Print this page

حادث وحديث: في الكــــــــــرامة ...

في مداخلة أتاها الأستاذ عبد الجبّار بسيّس مؤخّرا في كلّيّة الاقتصاد والتصرّف بتونس ضمن محاضرات

تقييميّة لما كان للثورة التونسيّة من تبعات اقتصاديّة، قال الأستاذ المتميّز، بعد التذكير بما كان من نتائج للثورة الفرنسيّة والروسيّة، أنّ الثورة التونسيّة كان لها الفضل في التأسيس لقيمة اجتماعيّة مهمّة وهي «الكرامة»... لم أحضر الأمسيّة ولا أدري ما يعنيه بسيّس. حسب الأستاذ بكّار غريب وكان عشيّتها ضمن الحضور، الكرامة هي ذاك الشعار الذي أشعل الناس يوما في مظاهرات ملتهبة أطاحت بالحكم...

أكلت أصابعي على تغيّبي. مرّة أخرى أضيّع فرصة للتعلّم. أنا متقاعد وكان عليّ أن أحضر المحاضرات كلّها. في المحاضرات ألتقي بالناس وآخذ منهم معرفة ومنهجا...

ما معنى الكرامة ؟ أعلم أن الحرّية والكرامة كانتا شعار المظاهرات كلّها. لكن لم أسأل ما المقصود بالكرامة وهل الناس على اتّفاق في المعنى؟ شدّني السؤال. ها أنا أنظر في القواميس وفي الشبكة. أسأل صحبي... في ما أرى، الكرامة هي «عزّة النفس». هي ذاك الشعور بالأنفة. تحصل الكرامة لمّا يكون الفرد مصانا، محترما. له سموّ في النفس ونبل. الكريم لا يرضى المهانةّ ولا يقبل الحقارة...

صباح أمس الخميس، باكرا، ذهبت كعادتي مع زوجتي والسيّدة الى المسلك الصحّي بالمنزه واحد حيث نمشي ساعة. هي عادة حسنة لمن تقدّم به العمر وشدّ وهن جسمه... على غير العادة، لقيت بشرا منتشرا. في الفضاء هناك هرج ومرج. هناك تصفير وعياط. سألت صاحبي المنصف فقال: « ألا تعلم، غدا مباراة الترجّي مع الأهلي. جاء الشباب باكرا لاشتراء التذاكر». كان الزمن ظلاما ولا ترى غير الشباب أفواجا يمشي ويجيء. يجري. كثر الصياح والصخب وهذه شرطة في كلّ مكان لها صفير مفزع وأضواء حمراء تشتعل. هذا شباب يتدافع. متراص. طوابير لا تنتهي. زحام لم تره عيني. عشر سيّارات شرطة وأكثر مملوءة بوليسا. هذا شرطيّ على درّاجة ناريّة في تاهّب. هذا كلب وحشيّ في يد صاحبه، ينبح. كان الشباب والصبية كالجراد. بين تجمّع وتفرّق. هذه طوابير لا تنتهي. هؤلاء أعوان أمن يدفعون الخلق. يسدّون المنافذ في جهد، يشدّون الحواجز وهم في عرق يتصبّب. هذا ليس بشرا. هذا زحف جراد. هجوم بني هلال. بعضهم، فوق الحواجز، يقفز، يكسّر، لا يهمّه أمر. بعضهم يدوس النبات والشجر. كلّهم يقولون من الكلام الغليظ أنواعا شتّى. كنت وزوجتي والسيّدة وكلام الشباب حولي كالرعد يقصف، كالصخر يرميه الشباب العتيّ في كلّ صوب. في قلبي بعض خوف. يجب أن أعود الى البيت. يجب أن أنهي الحصّة...

منذ زمن بعيد، تجري في تونس مباريات ريّاضيّة. في كلّ مرّة، تحصل فوضى وعنف رغم ما كان من شرطة وحرس. ألا من حلّ لهذه المعضلة؟ لماذا لا نعيد النظر في سبل بيع التذاكر وفي العالم هناك طرق أخرى أرحم وأنجع؟ لماذا لا تباع التذاكر عبر الأنترانت؟ لماذا لا تباع في مراكز متفرّقة؟ أظنّ أنّ هناك نفعا مخفيّا في الابقاء على هذه الفوضى. أظنّ أنّ هناك مستفيدين من هذا المنحى.

نظرت في أعين هذا الشباب الهائج، المتحمّس. تابعت ما يأتيه هؤلاء الصبية من عفس، من تسلّق، من سبّ. استمعت الى ما يقولون من كلام بغيض، من بذاءات مختلفة. رأيت ما تأتيه الشرطة من كدّ وجهد لوقف الطوفان، لتنظيم ما انفلت. انصت لقول البعض منهم. سألت البعض منهم. فكّرت... تذكّرت «الكرامة» التي هزّت الشوارع أيّام الثورة وأطاحت بالحكم. تذكّرت ما جاء في قول الاستاذ بسيس.

أنا أسأل عن أيّ كرامة يتحدّث استاذنا الجليل؟ أنا أسأل هل أصبحنا اليوم أكثر كرامة ممّا كنّا؟ لا أدري. لا أعتقد. ما رأيت اليوم فجرا في المنزه واحد هو العكس. رأيت شبابا سكنه البؤس. تنظر فتراه في حلّ من الدنيا. في عينيه سحابة غيم. شباب هائم. سارح. معلّق بين السماء والأرض...

كيف التأسيس للكرامة وهذه بطالة منتشرة وكيف بناء عزّة للنفس وهذا فساد في الحكم وفساد في الشعب ورداءة عامّة، مشتركة... الكرامة تتأسّس بكسب الوعي، بالعمل المجدي، بالتكوين الممكّن. تكون الكرامة لمّا يصبح الانسان محترما لنفسه ولغيره، حين يؤمن بما له من قدرة، حين تراه يدرك ما له من حدود. مجتهدا في الأرض يسعى. هو عبد واع. له نظر. هو يفكّر...

المشاركة في هذا المقال