتها ثورات الربيع العربي .

وتشكل أعمال هالة الوردي في ظل هذا الفتور محاولة لإعادة الروح لهذه المدرسة التاريخية . وكانت اعمال هالة الوردي مواصلة لهذه المدرسة من حيث اعتمادها على الأدوات الحديثة لعلوم التاريخ والعلوم الاجتماعية في قراءة هذا الموروث ومحاولة الفصل بين المقدس والدنيوي في هذا التمشي . إلا أن هالة الوردي لم تقتصر على هذا التواصل في تقاليد هذه المدرسة بل أدخلت تجديدا مهما في هذه القراءات وهو اعتمادها على منهجية السرد الروائي والحبكة القصصية في بناء تحاليلها. ولعل تخصص هالة الوردي في الآداب والفرنسية والدراسات الأدبية مكنها من إضافة تقاليد ومناهج هذا المجال العلمي إلى المدرسة التاريخية للموروث الإسلامي .ولقد اعتمدت هذا التجديد في دراستها الأولى كما في كتابها الثاني عن الخلفاء الراشدين .

والى جانب انخراطها وتجديدها للمدرسة التاريخية في قراءة الموروث العربي الإسلامي فان أهمية كتابي هالة الوردي تكمن في اهتمامها بفترة تأسيسية في التاريخ العربي الإسلامي سيكون لها اكبر التأثير ومحددة في المجال السياسي العربي والإسلامي. وفي رأيي فقد نجحت هالة الوردي من خلال دراستها للمراجع التاريخية في تحديد جانبين مهمين في التاريخ العربي والإسلامي . الأول يخص جوانب الوحدة والالتقاء التي ستكون الإرهاصات الأولى للمشروع العربي والثاني يخص جوانب الاختلاف والتناقض وحتى الفتن التي لاتزال قائمة لحد الآن .

في مجال الوحدة وخروج العرب والمسلمين من واقع القبائل المتشتتة إلى مجال الدولة المركزية والحاملة لمشروع سياسي وحضاري فقد أشارت هالة الوردي إلى عديد العوامل التي لعبت دورا مركزيا في هذا التحول التاريخي والقطيعة التأسيسية في تاريخنا . ومن جملة هذه العوامل اعتقد أن ثلاثا لعبت دورا أساسيا في بروز المشروع العربي والإسلامي .
الجانب الأول يهم الدور الأساسي لقبيلة قريش وتأثيرها في المسار التاريخي الذي سيقود هذا التحول . وأهمية دور قريش لا يقتصر على مكانتها الرمزية باعتبارها قبيلة الرسول وحامية الكعبة ومكة منذ القرن الخامس . كما أن تأثير قريش لا ينحصر كذلك في دورها الاقتصادي باعتبار هيمنتها على الطرق التجارية وتكوينها لثروات كبيرة في العصر الوسيط . كما أن هذا الدور لا ينحصر في الجانب الثقافي باعتبار التأثير الكبير لشعراء قريش على اغلب القبائل الأخرى بصورهم الشعرية ومعلقاتهم التي كانت تثير الإعجاب عند العرب الذين اعتبروهم لقرون طويلة أصواتهم .

لقد أشارت هالة الوردي في مؤلفها إلى جانب آخر مهم والذي لم يحظ بما يكفي من الاهتمام إلا من بعض المطلعين على خفايا هذه المرحلة . وهذا الجانب المهم هو الحس السياسي لدى قبيلة قريش مقارنة بكل القبائل الأخرى .فقد كانت قريش أولى القبائل التي وضعت إطارا اسمها دار الندوة والتي كانت قريبة من المؤسسات الحديثة حيث يلتقي أعيان قريش للحديث حول أهم القضايا السياسية وضبط اتفاقاتهم .

كما أن قريش استعملت المواثيق الدولية وحاولت فض الخلافات والصراعات بطرق سلمية من خلال اتفاقات كبرى مثل حلف الفضول الذي حضر الرسول المفاوضات التي قادت إليه إلى جانب أعمامه وصلح الحديبية (اتفاق وغيره من الاتفاقات والمواثيق الكبرى).

هذه المواثيق تشير إلى وجود حس سياسي متطور عند قريش مقارنة بالقبائل الأخرى التي بقيت محافظة على الحس القبلي والبدوي الذي يضع العنف والحروب كآليات لإدارة الحكم وحسم النزاعات . وقد هيأ هذا الحس السياسي وبدايات الوعي المدني قبيلة قريش للعب دور أساسي ومركزي في بناء وتأسيس المشروع العربي الإسلامي .

الجانب الثاني والذي لعب دورا مهما في ظهور وتأسيس هذا المشروع يخص الجانب المهم والأساسي الذي سيلعبه الدين الإسلامي وركائزه الأساسية من قرآن وحديث وسيرة نبوية في هيكلة المجال السياسي العربي .فقبيلة قريش وبالرغم من رمزيتها وحسها السياسي المتطور مقارنة بالقبائل الأخرى وهيمنتها على المسالك التجارية والاقتصادية مما مكنها من تكديس ثروات هامة فإنها لم تكن قادرة على توحيد العرب وعلى بناء سلطة مركزية ودولة جامعة ليبقى المجال السياسي مشتتا بين مختلف القبائل.

وستجد قريش في الإسلام والدعوة المحمدية المشروع والأساس الفكري لتوحيد العرب والمسلمين ونقطة الانطلاق في بناء الدولة والمشروع العربي . وهذا البناء ولئن انطلق مع بدايات الدعوة فانه سيتجاوز الجانب الدعوي مع موت الرسول ليدخل الجانب السياسي ويصبح الهدف من خلال الخلافة بناء الدولة الإسلامية وهيكلة المشروع السياسي العربي الإسلامي لقرون طويلة . وستكون مركزية الجانب الديني والعقائدي منذ ذلك التاريخ احد الجوانب الأساسية في هذا المشروع . وسيكون هذا الجانب مجالا للصراع والخلاف منذ القرن التاسع عشر وعصر النهضة بين قوى الإصلاح والحداثة وحركات الإسلام السياسي في المجال السياسي العربي والإسلامي .

الجانب الثالث الذي سيميز التجربة السياسية في المجال العربي والإسلامي يخص طبيعة السلطة. وقد أشارت هالة الوردي في كتابها الجديد إلى أن السلطة كانت أفقية يتداخل فيها العديد من الشخصيات عند القبائل العربية . إلا انه مع ظهور الإسلام ومركزية شخصية الرسول سينتقل الحكم إلى أشكال عمودية ومركزية تلعب فيها شخصية الحاكم الدور الأساسي . وستكون طريقة الحكم مجالا للصراع والخلاف بين الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة اثر وفاة الرسول . فلئن دافع الأنصار عن مبدإ تعدد أجهزة ومؤسسات الحكم كتعيين شخصيتين لخلافة الرسول فقد تمسك المهاجرون بمبدإ مركزية السلطة والذي سيكون الشكل الذي ستتخذه في دولة الخلافة ونظام الحكم الإسلامي منذ ذلك التاريخ .وستهيمن هذه الرؤيا على المجال العربي الإسلامي لتصبح الدولة المركزية والسلطة المهيمنة والتي ستتطور نحو الاستبداد ورفض التعدد والاختلاف إحدى خصائص النظام السياسي في المجال العربي والإسلامي . وستكون هذه الرؤيا محور النقد والرفض منذ عصر النهضة الى ثورات الربيع العربي للأحزاب السياسية وحركات المجتمع المدني والتي ستعمل على جعل الديمقراطية والتعدد وحق الاختلاف إحدى أسس النظام السياسي العربي الجديد.

تكمن أهمية كتاب وعمل هالة الوردي في عودتها للمرحلة التأسيسية للمشروع العربي والإسلامي اثر وفاة الرسول لتبحث فيها عن أسس هذا المشروع وجذوره العميقة . ولم يقتصر هذا البحث على مصادر الوحدة بل وقف كذلك على مصادر الخلاف والتناقضات والتي ستكون احد مصادر الفتنة والصراعات التي نعيش تطوراتها بين مختلف التعبيرات الإسلامية إلى اليوم .

وعلى أهمية هذا العمل التاريخي لهالة الوردي والجهد البحثي الكبير الذي بذلته فإنها في رأيي لم تعط للجانب الديني والانساني الاهمية التي يستحقها في قراءة هذه المرحلة المهمة في تاريخها . فعلى أهمية الجوانب التاريخية والدور الذي لعبه الصراع على السلطة فإنهما في رأيي لا يختزلان هذه التجربة الإنسانية والجوانب الروحية والنفسية والتي لعبت دورا مهما في تطور تجربتنا الفكرية والسياسية والروحية .
لقد طرحت علينا هالة الوردي تحديا كبيرا في كتابيها ودعتنا إلى قراءة جديدة للتاريخ والموروث العربي والاسلامي. ولقد بذلت في هذا العمل جهدا كبيرا . ولابد لنا من قراءة أعمال هالة الوردي بالكثير من الهدوء والعقلانية حتى نجعل من تاريخنا مجالا للبحث والنقاش من اجل إعادة اكتشاف وقراءة هذا التاريخ وفتح مسارات جديدة للمستقبل من خلال نقده .

المشاركة في هذا المقال