Print this page

تأبين رجاء فرحات للفقيد محمد بن إسماعيل

هذا ابن جربة البار وابن تونس الحر كان يجوب الدنيا منذ صباه مشرقا ومغربا لكنه لم يقطع الصلة يوما مع جزيرته الأم التي كانت تجمع في عقله وروحه

كل ألوان الحياة والتاريخ البحري وتصور في بياض سلسلة الجوامع والمساجد الصغيرة التي تحف بقراها وشواطئها عبقرية الفلاح الجربي المؤمن التي لخصت في تلك البناءات العجيبة.

ثنايا الإبداع الهندسي الذي تعددت أشكاله وحيله على مدى القرون بهويته الخاصة وعكست في كل قرية انفراد الإنسان بعلاقته المتميزة مع الخالق ومع كل مكونات هذا الهلال الثقافي الثري الذي يجري من صحراء الجزائر وحتى سواحل المحيط الهندي في عمان ..
مرورا بجربة وفسيفساء النسيج المذهب الذي ينير بريقه الساحر عيون الأطفال قبل التحاق العروس الجربية المدللة بأخواتها في روزنامة الجهاد اليومي ملتحفة بمليتها وتحت مظلة السعف وسط مجموعات ضاحكة من صعوبات المواسم في غياب المهاجرين من الرجال إلى كل أصقاع بلاد المغرب وأوروبا لفتح دكاكين الجرابة وهم مثال الجد والكد وفرحة العودة المؤجلة الى الجزيرة ..

كيف حافظ المثقف محمد بن اسماعيل على شخصيته الأصيلة إن لم يكن وفيا لكل هذه الصور والرموز في أعماقه؟

عاشر الأجيال من جيل الاستقلال وبعده وانصهر في الحركة الوطنية وناضل من أجل الدولة التونسية الجديدة إلى جانب رفاقه ووقف بقلمه الى جانب كل القضايا العادلة في بنزرت وفي الجزائر وبشر بميلاد مغرب كبير موحد سيهب هذه الشعوب قوة اقتصادية وبشرية وحضارية سترسم المستقبل.

لكن هذا الالتزام المتين كان يصاحبه في نفسه ذلك الشك الحيوي الذي يسكنه خاصة بعد أن اختار دخول حقل الإعلام مع رفاق شاطروه هذا البعد النقدي فأسس معهم أولى المجلات الإفريقية وأولى دور النشر لدعوة الأقلام النيرة إلى بناء مكتبة تونسية طلائعية والخروج من أزقة التكرار الى إشعاع الأفكار الحديثة التي تفتح أبواب المستقبل ..

لم يرفض محمد بن اسماعيل دعوات الحاكم لتحمل بعض المسؤوليات لكن على مضض ورأيناه يسلط روحه النقدية على جهاز الاعلام وعادات البندير لأنه لم يقبل سيطرة الدعاية البدائية على نبل رسالة الإعلام الناقد فقد كل مناصبه العابرة وكان يضحك مع زائريه في مكتبه الصباحي من قلة صبر الحكام ومدى حماس الطبالين ..

ولابد لنا اليوم وهو شاهد علينا ان نؤكد ان نشر الكتاب التونسي الجديد كان قبل غيره محور حياته الثابت وان سهره اليومي كان استقطاب النصوص

الابداعية في كل شعب المعرفة ومن نجاحاته التي اعتز بها التحاق ناشرين من الإعلام ببيت سيراس وفي طليعتهم الفقيد نورالدين بن خذر علم الحركة اليسارية الغيور.

على حرية الفكر والأدب والبحث حتى أصبحت مجموعات سيراس مرجعا للتجديد والحداثة الخلاقة في هذه الربوع.

أيها الأصدقاء والصديقات
أخشى أن تأخذنا المحبة والإعجاب إلى مديح طويل لم يكن محمد بن اسماعيل من أنصاره لكننا لن ننهي هذا التأبين دون الإشارة الى فرحة الفقيد بعد انسحابه من العمل وغبطته بمواصلة ابنيه كريم ورشيد لمشروعه ووفاء أحفاده لحلمه الكبير في رفع طموح الشباب إلى أعلى مراتب المعرفة والإبداع
كن قدوة أيها الفقيد العزيز ولتكن المكتبة التي تركت ذخرا لتونس الحديثة

المشاركة في هذا المقال