Print this page

برج بابل: بقلم: محمد جويلي النظام برُمَّته: القطع مع ثقافة الحنين إلى الاستبداد

النظام برمّته مقولة سودانية ظهرت إبان الحراك الشعبي الذي أزال المشير من موقعه. وتعني المقولة وبكل بساطة أن الحراك لا يكتفي

برأس النظام بل يريد النظام كلّه. والسودانيون لايزالون مصرين على اقتلاع رموز النظام ولذلك لم ينته حراكهم بعد. وككل سلطة سياسية استبدادية قائمة لا يتم التسليم دفعة واحدة. هناك ما يشبه التحايل أو الالتفاف على الحراك الشعبي لأن الأنساق الثقافية للسلطة عندنا تختزل الاستبداد في رأس الحكم وليس في مجمل العلاقات الاجتماعية التي تؤسس لهذا الاستبداد. وغالبا ما ننظر للاستبداد في الحقل السياسي دون غيره من الحقول والبنى التي تصنع ثقافة الاستبداد. هل ينتهي الاستبداد بتغيير حكم بحكم آخر؟ هل تكفي الإطاحة بالطبقة الجيولوجية الأولى من الحكم؟ أم ان الطبقات الراسبة هي الأخرى على استعداد لإعادة إنتاج الاستبداد؟

الجزائريون وحراكهم الشعبي لم يشذوا عن القاعدة. هم أيضا مع مقولة النظام برمّته. يعبرون عنها بشعار أصبح الآن مركز الشعارات في حراكهم «النظام قاع» أي كل النظام بالتعبير الجزائري الشعبي. وأردفوا ذلك بشعار «الباءات الثلاث» في إشارة إلى حرف الباء الذي يتصدر الألقاب العائلية لكل من رئيس مجلس الأمة الذي وضعه الدستور الجزائري رئيسا إلى حين تنظيم الانتخابات المقررة في جويلية القادم وكذلك الوزير الأول في الحكومة الجديدة وأخيرا رئيس المجلس الدستوري الذي أعطى الغطاء السياسي والدستوري لما تقرر في مجلس الأمة منذ أسبوع.

هناك مخاوف مشروعة في كل من الجزائر والسودان من التفاف ما بقي من النظام على طموحات الشعبين لتحقيق الخلاص النهائي من الاستبداد أو عودته بطرق مغايرة وتحت مسميات مختلفة. ليس مردّ هذا العود تغيير وجوه بوجوه أخرى فحسب، بل إنه تلك الثقافة التي تبقى راسبة في أذهان الناس والتي تجعلهم مع مرور الزمن قابلين باستبداد جديد بل وفي أحيان عديدة يأخذهم الحنين إلى استبداد سابق مثلما هو الحال عند بعض التونسيين. ولهذا لا يزول الاستبداد فقط بإزالة رموزه من الحكام بل يزول بإعادة مساءلة الثقافة التي يمكن في كل لحظة أن تعيد إنتاج الاستبداد.

انتاج الاستبداد طرحه الأنتربولوجي المغربي عبد الله حمودي في كتابه الشهير «الشيخ والمريد» وكان سؤاله المركزي: كيف يمكن ان نفسر أن تحكم مجتمعاتنا، من المحيط إلى الخليج بنيات سياسية تسلطية؟ وكأنه يقول وبطريقة أخرى كيف يمكن أن تقبل هذه الشعوب أن تحكمها أنظمة وتستبد بها لفترات زمنية طويلة؟

يجيب عبد الله حمودي على هذا السؤال بفرضية مفادها تسرب خطاطة ثقافية من مجال الصوفية والولاية إلى المجال السياسي. هذه الخطاطة الثقافية التي تستند إليها السلطة وتحرك ديناميتها هي في نظره علاقة الشيخ بالمريد. ولكن هذه العلاقة العمودية بين الطرفين لا تؤسس فقط للعلاقات السياسية بين الحاكم والمحكومين بل هي مبثوثة في العلاقات الاجتماعية في مستوى الاعتقاد وفي مستوى الفعل. نجدها في الإدارة وفي الأحزاب وفي المؤسسات المختلفة وفي الجامعات حين يتولى الشيخ تدريب مريديه على الإذعان والتقرب والتزلف والانبهار والتلقين طمعا في غنيمة وبحثا عن رضا وعن جاذبية وإجلال. على المريد الذي يسعى لنيل قبول شيخه ان يستسلم له رمزيا، وثمة قواعد ومعايير مضبوطة لهذا الاستسلام.

هكذا تتشكل السلطة الاستبدادية وتستحوذ على الطاقة الجبارة لجعل الناس خانعين لها وقابلين بها دون تردد بل ويصل الأمر في سياقات معينة إلى التأكيد على جدواها وعلى حيويتها ويطالبون بها للعودة في الأزمات. يحدث هذا في تونس وفي ليبيا وفي مصر. أما المتمسكون بمقولة النظام برمّته فإنهم ما أن يجربوا عهدا جديدا لما بعد الاستبداد وفي أول أزمة كبيرة فإنهم سيصابون بالحنين إلى الماضي الاستبدادي بعناوين مختلفة ولعل أهمها أننا لم نخلق للديمقراطية.

المسألة هنا ثقافية، ويعني ذلك أن الحلّ في الثقافة، أي في مضمون الرموز التي نؤول بها مختلف الديناميات الاجتماعية التي تجري بها حياتنا وتفاعلاتنا اليومية. وبالرغم من وجاهة مقولة على النظام أن يرحل برمّته مثلما هو مطلوب وبشدة في الجزائر وفي السودان الآن فإن عملا شاقا ينتظر الجميع لمرحلة ما بعد النظام برمّته. لا يهمنا النظام برمّته بالقدر الذي يهمنا

القطع مع ثقافة الحنين إلى الاستبداد.

المشاركة في هذا المقال