Print this page

منبــر: النداء وعقدة المؤتمر..رواية من الداخل

بقلم: خالد شوكات
قيادي في حركة نداء تونس
طرح موضوع المؤتمر على حركة نداء تونس منذ سنة 2013، حيث قام الرئيس المؤسس الباجي قائد السبسي

بتشكيل أول لجنة وطنية للتفكير في المؤتمر، جرى تحويلها لاحقا في السنة نفسها الى لجنة وطنية للاعداد للمؤتمر، وقد كان لي شرف عضوية كلتا اللجنتين وان اشغل فيهما موقع «المُقَرِّر» المسؤول عن صياغة جميع الوثائق الناتجة عن اشغالهما، وهي وثائق ما تزال صالحة الى هذا اليوم، باعتبارهما قانونيا جزءا من أدبيات الحزب، واذكر هنا إنني كلفت بعرض اعمال اللجنة في اجتماع للمكتب التنفيذي ووجد العرض ترحيبا وتأييدا واسعا من جلّ القيادات الندائية، التي اقتنعت بأنه لا مستقبل لحزب لم ينظم مؤتمره التأسيسي.
وبمناسبة الذكرى الثانية لتأسيس الحركة، وفي أفق انتخابات 2014، وفي شهر جوان تحديدا من ذلك العام، كلفت بإعداد مشروع لتنظيم مؤتمر وطني، قمت بعرضه شخصيا على الرئيس المؤسس في منزله الخاص بضاحية سكرة، بحضور عدد ضيّقٌ من القيادات الندائية حينها، وانتهى العرض بما قدرنا في حينها انها موافقة من سي الباجي على عقد المؤتمر الوطني قبل انعقاد الانتخابات التشريعية والرئاسية، فقد كان دافع الحماسة والتصميم على عقد المؤتمر الخوف من ان يصل النداء الى الحكم - كما هو متوقع حينها- دون وجود مؤسسات حزبية قوية وقادرة على حماية الحركة من اي مفاجآت قد تحدث جراء مقتضيات السلطة، وقد صدقت التوقعات في جانبيها، اي الفوز والحكم، وانتهى النداء الى ما هو عليه اليوم من ضعف وهوان، وعلى الرغم من ابداء الرئيس المؤسس موافقته المبدئية على عقد المؤتمر الا انه سرعان ما تراجع جراء ضغوط مجموعات ندائية رأت في الامر مؤامرة بغاية تصفيتها.
فما الذي حال دون تنظيم مؤتمر في حضرة الرئيس المؤسس، كان بمقدوره ان يزود الحركة بمؤسسات تقيه برد الحكم والسلطة، وتحول دون هذه الرداءة والانهيارات والانشقاقات التي زعزعت الثقة في حزب يفترض انه وارث حزب الحركة الوطنية والاصلاحية التونسية وممثل المدرسة الدستورية العريقة؟ وما الذي ما يزال يحول دون قدرة النداء على تنظيم مؤتمر وطني مقنع حتى تحوّل الأمر الى ما يشبه العقدة الندائية المزمنة؟

وقبل الإجابة عن هذا السؤال، وهو ما تروم هذه الورقة تقديم محاولة فيه، عليَّ الاعتراف بأنّ مخيّلتي لم تسعفني يوما لتوقّع المستوى الهابط الذي أدركته الممارسة الحزبية والعبثية السياسية التي تابعتها خلال السنوات الاخيرة، فهو وضع فاق كل التصوّرات والتقديرات مهما كانت جانحة في استشراف السوء والانحطاط، حيث استبيحت جميع الوسائل وجرى الاستهتار بكافة القواعد والاعراف والأخلاقيات، وتحوّل الخلاف في وجهات النظر بين القيادات الندائية المؤسسة حول قضايا أساسية أصلية أو مستجدّة من بينها المؤتمر، الى معارك كسر عظم غير مشرّفة، غالبا ما انتهت الى انشقاقات فرّخت أحزابا سياسية جديدة او انسحابات حرمت النداء من خيرة كفاءاته وخبرائه في عديد الاختصاصات التي يحتاجها الحزب والدولة، ولعل اكثر ما في هذا الامر من خطورة، هو ان معالم هذا المشهد الندائي ما تزال قائمة، وان ذات المنطق ما يزال يقود الشأن الندائي في الظاهر والباطن، مما لا يدفع كثيرا الى التفاؤل بان النداء قادر على فك عقدته مع المؤتمر في الأجل المعلن أو في أجل لاحق قريب، لكن المستحيل ليس ندائيا كما يحلو لبعض القيادات الندائية الوفيّة القول.

إن ما أدّى خلال السنوات الست الماضية الى عجز النداء عن تنظيم مؤتمر وطني مقنع، لم يعدم الى حدّ الساعة، ان لم نقل ان العوامل المعرقلة قد تفاقمت اكثر، وهي عوامل منها ما يتصل بخصائص النداء، ومنها ما يتعلّق بخصائص الانتقال الديمقراطي، ومنها ما ينبع من خصائص الشخصية التونسية، ولعلّه بمقدورنا ايجاز أهمّها كما يلي:
أوّلاً: ان ايماننا بالتنوع في إطار حركة قامت واكتسبت هويتها وخصوصيتها باعتبارها حركة متنوعة الروافد، كان ايمانا سطحيا وظاهريا وصوريا وظرفيا، اكثر مما هو ايمان عميق وباطني وبنيوي ودائم مثلما يقتضي الحال، وبالتالي فقد كان التجمع الندائي تجمع أطراف كلّ واحد منها يضمر الشرّ للطرف الاخر متى ما تغيّرت الظروف والمعادلة، وكان هنا منطق المغالبة هو السائد في العقل الباطن، مما جعل المؤتمر أشبه بالمشروع الانتقامي في نظر أحد الروافد، والمشروع الإقصائي لدى رافد اخر، الامر الذي يتناقض تماما مع وظيفة المؤتمر الأصلية، فالمؤتمر مناسبة لولادة الأحزاب في بعض الاحوال، ومناسبة لتقوية الأحزاب في احوال اخرى. ومن هذا المنطلق على الندائيين التسلّح بقناعة مفادها ان النداء يجب ان يظل متنوعا، وان المؤتمر عليه ان يكون ضامنا للتنوع ومكرّسا له مؤسساتيا، وهو ما لا يمكن تحقيقه الا بالاعتراف المتبادل بين الروافد الندائية والاتفاق على اليات تمثيل شامل للجميع في مؤسسات الحركة.

ثانيا: ان جزءًا من المشكل مردّه مناخ حزبي ملبّد بغيوم الشكوك والتخوين وهواجس امنية وأوهام تروِّج لها بعض العقليات المريضة التي تشكّلت غالبا في ظل العهود السابقة للثورة، والتي غالبا ما تتحدث عن اختراقات ومؤامرات ومخططات داخلية وخارجية لضرب الحركة او توظيفها او تطويعها، وعندما تسود هذه الأجواء المسمومة تذبل الافكار الايجابية وتموت روح المبادرة البناءة وتحاصر الكفاءات وتتراجع المشاريع المفيدة ويطغى اهل الرداءة ممن لا يستمرون الا في مثل هذه الفضاءات غير الطبيعية، وعلى الرغم من خروج ثمانين بالمائة من القيادات الندائية الا ان اجواء العشرين بالمائة الباقية ما تزال متشبثة الى الان بذات الأجواء، ولم يخل امر الأقلية المتشبثة بالنداء من منغصات الانقسام والصراعات غير المبررة، فكيف لأجواء الانقسام ان تقود الى مؤتمر مقنع كما نرجو.

ثالثا: ان احد اهم مصادر الأزمة الندائية غلبة المفاهيم المنحرفة للظاهرة الحزبية وللحكم والسلطة، فالعقل السياسي الموجه لكثير من القيادات الندائية مشدود لمحدد «الغنيمة» اكثر مما هو مشدود لـ«مشروع حضاري وطني» يهدف الى التقدم بالوطن وإلحاقه كما يقول الرئيس المؤسس بركب الامم المتحضرة، فبدل ان يلتزم النداء ببرنامجه الانتخابي الهادف الى إنقاذ الاقتصاد الوطني، اصبح غاية عدد كبير من قادة النداء وممثليه في مؤسسات الحكم نيل نصيبهم من كعكة المصالح ومواقع السلطة واستنزاف ما تبقى مما خلّفه النظام السابق من ثروة. ولهذا فقد انتصر اهل «الغنيمة والتكمبين» على اهل «القدرة والكفاءة»، وتقدّمت المشهد الندائي شخصيات «غنائمية» لن يكون بمستطاعها مساعدة النداء على بلوغ مؤتمر وطني مقنع أبدًا، ولن تفضي سيرتها كما أشير سلفا، الا لما يتفق مع مصالحها في البقاء مدة أطول في السلطة التي وحدها تضمن حماية هؤلاء من شرور الشبهات التي تحوم حولها وتنغص عيشها.
وفي الختام، لا مناص من القول بان المؤتمر ليس مجرد اعلان نوايا حسنة او تحديد موعد له، قد يؤجل مرة أولى وثانية وثالثة بتعلّات غالبا ما تشير الى الأسباب الأصلية او تتحاشى ذكرها، فالمؤتمر هو السلطة الأعلى التي يتوقف على حسن ادائها مستقبل الحزب، وعلينا الوعي بانه دون تفاهمات سابقة صلبة بين الروافد الندائية، يسبقه اعتراف قوي متبادل واتفاق على تكليف الأكفأ مسؤولية الاعداد والتنظيم والقيادة والتسليم لاحقا بقواعد اللعبة بكل روح رياضية، فان النتيجة لن تكون أبدًا مرضية.. والحق أقول ان المقدمات التي تابعتها طيلة الأشهر الماضية لا تبشر أبداً بخير، وان المحصلة بالتالي
لن تكون كما نتمناه بالصورة المأمولة.. على الرئيس المؤسس ان يدرك ان النداء لن يستمر الا اذا اعتمدنا قاعدة النزاهة والشفافية والكفاءة، وربطنا الحزب بمشروع الوطن الحضاري الذي يبقى الغاية العظمى.

المشاركة في هذا المقال