Print this page

الجزائر: وصراع الأجهزة...

محجوب لطفي بلهادي
باحث متخصّص في التفكير الاستراتيجي

«الجيش الجزائري يمثّل العمود الفقري للبلاد والمخابرات نخاعها الشوكي»، قولة شهيرة ردّدها الرئيس الراحل «هواري بومدين» من شأنها ان تميط اللثام عن إحدى أهم مناطق الظلّ من المشهد الجزائري الرّاهن ...

من كان يعتقد للحظة أن رياح التغيير التى تعصف بالعديد من الأنظمة العربية ستطال تضاريس الجزائر الوعرة (جزائر جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني وفق منطوق ديباجة الدستور الجزائري)؟ من كان أيضا يمكن أن يصدق ولو للحظة أن «بوتفليقة» ستتخلى عنه نفس المؤسسة العسكرية التى صنعته سنة 1999 وأسندته لأربع فترات رئاسية متتالية؟ كيف تم ذلك وبهذه السرعة القصوى ؟ ألم يسبق الطوفان البشرى الاحتجاجي الذي أغرق مختلف المدن الجزائرية إشارات قوية تنذر باقتراب تاريخ انتهاء صلاحية وصفة الحكم بالجزائر بانفراط عقد زيجة المتعة بين المؤسسة العسكرية وقصر المورادية الرئاسي ؟ والأهم من كل ذلك ما علاقة ما يجرى بالجزائر بصراع الأجهزة الاستخبارية ؟ ألم تكن هذه الصراعات التى أصابت النخاع الشوكي للبلاد حسب توصيف «بومدين» عاملا حاسما في التسريع من وتيرة سقوط الرئيس وجزء من بطانته المقربة ؟ أي مستقبل للحراك الشعبي فى ظل أصوات عديدة تنادي بالتغيير الجذري والشامل لمنظومة الحكم على غرار شعار «تتناحاو قاع» (أي ترحلون جميعا) ؟ وأخيرا أليس من الممكن إتباع نهج انتقالي مغاير بمواصفات جزائرية محضة تنأى بالبلاد عن شبح العسكرة الشاملة وعن المغامرات غير المحسوبة النتائج لأحزاب سياسية منها المخترق ومنها ما لم يشتد عوده بعد ؟

1 - صراع الأجهزة الاستخباراتية
يمكن اختزال صراع الأجهزة فى ثلاث مراحل رئيسية قد تليها مراحل أخرى فى المنظور القريب...

- المرحلة التأسيسية
من المعلوم، على الأقل لدى المتخصصين فى الشأن الجزائري، أن الأجهزة الاستخبارية الجزائرية ولدت من رحم «جبهة التحرير الوطني» منتصف خمسينات القرن الماضي بمبادرة من العقيد «عبد الحفيظ بوصوف» الذي يعدّ الأب المؤسس للمخابرات الجزائرية دون منازع...مرحلة تركزت على وضع اللبنات الأولى لجهاز استخباراتي تحت مسمى MALG قادر على معاضدة المجاهدين على مستوى جمع وتحليل المعلومة ، على إثرها انطلقت حرب المواقع داخل الأجهزة بين رفاق الأمس خصوم اليوم...

- بدايات الصراع الحقيقية
منذ استلام هواري بومدين الحكم سنة 1965 وفى قلب الحرب الباردة عرفت الأجهزة هيكلة جديدة شبيهة الى حد الاستنساخ بالمنظومات الاستخباراتية الصارمة التابعة للمعسكر الشرقي أنذاك، هيكلة فرضتها نتائج معركة حقيقية ومباشرة بين الرئيس «بن بله» والمؤسسة العسكرية فى شخص العقيد «هواري بومدين» محورها من يضع يده على الأجهزة الاستخباراتية انتهت بتصفية الأب المؤسس «عبد الحفيظ بوصوف» وولادة جهاز استخباراتي قوي وموحد تحت مسمى «الأمن العسكري» بقيادة «قسدي مرياح» تلميذ «عبد الحفيظ بوصوف» والمعاون الوفي والمخلص للرئيس «هواري بومدين» لتمتد فترة إشرافه على الجهاز من سنة 1962 الى شهر فيفري من سنة 1979 قبل ان يتم اغتياله سنة 1993 في ظروف وملابسات ظلت غامضة الى اليوم ..

- احتدام الصراع
سجلت فترة الثمانينات من القرن الماضي دخول الجزائر منطقة الزوابع وعدم الاستقرار السياسي مما دفع بالجنرال ووزير الدفاع «خالد نزار» مطلع التسعينات الى إجراء تعديلات جوهرية في تركيبة جهاز «الأمن العسكري» واستبداله بما يعرف «بقسم الاستعلامات والأمن DRS « Département de Renseignements et de Sécurité  وتعيين على رأسه الجنرال «محمد مديان» المعروف باسم «الجنرال توفيق» الذي دخل بدوره فى صراع تموقع محموم فى مواجهة الجنرال رئيس الأركان الحالي «أحمد قايد صالح» الى ان تمت إقالة «توفيق» من مهامه بتاريخ 13 سبتمبر 2015 وتعيين الجنرال «عثمان ترتاق» المعروف باسم «البشير» مكانه (يبدو ان هناك تقليد داخل الأجهزة الجزائرية فى اعتماد أسماء حركية لرؤساء الاستخبارات الجزائرية) تلتها عملية إلحاق «قسم الاستعلامات والأمن» الى مصالح «رئاسة الجمهورية» فى محاولة لتجريد الجيش الوطني وبالتحديد الجنرال « قايد صالح» من احد أهم أذرعته الأمنية وتقوية الجناح المؤيد للجنرال «البشير» المدعوم مباشرة من شقيق الرئيس «سعيد بوتفليقة» الحاكم بأمره بقصر المورادية حينها.. وبفعل الحراك الشعبي الذي انطلق في فيفري الماضي وما افرزه من خلط كامل للأوراق استعاد الجنرال «قايد صالح» زمام المبادرة وقام بإعادة دمج «قسم الاستعلامات والأمن» ضمن المؤسسة العسكرية الأم...
بالمحصلة، عاشت أجيال وأجيال من الجزائريين على إيقاع أكثر المسلسلات إثارة، أبطالها شخوص نافذة، صانعة للسياسات ولرجال الدولة على مرّ العقود.. ينتمون لنفس الجيل تقريبا..خريجي المدارس الحربية السوفياتية العليا ..نجحوا بدرجات متفاوتة لا فقط في إسقاط المخططات الإرهابية الكبرى التي عرفتها الجزائر فى تسعينات القرن الماضي بل في بناء قوة استخباراتية ضاربة يقرأ لها ألف حساب على المستوى الاقليمى والدولي.. بالمقابل أخفقوا أيّما إخفاق فى إدارة الصراع فيما بينهم والنأي به عن مربع السلطة...
فان كان تاريخ بلادنا شديد الاقتران «بالحزب الحر الدستوري» والشخصية القيادية للزعيم الراحل بورقيبة، فان الذاكرة الجمعية للجزائريين لاتزال تحفظ بأحرف ذهبية الدور الطلائعي الذي لعبه جيش التحرير الجزائري فى حسم المعركة مع المستعمر الفرنسي وفى بناء الدولة الجزائرية الحديثة.. شرعية تاريخية متجذرة قد تفسر استمرار هيمنة المؤسسة العسكرية على المشهد السياسي بالجزائر..شرعية هي اليوم بأمس الحاجة للتجديد ضمن معادلة تحفظ للجيش هيبته ومكانته الريادية وللشعب حقه فى اختيار ممثليه وذلك على غرار التجربة النموذجية للجيش التونسى في هذا المجال.

2 - فاعل جديد على السطح
تؤشر رسائل البحث -فى درجة الماجستير والدكتوراه- خاصة ذات العلاقة بعلوم الحاسوب والعلوم السياسية والاجتماعية الى المستوى البحثي المرموق الذي بلغته الجامعة الجزائرية، مستوى شبيه بالطفرة التربوية التى عرفتها بلادنا فى سبعينات وثمانينات القرن الماضي.. طلائعها شباب مولع الى حد الهوس بالثقافة الرقمية .. يتحرك بذهنية انسيابية تحررية في تماه كامل مع الهندسة المفتوحة للشبكة العنكبوتية..ذهنية لا يحكمها مركز قرار واحد بل مراكز طرفية متعددة ومشبّكة فيما بينها ..شديدة التأثر بالتجربة التونسية في الاحتجاج الافتراضي.. خرجت للشوارع عبر بوابات وشبكات التواصل الرقمية معلنة عن بداية ساعة جزائرية مجتمعية جديدة.. تتحكم فيها غريزة وعنفوان كنس الماضي بالكامل..تتحسس طريقها بين مطرقة وسندان حماسة الحشود الراديكالية..دخلت فى معركة شطرنجية تتطلب حدا ادنى من القدرة على المناورة والصبر..تريد أن تسقط «الملك» بحركة عبثية واحدة في عالم تحكمه نظريات الفوضى والتعقيد والتداخل ..طريق خلاصها الوحيد التفاعل العقلاني والابداعي مع اكراهات وتعقيدات اللحظة الجزائرية الراهنة...

3 - بين الفانتاسما والممكن...
من الأكيد ان بين ما نرغب في تحقيقه وما هو متاح عمليا بونا شاسعا..فان كانت جميع صور رؤساء الجزائر تم تحميضها بمختبرات المؤسسة العسكرية فان للحراك مساحة وهامشا للمناورة لا يستهان به...
فعوض إقحام البلاد في المجهول باستنساخ التجربة التأسيسية التونسية البائسة - بالمناسبة أنصارها كثيرون داخل الحراك الشعبي - وما سيترتب عن ذلك من اختطاف الأحزاب للإرادة الشعبية أو اختيار المواجهة المباشرة مع الجيش فان الدستور الجزائري قد يشكّل طوق النجاة للجميع – حراك وعسكريين على حد السواء – كيف ؟
فان تمت استقالة بوتفليقة بمقتضى أحكام المادة 112 من الدستور فانه من باب أولى وأحرى الاحتكام إليه مرة ثانية لتأمين انتخابات رئاسية حرة ونزيهة من خلال الضغط بالطرق الاحتجاجية السلمية لتفعيل حقيقي وشفاف للمادة 194 من الدستور التى تنص على ضرورة إحداث «هيئة عليا مستقلة لمراقبة الانتخابات» تترأسها شخصية وطنية يتم تعيينها بعد استشارة الأحزاب وبتركيبة تتألف من قضاة يقترحهم المجلس الأعلى للقضاء وكفاءات مستقلة يتم اختيارها من ضمن المجتمع المدني...
وباستكمال الاستحقاق الرئاسي المقبل وفق معايير الحياد والشفافية يمكن للحراك أن يتطلع للمرور الى جمهورية ثانية بطريقة سلسة، جمهورية المؤسسات الدستورية الفاعلة والمحترمة من الجميع...
فى انتظار تحقيق ذاك فان سماء الجزائر الأبية تحلق من فوقها هذه الأيام العديد من الغربان السود
حذار ثم حذار من اللعب بالنار ...

المشاركة في هذا المقال