Print this page

قهوة الأحد: عمّ يبحث الرؤساء عند الفلاسفة ؟

عندما أشار ايمانيال ماكرون Emanuel Macron في حملته للانتخابات الرئاسية الفرنسية

في بداية سنة 2017 إلى اهتماماته الفلسفية وتأثره بالفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور Paul Ricœur اعتبرها اغلب المتابعين للشأن السياسي في فرنسا مجرد مزحة ثقيلة أو كذبة هدفها جلب المثقفين إلى جانبه ودفع المفكرين إلى دعمه في حملة كانت حظوظه فيها شبه منعدمة على الأقل في بداياتها .فكيف يمكن لهذا الشاب الطري والقادم من إحدى بنوك الأعمال وهو بنك Rothschild أن تكون له اهتمامات فلسفية أو حتى فكرية.

واثر فوزه في الانتخابات قام عديد المحللين والمتابعين للشأن السياسي والفكري بالاهتمام بالرئيس الجديد لتصدر عديد الكتب حول تاريخه وأفكاره وبرامجه ومشاريعه .

ولم ينس بعض المتابعين للساحة الفكرية مزاعمه في الحملة الانتخابية باهتمامه بالمسائل الفلسفية والتي قوبلت بالكثير من الازدراء -في حينها - ونتج عن هذا الاهتمام صدور كتابين مهمين في الأسابيع الأخيرة حول اهتمامات الرئيس ماكرون بالمسائل الفلسفية.الكتاب الأول للجامعي François Dosse والمختص في مجال تاريخ الأفكار والذي اصدر عديد الدراسات والكتب المهمة في هذا المجال اذكر منها خاصة «L’empire du sens l’humanisation des sciences humaines» سنة 1995 عن دار النشر la Découverte وعن نفس الدار اصدر سنة 2003 كتابا مهما بعنوان la marche des idées ,histoire des intellectuels, histoire intellectuelle»

إذن اهتم هذا الباحث بقناعات ومزاعم الرئيس ماكرون الفلسفية واصدر منذ أسابيع كتابا بعنوان «Le philosophe et le Président» أو «الفيلسوف والرئيس» عن دار النشر الباريسية stok واهتم فيه بعلاقة الرئيس بالفيلسوف الكبير ريكور.
ثم صدر كتاب ثان منذ أسابيع بقلم الصحفي Brice Couturier بعنوان «Macron un président philosophe» أو «ماكرون الرئيس الفيلسوف « عن دار النشر الباريسية L’OBSERVALOIRE

قد أشار هذان الكتابان إلى صحة مزاعم ماكرون وان تأكيده خلال الحملة الانتخابية على اهتماماته الفلسفية لم يكن من قبيل المزحة أو الاستيلاء على هوية فقد أكد هذان الكتابان أن ماكرون كان له مسار فلسفي مهم .فقد قام في شهادة ختم الدروس الجامعية بإعداد رسالة حول هيقل .كما تابع دروسا فلسفية عند ايتيان باليبار Etienne Balibar وهو احد تلامذة ومريدي الفيلسوف الماركسي واحد آباء التيار البنيوي أو le structuralisme التوسير Althusser.

لكن أهم تجربة فلسفية لماكرون ستكون عند مصاحبته الفيلسوف الفرنسي الكبير ريكور Ricœur لما كان طالبا في معهد العلوم السياسية سنة 1999 لإعانته على الانتهاء من كتابة احد أهم كتبه وهو La
Mémoire, l’histoire, l’oubli أو «الذاكرة، التاريخ ،النسيان» والذي صدر سنة 2000.

وكان لهذه التجربة تأثير كبير على الشاب ماكرون و.يقول ماكرون في هذه الفترة في احد أحاديثه الصحفية «في المساء لم نكن نشعل الأضواء كنا نواصل الحديث والنقاش حول نصوصه والقراءات التي لابد له من القيام بها إلى ساعة متأخرة من الليل .وقد نتج عن هذه العلاقة الكثير من الحميمية والصداقة.»
كما اهتم كذلك هذان الكتابان لا فقط بالمسار الفلسفي للرئيس بل كذلك بأهم خطاباته خلال الحملة الانتخابية والتي أكد فيها على رؤاه وتصوراته السياسية لفهم أسسها الفلسفية والفكرية .

وقد تابعت منذ سنوات الاهتمامات الفكرية والفلسفية لعديد الرؤساء ووجدت أن حالة الرئيس ماكرون ليست حالة خاصة أو استثناء بل وجدت أن العديد منهم لهم اهتمام واسع وكبير بمجالات الفكر والفلسفة ويذكر العديد الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران والذي كان قارئا نهما للكتب والروايات كما كانت له كذلك كتابات ومساهمات أدبية وخاصة رسائل حميمية إلى عشيقته وأم ابنته Anne Pingeot والتي صدرت سنة 2016 تحت عنوان «lettres à Anne» والتي جمعت أكثر من 1200 رسالة عشق ووله.

كم يمكن لنا في هذا المجال أن نشير إلى الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما والذي اصدر كتابين مهمين .الكتاب الأول سنة 1994 بعنوان «Dreams of my father» أو «أحلام أبي» أما الثاني فقد صدر سنة 2006 لما انتخب في مجلس الشيوخ وهو بعنوان «The Audacity of hope» أو «شجاعة الأمل» وقد اثار هذان الكتابان الكثير من الاهتمام في الأوساط الفكرية والسياسية لان الكاتب قدم فيهما الأسس الفلسفية لعمله السياسي.وقد اعتبر العديد من النقاد أن باراك اوباما هو احد أهم الرؤساء المفكرين منذ وودرو ويلسون woodrow wilson والذي ترأس الولايات المتحدة الأمريكية من 1913 الى 1921.

إذن اهتمام الرؤساء ورجال السياسة بالفلسفة والفلاسفة ليس شاذا وإن لم يكن كذلك القاعدة .فعديد الرؤساء كما اشرنا كانت لهم اهتمامات فكرية وفلسفية والسؤال الذي يطرح نفس بحدة هو عمّ يبحث الرؤساء عند الفلاسفة ؟

فاهتمامات العالمين مختلفة وبعيدة كل البعد فالفيلسوف يعيش لتطوير نظرياته الفكرية البعيدة عن الواقع بينما يسعى السياسي لبناء وتطوير سياسات عامة قادرة على تغيير الواقع المعيش نحو الأفضل وبالرغم من هذا البعد بين العالمين فإننا نجد لعديد الرؤساء ورجال السياسة بعض الاهتمامات الفكرية والفلسفية .
وللإجابة عن هذا التساؤل حول أسباب اهتمام الرؤساء بالسياسة اقترح ثلاث مسائل أساسية تفسر هذه العلاقة .

المسالة الأولى تخص في رأيي بحث الرؤساء والمسؤولين السياسيين عن أساس فلسفي لقضية العيش المشترك في المجتمعات الديمقراطية وقواعده ونجد هذا التساؤل في صلب اهتمامات الرئيس الشاب ماكرون.فرؤيته للمجتمعات الديمقراطية هي ليبرالية تنخرط في رؤية الفيلسوف الأمريكي john rawls والتي عبر عنها في كتابه الشهير Théorie de la justice أو «نظرية العدالة» والصادر سنة 1971 والذي أصبح بمثابة المرجع الأساسي لأجيال عديدة من الليبراليين .ويدافع راولس في نظرية المساواة في المجتمعات الليبرالية عن مبدأين هامين في المجتمعات الديمقراطية وهما مبدأ الحرية والمساواة اللذان يقيدان حركة المجتمعات وديناميكية الأفراد والنظام الاجتماعي .وتسعى الليبرالية الى تمكين الأفراد من نفس الفرص .وبالتالي فإن المجتمعات العادلة هي التي تمكن الأشخاص والافراد وتعطيهم نفس الفرص من اجل تحقيق مشاريعهم مهما اختلفت أوضاعهم وظروفهم ومهما كانت مستويات التفاوت الاجتماعي في ما بينهم.

وقد أعلن الرئيس ماكرون في حملته الانتخابية عن هذه النظرة .وأشار بوضوح في خطابه في مدينة ليون في 4 فيفري 2017 عندما أشار إلى انه سيدافع عن الحريات الأساسية ومن ضمنها حرية الشغل وحرية العقيدة وحرية الاستثمار . كما أكد انه سيؤكد كذلك على جانب العدالة وإعطاء نفس الفرص لكل المواطنين مهما اختلفت ظروفهم الاجتماعية وبالرغم من التفاوت الاجتماعي الذي يشق المجتمعات – وهذا يكون عبر الاستثمار في التعليم خاصة في الجهات المحرومة وفي تكوين الكبار .

اما نظرة الرئيس اوباما فتختلف عن الأسس الفلسفية للرئيس ماكرون باعتبار قربه من اتجاه فلسفي يمكن أن نطلق عليه التيار «الجمعي» أو «le communautarisme وهو تيار نقدي عرف تطورا كبيرا خاصة في البلدان الانقلوسكسونية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والتي وجدت فيها مجموعات اجتماعية وعرقية تم تهميشها كالسود واللاتينو وقد أكد هذا التيار الفلسفي أن النظرة الليبرالية ونظرية العدالة التي تعتمد على حرية الفرد لا تأخذ بعين الاعتبار هذه المجموعات التي تم تهميشها لفترات تاريخية طويلة في عديد المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتتطلب بالتالي سياسات خاصة لتمكينها من الخروج من حالة التهميش وعدم توازن الفرص الذي عانت منه لعقود.
وقد تأثر اوباما شديد التأثر بهذه التيارات وهو الناشط الاجتماعي والسياسي في الجمعيات المساندة لنضالات السود والمطالبة بالمساواة.

إذن هذا الجانب الأول الذي بحث عنه الرؤساء والسياسيون بصفة عامة عند الفلاسفة وهو الأسس الفلسفية لمبادئ وقواعد العيش المشترك في المجتمعات الديمقراطية

إذا كان السؤال هو «من نحن ؟» السؤال الثاني الذي يسعى رجال السياسة الى إيجاد الإجابات الضافية له عند الفلاسفة هو «ماذا نريد ؟» وما هي مطامحنا وآمالنا كمجموعة بشرية .وهذا السؤال يخص النظرة والمشروع السياسي الذي يحمله الرؤساء والسياسات العامة التي يسعون لتطبيقها .وهذه المسألة أساسية لأشخاص يعدون أنفسهم لحكم البلاد ولتقديم رؤية عامة للخروج من الأوضاع السياسية والاقتصادية الموروثة وبناء نظرة جديدة وحلم ومشروع سياسي جديد.

ومن خلال قراءاتي ومتابعاتي لكتابات بعض الرؤساء ورجال السياسة فان المشروع الذي يدافعون عنه والطريق التي يرسمونها تنخرط في إطار الإصلاحات والتغييرات التي تمكن من تغيير الواقع إلى الأحسن بدون الدخول في إطار الثورات الكبرى او الخنوع والاستسلام لحركة العولمة والتي تحد من هامش حركة الحكومات والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين.فالنظرة لقدرة الرجل السياسي للتغيير تنخرط في رأيي في موقف نقدي لاتجاهين كبيرين .التوجه الأول وهو التوجه الحداثي والمؤمن بقدرة السياسة على تغيير الواقع نحو الأفضل وبناء المجتمع الفاضل الذي تطمح اليه الإنسانية .وهذه الرؤية الإرادية شكلت الاساس الفلسفي لكل الاحزاب السياسية والحركات الاجتماعية التي هيمنت على الساحة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .

إلا أن هذه النظرة عرفت الكثير من النقد في نهاية القرن العشرين لتواتر الأزمات وعدم قدرتها على تجاوزها وكذلك لتطور العولمة والتي قلصت من هامش التغيير لدى الفاعلين السياسيين والاقتصاديين و نتج عن هذا العجز تراجع الفكر الحداثي وظهور ونمو فلسفة ما بعد الحداثة والتي أسست لنهاية المشاريع الكبرى والنظريات الجامعة وفشل الفرد في تغيير الواقع .

وينحو الجيل الجديد من السياسيين والرؤساء منحى ثالثا يختلف عن المنحى الحداثي الإرادي والمنحى المابعد حداثي المحبط والمستسلم أمام حركة العولمة وهذه الرؤيا او الطريق الثالث هو الطريق الإصلاحي والذي يسعى لتغيير الواقع نحو الافضل بفضل سياسات جديدة.فما هي هذه السياسات وكيف يمكنها ان تساهم في إعطاء أمل اكبر وأحلام جديدة للمواطنين ؟

تتركز هذه السياسات على تمكين المواطنين من نفس الفرص لتطوير قدراتهم وإمكانياتهم .فيكون بالتالي هدف السياسات العامة هو فتح المجال لتحقيق المزيد من المساواة ولتحرير الطاقات والقدرات .ومن ضمن هذه السياسات العامة اذكر التعليم وضرورة دعمه في المناطق المهمشة والمحرومة وكذلك الصحة والبحث العلمي وتكوين المؤسسات .وتعمل هذه السياسات على إعطاء وتوفير نفس الفرص لكل المواطنين مهما اختلفت وضعياتهم الاجتماعية وتمكن بالتالي من الوصول بفضل السياسات العامة الى تدعيم مبدا الحرية في المجتمعات الديمقراطية بتحقيق العدالة بين كل المواطنين .وهذه السياسات والنظرة السياسية اختارت اللجوء الى المنهجية البراغماتية والإصلاحية والابتعاد عن التناقض بين اليمين واليسار .
يبقى السؤال الثالث الذي يبحث عنه الرؤساء ورجال السياسة فيخص بطبيعة الحال أدوارهم وقدرتهم على تغيير الواقع.وهنا يؤكد اغلب رجال السياسة على نهاية وانتفاء صورة الزعيم الفذ والأوحد والقادر على حشد الجماهير وراءه لتغيير الواقع والموروثة من النظرة الحداثية للسياسة والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية . بل إن صورة القائد السياسي والزعيم تغيرت لتمر من الصورة التقليدية الحاملة لمشروع إلى صورة جديدة أطلق عليها الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند الرئيس العادي أو le Président Normal وينحصر دور الزعيم عند الجيل الجديد من الساسة إلى بناء التوافقات وتدعيم المصالحة بين الفئات الاجتماعية وتوليف (synthèse) بين مختلف الرؤى والبرامج المتناقضة.
لقد عرفت السياسة والعمل السياسي في فهمه التقليدي والموروث من الحداثة السياسية من انه محاولة لضبط برنامج هدفه تغيير الواقع إلى الأحسن والأفضل كما تؤكده فكرة التقدم (progrès) أزمة عميقة في نهاية القرن الفائت .
أسباب هذه الأزمة عديدة منها تطور العولمة والتي جعلت قدرة الحركة السياسية على التغيير محدودة .وقد نتج عن هذه الأزمة ظهور وتطور الفكر المابعد الحداثي والذي أسس من الناحية الفلسفية إلى نهاية السياسة من حيث كونها أداة تغيير للمجتمعات وفتح باب الاهتمام بالحياة اليومية والانخراط في مسراتها وأفراحها .

إلا أن هذه النظرة الانهزامية لم تكن لتح'ى برضا عديد المناضلين الذين يطمحون لتطوير المجتمعات الديمقراطية فظهر جيل جديد من السياسيين نجح جزء منهم في الوصول الى السلطة كماكرون وقبله اوباما وهولاند وقد حاول هذا الجيل الجديد بناء نظرة جديدة للعمل السياسي وجد أسسها عند بعض المفكرين والفلاسفة وخاصة John Rawls وقد ساهم هذا الجيل في بناء ممارسة وفكر إصلاحي جديد يرتكز برنامجه السياسي على دعم العدالة والمساواة في الفرص في المجتمعات الديمقراطية .ويقطع هذا الفكر الإصلاحي الجديد مع الفكر الثوري الموروث من البرنامج الحداثي وينهي معه أسطورة «اللحظة الثورية «او Le grand soir كما يقول الفرنسيون وتاريخ الثورات عند الإنسانية .

يبقى السؤال الهام والكبير والذي سيحدد مصير الفكر الإصلاحي في السنوات القادمة ويخص قدرته على وضع البرامج والسياسات القادرة على تلافي والتقليص من أخطار العولمة وأزماتها على المستوى السياسي والمالي والتجاري والبيئي .فعجز هذه النظرة الإصلاحية على الحد من التفاوت الاجتماعي وإعطاء آمال جديدة للمهمشين أمام تنامي التيارات الشعبوية قد يعيدنا من جديد إلى مواقع الأحلام الثورية (Passions révolutionnaires) .

المشاركة في هذا المقال