Print this page

قهوة الأحد: وجوه من الإبداع (9) رؤوف بن عمر : المسرح والمواطنة

رؤوف بن عمر هو بلا شك إحدى هامات المسرح في بلادنا ساهم وشارك وكان أحد العناصر الأساسية في الثورة المسرحية التي عرفتها تونس.الحديث معه شيق يفوح بعبق عشقه للمسرح والسينما وكل أنواع الفنون في بلادنا.وبالرغم من هذه التجربة الواسعة وهذا العشق الأبدي للمسرح فان الرجل بقي متواضعا يفرح كل صباح عندما يحييه الشباب والنساء

وحتى الأطفال احتراما لفنه وكذلك حبا لهذه الشخصية الاليفة.

التقيت رؤوف بن عمر وسألته بعض الأسئلة حول هذه التجربة الهامة.كان اللقاء مع رؤوف ككل لقاءاتنا حميميا ينبع من حديثه الكثير من الصدق والبساطة والتواضع بالرغم من الأثر الكبير الذي تركه في تجربتنا المسرحية والسينمائية والتلفزية.كان رؤوف بن عمر أنيقا لا فقط في هندامه بل كذلك في حديثه وقراءته للواقع الثقافي في بلادنا.كانت كلماته فاخرة تنم عن ذوق رفيع جعل منه هذا المسرحي والممثل الذي دخل قلوبنا وبيوتنا ليصبح أحدا منا أو أيقونة التونسي المنغمس في تراثه وتقاليده والمنفتح على العالم حد النخاع ليكون هذا الالتقاء خصوصية تجربتنا السياسية ومشروعنا الحضاري.
الحديث ذو شجون مع رؤوف بن عمر فثقافة الرجل الفنية واسعة ولا تقتصر على شؤون الفن والإبداع في بلادنا أو المنطقة العربية بل له إلمام بكل التجارب الفنية في العالم وبصفة خاصة بانقلترا ،بلندن مدينة القلب-ولكن أردت الحديث معه عن الثورة المسرحية التي عرفتها بلادنا بداية السبعينات وجعلت منا أحد أهم رموز الثورة الركحية التي ستجتاح العالم وتجعل من بلادنا ومسرحيينا احد رواد الحركة التجريبية في المسرح.

لكن قبل الحديث عن هذه الثورة دعنا نعود إلى البدايات وستكون البدايات كالعديد من الفنانين في المعهد الصادقي حيث سيساهم في فرقة المعهد الموسيقية كمغني . وهناك سيكتشف المسرح عندما دعا الأستاذ محسن بن عبد الله المشرف على ورشة المسرح بالمعهد الفرقة الموسيقية لمصاحبة احد العروض المسرحية.وطلب من رؤوف بن عمر قراءة نص لتكون هذه الحادثة نقطة انطلاق لرحلة العشق والوله بينه وبين خشبات المسرح.وستتواصل هذه الرحلة في الجامعة حيث سيكون عضوا في الفرقة المسرحية الجامعية التي سيكونها رؤوف الباسطي مع محمد إدريس في كلية الآداب.وستكون مسرحية «الريش والعروق» التي كتبها محمد إدريس وأخرجها محمد الباسطي وستشارك هذه المسرحية سنة 1969 في المهرجان العالمي للمسرح الجامعي باسطنبول في تركيا والذي شاركت فيه أكثر من 50 دولة.وقد حصلت هذه المسرحية على الجائزة الأولى وعند عودة الفرقة إلى تونس قرر السيد الشاذلي القليبي وزير الثقافة آنذاك إعطاء منحة لدراسة المسرح بالخارج لكل الذين شاركوا في هذه المسرحية .وقد اختار رؤوف بن عمر التحول إلى لندن مدينة القلب لينحاز نهائيا وبالرغم من معارضة الوالد في ذلك الوقت إلى المسرح وليبني علاقة الوله والعشق الذي تجمعه بالمسرح إلى يومنا هذا.ليس من السهل اختزال مسيرة في ثراء تلك التي قام ببنائها رؤوف بن عمر على مر السنين .ولكننا يمكننا التركيز على أربع محطات كبرى.

المحطة الأولى تخص زيارته وعلاقته الحميمية بمدينة الضباب لندن.وقد بدأت هذه العلاقة وهذا الوله حتى قبل زيارته للمدينة المعشوقة.فمنذ سنوات الدراسة في الصادقية كان لفناننا علاقة خاصة بهذه المدينة واهتمام كبير بها.والأسباب عديدة ومن ضمنها أن أهم وابرز الممثلين في العالم هم انقليز أو ارلنديين أو جذورهم من هذين البلدين مثلLaurence olivier وRichard Burton وSpenser TraceyوMarlon Brando وPaul Newman .وسيتدعم هذا الحب وهذا الوله بهذه المدينة عند وصوله هناك حيث سيهيم هناك في شتى المسارح ليطرق ابوابها ويشاهد أهم المسرحيات. ولن يقتصر هذا الانغماس في الحياة الفنية في عاصمة الضباب على المسرح بل سيشمل كل المجالات الفنية ليشاهد آخر الأعمال الفنية والأفلام.عاش رؤوف بن عمر في هذه المدينة الحلم وانغمس في أجواء الإبداع والفن هناك ليزيد هيامه بالمسرح وبالسينما ولينهل من هذه المنابع الثقافية ويراكم الكثير من التجارب التي ستكون أساس المسار الآتي.

المحطة الثانية في هذه المسيرة ستخص علاقة رؤوف بن عمر الوجدانية بالمسرح.وستبدأ هذه العلاقة عند عودته إلى تونس قادما من لندن سنة 1972.ولن تتجاوز إقامته بالعاصمة 24 ساعة قبل أن ينتقل إلى قفصة حيث سيلتحق بصديقه رجاء فرحات الذي يدير هناك الفرقة الجهوية .وستتوالى الأعمال هناك مثل «جحا والشرق الحائر» و»البرني والعطراء» و»سيرة الجازية الهلالية» و«سيرة محمد علي الحامي» . وبالرغم من عديد الدعوات في تلك الأيام للذهاب إلى ايطاليا وبدء مغامرة ممثل سينمائي فقد قرر مواصلة هذه المغامرة والمساهمة في بناء المسرح في الجهات. عندما ترجع به الذاكرة لهذا القرار تتولاه بعض الحسرة إلا أنها سرعان ما تتراجع وتغيب أمام رضائه بالمساهمة في بناء تجربة المسرح في بلادنا والسبق الذي تميزنا به لليوم.

وسستواصل هذه المسيرة المسرحية الطويلة والثرية بعد تجربة المسرح الجهوي مع الفرق الخاصة كالمسرح الجديد ومسرح فو مع فقيدة المسرح رجاء بن عمار والمنصف الصايم وفضاء التياترو مع توفيق الجبالي في «مذكرات ديناصور» و»تجربة «كلام الليل» كما سينشط مع محمد إدريس عند إدارته للمسرح الوطني لتقديم مسرحية» يعيشوا شكسبير» و»المساهمة في ظهور عديد المسرحيين الشبان.

المحطة الثالثة في هذه المسيرة هي علاقة رؤوف بن عمر بالسينما.والى جانب تأثره بالممثلين الانقليز فقد تابع عمالقة التمثيل الايطاليين كـNino Manfredi وVittorio Gassman وكبار المخرجين مثل Visconti Fellini وSicaو Rossellini .

وستبدأ هذه العلاقة مع السينما في شكل ضربة حظ فقد انتقل في 1973 لتصوير دور صغير مع المخرج Rossellini في شريطه المسيح.إلا أن ظروفا خاصة منعت البطل الثاني في الفيلم من القدوم في الوقت فطالب المخرج بتعويضه.واقترح عليه مساعده الأول المخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار الممثل الشاب رؤوف بن عمر للقيام بهذا الدور.وقد نجح رؤوف بن عمر في هذا الدور إلى درجة أن المخرج الكبير روسليني طلب منه القدوم إلى ايطاليا لتمثيل عديد الأدوار الكبرى.لكنه رفض هذه الدعوة السخية وقرر البقاء ومواصلة المغامرة الشيقة في المسرح الجهوي.
وستتواصل هذه المسيرة السينمائية مع عديد المخرجين الكبار كزيفرلي في شريط Jesus de Nazareth وRoman Polanski Pierre Richard وJean jacques Annaud لتكون آخر أفلامه «تونس الليل» للمخرج الياس بكار و»الجايدة» لسلمى بكار.

المحطة الرابعة في هذه التجربة هي العلاقة مع التلفزيون .وقد بدأت هذه المسيرة الهامة مع شريط «اعترافات المطر الأخير» ثم لتبدأ مغامرات المسلسلات التلفزية مع «عشقة وحكايات» ثم سيقوم بدور البطولة في مسلسل «الناس حكاية» والذي كتبه المنصف ذويب وأخرجه حمادي عرافة ثم ستتوالى الأعمال التلفزية مع مسلسل «وردة» لهشام بوقمرة ثم المسلسلين الأهم وهما «الخطاب على الباب «والذي دام موسمين ومسلسل «عشقة وحكايات» والذي كتبه علي اللواتي وأخرجه حمادي الصيد.

وبالرغم من بعض الشك الذي خامره عند بداية التجربة التلفزيونية وهو الممثل ورجل المسرح الكبير فقد كانت هذه التجربة مهمة ومكنته من الخروج من المسرح النخبوي لدخول بيوت الناس ويصبح صديق الناس فتتوقف العائلات لتحييه في الشوارع وتعطيه الكثير من الحب والاحترام.

وقد ساهمت هذه التجربة في تفكيره حول عمله كممثل وتعاطيه مع مختلف التجارب من السينما للمسرح والتلفزة. ويرى رؤوف بكثير من التواضع وشيء من الفلسفة أن التلفزة هي اقرب منها للسينما للمسرح. فالكاميرا تغوص فيك وفي عمق الأحاسيس التي تحملها لتكون حركة الممثل فيها الكثير من الاقتصاد والسيطرة .لكن يبقى المسرح حسب رؤوف بن عمر المدرسة الأم.

والى جانب هذه المسيرة الثرية فان المساهمة الأهم في تجربة رؤوف بن عمر هي الدور الذي لعبه في بناء المشروع الثقافي في بلادنا وفي الدفاع عن تميزه وخصوصيته.وهذا المشروع لم يكن له أن يرى النور لولا الإرادة السياسية لدولة الاستقلال والتي جعلت من التعليم والثقافة احدى ركائزها الأساسية.وقد نجح وزير الثقافة السيد الشاذلي القليبي في تطبيق هذه السياسة وبناء البنية الثقافية من خلال المؤسسات في جميع الميادين الإبداعية وبناء دور الثقافة في كل المناطق وخاصة النائية منها لتساهم في تثوير التقاليد البالية والموروثة من قرون من التصحر الفكري والثقافي والهيمنة الاستعمارية.

والى جانب مؤسسات الدولة فقد ساهم الفنانون والمبدعون في بناء هذا المشروع الثقافي في بعض الأحيان في غياب دعم المؤسسات الرسمية ويعود رؤوف بن عمر بصفة خاصة إلى الثورة المسرحية التي قام بها رجال المسرح في بلادنا لنصبح رواد التجريب في المسرح على المستوى العالمي وبدون منازع.ويشير رؤوف بن عمر إلى أهم التجارب المسرحية التي نالت إعجاب واستحسان اكبر النقاد كمسرحية «ساكن في حي السيدة» لفقيدة المسرح التونسي والتي تحصلت على الجائزة الكبرى في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة سنة 1986 وكذلك تجربة «كلام الليل» مع توفيق الجبالي منذ 1988 إلى جانب الكثير من التجارب الأخرى لتصبح بلادنا من أهم منارات التجريب والإبداع المسرحي.
ويتحدث رؤوف بن عمر بكثير من الفخر عن هذه الثورة والتي كان من روادها وتشيح من وجهه ابتسامة عندما يتذكر السنوات الأولى ولقاء هذا الجيل من الأوائل والذي ثور أسس الكتابة الركحية والإبداع المسرحي في بلادنا وفي منطقتنا.ولا تتملك رؤوف بن عمر اي حسرة عند الحديث عن البدايات بل يبرز كثير من الأمل عند حديثه عن المستقبل وهذه الأجيال الجديدة من المبدعين من السينمائيين والمسرحيين والذين اخذوا المشعل من أيادي الأوائل لمواصلة هذه المسيرة الإبداعية وبث عبق المشروع الثقافي التونسي لتبقى بلادنا غارسة الأمل في منطقتنا.ولعل كذلك من أهم نتائج هذه الثورة الفنية والمسرحية هي دخول المسرح لعائلاتنا ليصبح الأطفال والكبار لا فقط هواة للفن الرابع بل كذلك مسرحيين هواة ليزرع فيهم روح المواطنة والانفتاح على الآخر ونبذ العنف ويجعل من الحوار وسيلة التواصل مع الأخر.

الحديث مع رؤوف بن عمر ذو شجون ولا ينتهي ومع دخان سيجارته يتذكر كل هذا الجيل الذي مكنه من كتابة بعض الأسطر في تاريخ الإبداع في بلادنا.

جيل بدأ مع الشاذلي القليبي محمود المسعدي و تواصل مع رفاق الدرب الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري وعلي اللواتي وتوفيق الجبالي وجليلة بكار وغيرهم ليكمل هذا المشوار شباب ومبدعو ما بعد الثورة كليلى بوزيد وكوثر بن هنية وبصوته الرقيق ومع نظرة في الأفق يسر لي تفاؤله بمستقبل هذا البلد وبقدرة المبدعين على المساهمة في بناء عالم أفضل.

المشاركة في هذا المقال