Print this page

صوفية تونس والثورة .. من تهديدات الإرهاب إلى قيم الأحباب ..

حرّكت الثورة التونسية جميع السواكن والفئات والقطاعات في المجتمع بعد اندلاعها أواخر سنة 2010

ليسمح المنسوب اللامحدود من حريّة التعبير حتّى يقول كلّ مواطن بصفته الذاتية أو بصفته الإنتمائية لتنظيم أو حزب أو جمعية مدنية أو إيديولوجيا أو مذهب ما يريد قوله حدّ التصارع والحقد وانشطر التونسيون أجزاء عدّة.

ويعدّ أهل الطرق الصوفية جزءا من هذا الطيف الذين كانوا قبل الثورة ممن ينشطون باحتراز داخل زواياهم تحت مراقبة لصيقة من السلطتين الأمنية والسياسية في عهد الرئيس السابق وحتّى في عهد بورقيبة واقتصرت أنشطتهم على أذكارهم وأورادهم وإحياء المناسبات الدينية خاصة المولد النبوي الشريف دون أي عداء للسلطة القائمة مع اضطرار مشائخهم لمجاملة السلطة أحيانا حفاظا على وجودها ودوام نشاطها وحماية لأتباعها من المتابعات الأمنية تمييزا لهم عن نشطاء الإسلام السياسي ..

وللتذكير فقد ظهر أهل الطرق الصوفية في تونس منذ زمن قديم في كامل أنحاء البلاد في شمالها و جنوبها وشرقها وغربها وشمل التصوّف الرجال والنساء ،وبقيت آثارهم إلى عصرنا الحديث ،فهناك القادريّون أتباع الطريقة القادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني وكان من أتباعه في شمال تونس الإمام المنزلي وهو أول من أدخل الطريقة القادرية إلى تونس وفي الجنوب التونسي بالجريد وُجد القادريون بشكل ملحوظ وانتشرت الزوايا لعلّ أبرزها زاوية سيدي المولدي المدفون بمدينة توزر التي ظلّت إلى يومنا هذا تدرّس القرآن, وظهرت بتونس أيضا الطريقة الشاذلية نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي حوالي القرن السابع هجري وقد دخل إلى طريقته في تونس العديد من الرجال والنساء ومنهم من بقيت أثارهم تذكر حتى اليوم ومن مريديه المشهورين الشيخ عبد الرحمان السبتي ومن مريداته المشهورات السيّدة المنوبية مدفونة في جهة السيدة بتونس العاصمة.

وظهرت في تونس أيضا الطريقة العيساوية نسبة إلى الشيخ محمد بن عيسى المكناسي وقد وقع تحريفها اليوم إذ قلّ نشاطها الديني وارتكز نشاطها على استعراض الفلكلور .

وكذلك طريقة الشيخ عبد السلام الأسمر والتي تسمّى بالسلامية ولكل هؤلاء زاوية ومريدون يلتقون فيها ويذكرون الله ويقيمون حلق الذكر فيها ثمّ تحوّلت إلى فرق غنائية فلكلورية صرفة .وفي القرن العشرين عادت إلى تونس الطريقة الشاذلية عن طريق أتباع الشيخ أحمد العلاوي الجزائري توفي 1934 لتسمّى بالطريقة المدنية التي أسسها الشيخ محمد المدني-1888 /1959- بقصيبة المديوني سنة 1910 ولا تزال متواصلة إلى اليوم في كامل تراب الجمهورية ..

أمّا بعد الثورة فواصلت مختلف الطرق الصوفية نشاطها العادي لكن بتخوّف وباحتشام حيث بدأت تتلقّى المضايقات من جماعات السلفية والإسلام السياسي والوهابية بعد شنّهم لهجوم كاسح على الجوامع والمساجد والمنابر باحتلالها واستقدام شيوخهم وتوزيع كتبهم وبثّ فكرهم العدائي للتصوّف والتزكيّة القلبية ومطوياتهم وإقامة خيماتهم الدعوية وإزداد الهجوم ضراوة على صوفية تونس من هؤلاء خاصة بعد تعمّدهم حرق ما يناهز 100 مقام من مقامات الأولياء والصالحين وهدمها وتكفير مرتاديها وزوارها وبعد مساعيهم إبطال الاحتفالات الصوفية بالمناسبات الدينية خاصة مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ..

لكن هذه الحملات المسعورة على صوفية تونس لم يطل أمدها بل تصدّت لها مختلف الجهات من إعلام ومجتمع مدني وسياسيين والمنتسبين للزوايا خصوصا حين اتخذت هذه الحركات السلفية وجماعة الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية من العنف والتكفير والتفجير والتقتيل والذبح نهجا جديدا لخلخلة البلاد وضرب هويتها وتغيير نمطها المجتمعي آنذاك احتدتّ المواجهات وصارت محاربة الإرهاب أمنيا وعسكريا إلى جانب المقاربات الفكرية التي تبنّاها واشتغل عليها البعض القليل من الطرق الصوفية وبعض أتباعها ممن يحملون الفكر المعتدل والزاد المعرفي والآليات التواصلية ويؤمنون بضرورة الحضور للعلن في المنابر الإعلامية والفضاءات العامة لأنّ أغلبها اختار الانزواء والتقوقع واعتبار التصوّف خصوصية فردية مع الإقتصار على الجماعة الذاكرة الزاهدة الضيّقة الملتفّة حول شيخ مغطّى برداء الغموض والتقيّة ..
وقد ركّز البعض من أهل التصوّف الذين اختاروا خوض غمار المعركة الدفاعية عن التصوّف السنّي والهويّة الوطنية بعد هدوء عاصفة الإرهاب والتطرّف في بلادنا على الإشتغال على مهمّتين :

• بيان سلمية الإسلام .. ولا عنف التصوّف ويقين الصوفية أنّ الإسلام جاء لإحياء النفوس ...لا لقطع الرؤوس..عندهم ..الإسلام جاء للحياة ..جاء لتعمير الأرض والحفاظ على إنسانية الإنسان وكرامته ...فدعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دعوة للحياة ..قال تعالى «إذا دعاكم لما يحييكم»
لكن لا يعني هذا أن الفكر الصوفي لم يندّد بالعمليات الإرهابية ولم يحتجّ على عملية القتل والإجرام التي ضربت تونس ولم يدافع أصحابه عن أنفسهم وعن دينهم من الأذى والعدوان ...كما أن نشر الدعوة المحمدية واجب ولم تكن عملية النشر بالسيف كما يدعي البعض بل كانت بالحلم وبالعلم ...
كما لا يجب أن يذهب في ذهن الكثير من الناس عندما يذكر ‹الصوفية› أنهم عملاء للإستعمار كما روّج البعض أو أنّهم هؤلاء الدراويش المنقطعين عن الدنيا البعيدين كلّ البعد عن الدفاع عن الأوطان ضد المستعمرين والغزاة، والحقيقة التاريخية الناصعة أن الصوفية كانوا رواد الجهاد وقادته الأوائل في كل مراحل التاريخ الإسلامي منذ العصور الأولى مرورا بفترات الغزوين الصليبي والتتري ثم في صراع المسلمين مع الروس في أواسط آسيا، وأخيرا في إفريقيا شمالها ووسطها وبلاد الشام ومصر ضد الاستعمار الأوروبي الإنجليزي والفرنسي والإسباني والبرتغالي، والذي امتزج بالتنصير والتغريب، وكان غزوا عسكريا وثقافيا ودينيا وحضاريا، ولم يكن يصد هذا الغزو بكل مفرداته سوى كتاتيب الصوفية وربطهم -جمع رباط- وزواياهم الفقيرة البسيطة...وسوى أعلام التصوّف بدءا من نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي و القائد الظاهر بيبرس أعلام الجهاد ضد الصليبيين والتتار، مرورا بيوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين الذي صدّ الزحف الصليبي الأسباني عن المغرب العربي، وانتهاء بالأمير عبد الكريم الخطابي والأمير عبد القادر الجزائري قادة الجهاد ضد المستعمرين الأسبان والفرنسيين في المغرب والجزائر، والشهيد عمر المختار - الذي جعل من زاويته الصوفية الكبرى في واحة الجغبوب في ليبيا مقراً ومركزاً للعمليات العسكرية ضد المحتلين الطليان حتى استشهاده- ، والشيخ أبي الحسن الشاذلي وغيرهم ..

• بناء القيم الأخلاقية الإنسانية المفقودة في الوطن حيث كانت الصوفية جامعة الإصلاح الكبرى لتزكية النفوس فقد بذلوا و يبذلون كلّ جهودهم لتوجيه الخلق نحو العمل الصالح المفيد ويسعون بكل ما أوتوا من طاقة قصد تقوية التآخي بين الجميع و يحثّون على التعاون على البرّ حثّهم على التعاون على التقوى وسعيهم لحسن معاملتهم النابعة بالرحمة والشفقة و سلاسة الإرشاد الهادف إلى الخير والصلاح ومحاولتهم إيصال الخطاب إلى أعماق القلوب و توفّقوا إلى لمس قطر دائرة الإستيقاظ في النفوس حتى غاية صفائها وتخليها عن أمراضها الباطنية من حقد و حسد و إستعلاء و حبّ للذات وسعي إلى الشر و تحلّت بديل ذلك بالقيم العليا و المبادئ الثابتة والأخلاق الفاضلة الحميدة .
وتظلّ الصوفية في تنظيراتها تحمل خطابا روحيا وتربويا أساسيا في مواجهة الإرهاب والتطرّف. فهي ترقق القلوب وتشغل الفراغ الروحي.
ويحمل التصوف في جعبته أفكارا وسطية بشكل عام، ويرى أهل الصوفية أن المتصوّف الحقّ هو القادر على غلق الباب على نفسه بحثا عن التهذيب والتربية بشكل زاهد بعيدا عن التدخل في شؤون الآخرين، ما يتعارض مع السلفية التي ترى في دعوتها ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل حازم.
ومع هذا كلّه نحتاج اليوم إلى ..

التصوّف الثوري .. .سبيل لبناء مستقبل روحي على أنقاض سلفية هالكة ..
هل يمكن للتصوّف أن يكون ثوريا ؟ وهل يتحتّم القيام بثورة داخل المنظومة الصوفية في بلادنا ؟
وهل يمكن أن نجعل من التصوّف سبيلا ناجعا ووسيلة مجدية لتجاوز أنقاض سلفية هالكة وداعشية مخرّبة ووهابية مدمّرة ؟

قد يبدو للبعض أنّ السعي للربط بين الثورة والتصّوف مما لا يستساغ ولا تقبله العقول ولكن العملية حاصلة منذ القدم فالتصوّف جزء لا ينفصل عن الإسلام باعتباره الركن الثالث وهو الإحسان بعد ركني الإيمان والإسلام وبما أنّ الإسلام ثوري في مبادئه ومقاصده فالجزء –أي التصوّف- ثوري كذلك ..وتكمن ثورية التصوّف في متانة أصله وامتداد جذوره في بلادنا فلا انفصال بين المدرسة الزيتونية وقيمتها وأصالتها ومتانة جذورها العلمية والدينية والإصلاحية وبين التصوّف في قيمته وجذوره الراسخة وعلاقته بالزيتونة كأصل من أصولها ضمن التزكية وتربية النفوس وتقويم السلوك .

قد كان الإجماع على أن تكون أولا الثورة داخل المنظومة الصوفية بإصلاح ما بداخل هذه الطرق من الأفكار الرجعية والترهات حدّ الخزعبلات ..
فاليوم نحن لسنا في حاجة لمزيد من صور التخلّف والشعوذة والجهل والتشدّد والفلكلور بدعوى أن هذا من صميم التصوّف ولسنا بحاجة لتقديس المشائخ وترتيبهم في مواضع تفوق أحيانا عند بعض الجهلة ّالأنبياء والمرسلين ... ولكننا نحتاج إلى مزيد من التصوّف الصحيح الذي لا بدعة فيه ولا غلو ... فالناس تسير إلى الله بقلوبها وليس بأبدانها ولا بأموالها ولا

مناصبها..فالثورة التي يجب أن تطال التصوّف من داخله ..هي ثورة تجعل منه منظومة مشبعة بالعلم والورع وآثار الآخرة والزهد في الدنيا ..
ذلك التصوّف الذي يحمل شعار «يا دنيا غرّي غيري» هو التصوّف الذي يهتف فيه الناس بشعار « ازهد في الدنيا يحبّك الله وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس».

هو التصوّف الذي يسوق الخلق إلى الحق بغير نفس جامحة ولا مطمع متكالب .. فلا يدور الإنسان حول ذاته وجاهه ولا يتعصب لها ..ولا يجعل من نفسه محورا للكون ولا من شيخه ولا من طريقته .

هو التصوّف الذي يسوق الخلق إلى الحق سوقا جميلا هادئا متدرجا.ويسوس النفس بالمراقبة والمحاسبة .

هو التصوّف الذي لا يعرف الدجل ولا الثياب الممزقة ولا السذاجة والرياء ولا الرقص اللاواعي ولا الدروشة الكاذبة ولا الرؤى الواهية ..هو التصوّف الذي يعطي ولا يأخذ... يتواضع ولا يستعلى ..يهدي ولا يكفر ..يجمع ولا يفرق 

هو التصوّف الذي لا يعرف التحزّب لطريقة أو لشيخ أو لفئة ..

هو التصوّف الذي يعلمنا حبّ الوطن وحبّ الآخر وحبّ البناء ولا يعلمنا أن نكره ...ويعلمنا أن نعمل ولا نتواكل

هو التصوّف الذي رسمه الأوائل تصوف الجنيد وابراهيم بن أدهم وحجّة الإسلام الغزالي والمحاسبي ومالك بن دينار وابراهيم الخواص وذي النون المصري وعبد الحليم محمود والشعراوي واسماعيل صادق العدوي وصالح الجعفري ومحمد زكي ابراهيم وأبوالحسن الشاذلي وأحمد العلاوي والشيخ محمد المدني رحمهم الله جميعا وغيرهم ..نريد تصوّفا نقيا ذكيا

صافيا ينقذ البلاد من انهيار القيم ومن شرور غلاة الدين وتجاره تصوّف الرقي والترقي والهدف والوسيلة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط ...

على أنقاض السلفية الهالكة والمهلكة
وثورية التصوّف تتعلق بالواقع الراهن اليوم وما يفرضه من إشكالات وتحديات، وما يتوجّب على أتباع المدرسة الزيتونية وفروعها والمتأثرين بها في المغرب العربي وكذلك أهل التصوف عامة وصوفية تونس وشمال أفريقيا خاصة من عمل توعوي ودعوي ومعرفي وإصلاحي لمعالجة أدواء التطرف والانحرافات المختلفة التي تعصف بالمجتمع، والدور الواجب والمفروض لتوعية الشباب ووقايتهم من مختلف الآفات التي تستهدف أخلاقهم وعقيدتهم وفكرهم وثقافتهم وصولا إلى أعمارهم ضمن ثقافة الموت والكراهية التي تصب كلها في هاوية الإرهاب.
وتكمن ثورية التصوّف كذلك في مواصلة العمل والتموقع داخل المشهد الإعلامي وفي كل ّالمواضع وكذلك عبر تنظيم مثل هذه الندوات التي تجمع أهل التصوف من مختلف الطرق، وتقرّب بينهم، وتعطي منابر لأهل العلم المختصين والمشايخ العارفين، وتكرمهم وتكرم علماء الزيتونة الكبار، هو أمر مهمّ لتوضيح الحقائق وتفكيك الإشكاليات وإعطاء الحلول وتقريب وجهات النظر، من أجل إنقاذ البلاد من الفكر الداعشي بآلامه .. ولتونس رجالها وبركتها وعسسها من الصلاّح ..

المشاركة في هذا المقال