Print this page

مسلسل «المغرب» الصيفي: نحن والفايسبوك 2: هل يجب تنظيم (تعديل) الفايسبوك ؟

سلسلة من المقالات الاسبوعية تستكشف علاقة التونسيين بالميديا الاجتماعية بشكل عام وبالفايسبوك على وجه الخصوص. يتناول الكاتب في هذه المقالات مسائل متعددة على غرار أسباب شعبية

الفايسبوك ومكانته المتعاظمة في حياتنا الاجتماعية، وتأثيره على الحياة السياسية وعلاقته بظاهرة الإرهاب ومسائل تنظيمه أو تعديله (على غرار الميديا السمعية البصرية) ومصير المثقف والصحافة والميديا في عصر الفايسبوك.

أصبح الفايسبوك مجالا أو عالما لأنشطة لا حصر لها : اجتماعية وثقافية وسياسية وتربوية واقتصادية، فليس ثمة نشاط من أنشطة الحياة العامة والخاصة منفصلا عن الفايسبوك. ويستدعي هذا الأمر سؤالا لا مجال للشك في وجاهته : هل يجب تنظيم (أو تعديل) الفايسبوك بما أنه أضحى مجالا من مجالات الاتصال العام، فنحن نستعمل الطرقات للجولان والبريد والهاتف للتواصل والميديا السمعية البصرية للحصول على الأخبار والترفيه والنفاذ إلى المجال العمومي؟ بل إن هذا السؤال يصبح أكثر مشروعية في الوقت الذي تحوّل فيه الفايسبوك إلى مجال واسع لنشر الأخبار المزيفة fake news وخطاب الكراهية وتهديد الحياة الخاصّة والمعطيات الشخصية وتعدّد عمليات الانتحار المباشر والتلاعب بإرادة المواطنين عبر حملات البروبغندا التي اصبح لها تأثير متعاظم على الحياة السياسية حتى في المجتمعات الديمقراطية وحتى غير الديموقراطية كما تجلى ذلك في الانتخابات الأمريكية الأخيرة.

تخضع خدمات النقل والاتصال والميديا إلى التنظيم (التعديل) الذي تقوم به الدولة بأشكال مختلفة، إما مباشرة أو عبر هيئات مستقلة. فما السبب الذي يجعلنا لا نفكر في تنظيم الميديا الاجتماعية بما أنها اضحت نشاطا أساسيا من أنشطة الحياة الاجتماعية، تستخدم في الاتصال السياسي وفي التجارة والتسويق ؟ أم يجب أن تبقى هذه الميديا الاجتماعية والفايسبوك تعمل بحرية حتى لا تقوم الدولة بالسيطرة عليها وإخضاعها مثل الميديا ؟ وهل تكفي القوانين الموجودة لحلّ الإشكالات الطارئة بسبب الميديا الاجتماعية (كالثلب مثلا والترويج للإرهاب والإشادة به وانتشار خطاب الكراهية والتأثيرات على الحياة السياسية)
تخضع الميديا السمعية البصرية، حتى عندما لا تستخدم الموارد العمومية (الطيف الترددي الأرضي) كالقنوات التلفزيونية الفضائية التي تستخدم الأقمار والاصطناعية إلى التنظيم في المجتمعات الديمقراطية، رغم الإقرار دستوريا وفلسفيا بحرية الاتصال السمعي البصري، بسبب علاقتها الوطيدة بالحياة السياسية والديمقراطية وباحترام حقوق الجمهور في مضامين جيدة ومتنوّعة وكذلك بضرورة احترام الكرامة البشرية وحماية المجتمع من المضامين التي تقوم على العنف والدعوة إلى الكراهية.... وتضع الهيئات التنظيمية (التعديلية) أطرا ومعايير تعمل داخلها الميديا السمعية البصرية ومواصفات للميديا الجيدة كالشفافية....

لا يشمل تنظيم الميديا الاجتماعية رغم أنها تقوم ببعض وظائف الميديا السمعية البصرية فهي تزود الناس بالمضامين الإخبارية المهنية (التي ينتجها) وغير المهنية (التي ينتجها) وفق الأشكال نفسها أي فيديوهات، نصوص، مواد تفاعلية.... كما يستخدم السياسيون كذلك الفايسبوك للترويج لأنفسهم عبر كل الاشكال المتاحة، بل إن السياسيين التونسيين استخدموا الفايسبوك لتجاوز الضوابط التي وضعتها الهيئات التنظيمية أثناء الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية لتنظيم عملية الإشهار السياسي .

ومن المداخل الأخرى التي يمكن أن تدفعنا إلى التفكير في تنظيم الميديا الاجتماعية استخدام الإذاعة والتلفزيون للفايسبوك كمنصّة لبث مضامين خاصة بالإنترنت يستهلكها المستخدم دون الحاجة أحيانا إلى الانتقال إلى الموقع مما يعني أن الهيئات التنظيمية ستفقد سلطتها على جزء من المضامين التي تنتجها الميديا السمعية البصرية التي هي نظريا خاضعة لها.

هل الميديا الاجتماعية مرفق عام ؟
عرفت المجتمعات الديمقراطية نقاشا حول تأثيرات الميديا الاجتماعية بما أنها اصبحت تمثل مرفقا عاما يسدي خدمات عديدة للناس في كل مجالات الحياة وظهر هذا الجدل في الأوساط التي تدافع عن الحريات الرقمية ولدى الجامعيين على غرار الباحثة الأمريكية (1) دانا بويد Danay Boyd التي تعتبر أن مؤسس الفايسبوك قد نجح في إستراتيجية تحويل الفايسبوك إلى مرفق اساسي من مرافق الحياة الإجتماعية لا يمكن لبعض فئات المجتمع التخلي عنها مما حدّ من خيارات الناس في استخدام الموقع.

ويرى كثيرون مثل دانا بويد إن الفايسبوك تحول إلى مرفق اتصالي أساسي في حياة الناس ولدى المراهقين على وجه الخصوص على غرار الهاتف والإنترنت. فالمستخدمون لا يمتعون في الحقيقة بحرية كبيرة في هذا المجال، فعندما يقوم شخص ما بفتح حساب على موقع الفايسبوك فهو يستثمر جهودا كبيرة لبناء شبكة من العلاقات الاجتماعية ويصبح على نحو ما أسير الموقع أو الخدمة تماما كما هو الشأن بالنسبة لخدمات الكهرباء والغاز والهاتف، لأن تغيير المزّود (أو الموقع) ليس بالبساطة التي نتصورها إضافة إلى أن الانخراط في الميديا الاجتماعية يكاد يصبح إكراها اجتماعيا إذ يصبح عدم الحضور فيها نوعا من الانعزال الاجتماعي. ففي تونس مثلا، إذا أرادت جماعة أو حركة اجتماعية ما، أو مواطن، أن يكون لها ظهورا في المجال العمومي للتعبير عن مواقف وأفكار أو للترويج لقضاياها يصبح استخدام الفايسبوك أمرا بديهيا نظرا لمكانته في الاتصال.

هكذا تعاظم الحديث عن الفايسبوك باعتباره يمثل احتكارا monopole من طراز جديد من ضمن احتكارات أخرى لا تقل خطورة. وتدعو الناشطة في مجال ما يسمّى الحقوق الرقمية Rebecca MacKinnon أن يكون «أسياد المجال الافتراضي موضوع مساءلة مستمرة. لأن الفضاء الافتراضي الذي تديره صناعة الإنترنت تحول إلى مجال تعيش فيه فئات متعاظمة من المواطنين دون ان يساهموا بالضرورة في تنظيميه. في هذا الإطار أطلق أستاذ جامعي كندي دعوة، رغم طابعها غير الواقعي، لتأميم الفايسبوك (Let’s Nationalize Facebook) بما أنه أصبح مرفقا عموميا اتصاليا اساسيا للحياة الاجتماعية وبما أنه أصبح كذلك يهدد الحياة الخاصة للناس (2).

وتتفاوت إجابات المجتمعات إزاء إشكالية تنظيم الميديا الإجتماعية. ففي المجتمعات الديمقراطية، إضافة إلى النقاش الأكاديمي والفكري، تشكلت عديد المبادرات للدفاع عن الحقوق الرقمية للمواطنين خاصة في مجال حماية المعطيات الشخصية والحياة الخاصة. كما أطلقت الدول الأوروبية تحقيقات قضائية حول طرق استخدام الفايسبوك للمعطيات الشخصية. ففي ألمانيا صدر قانون صارم في هذا المجال منذ اسابيع، كان محل نقاش كبير، يقضي بتغريم مؤسّسة الفايسبوك بغرامات مالية تدريجية يمكن أن تصل إلى 50 مليون يورو 150 (حوالي 140 مليون دينار تونسي) عندما لا يقوم فايسبوك باتخاذ الإجراءات الضرورية عندما يتم إبلاغه بمضامين ذات علاقة بخطاب الكراهية (شتم: دعوة إلى العنف والإشادة بالإرهاب) وبالإخبار الزائفة. كما يجبر هذا القانون الفايسبوك على الإفصاح عن هويات الاشخاص الذين ينشرون هذه المضامين المتصلة بخطاب الكراهية.

وفي فرنسا كذلك تم تسليط عقوبات مالية على مؤسسة الفايسبوك وقام الإتحاد بتغريمها بخطية قدرها 110 مليون يورو بسبب مسائل تقنية متصلة بالمعطيات الشخصية عند شراء منصة WhatsApp.

ويتعامل فايسبوك مع مثل هذه الإجراءات والمبادرات والدعوات بتنظيمه وفق اشكال مختلفة. وأعلن في هذا الإطار أنه يقوم بحذف 60000 الف مضمون يروج لخطاب الكراهية اسبوعيا: كما أعلن أنه قام بحذف 30000 حساب زائف في فرنسا. ولمجابهة ظاهرة الأخبار الزائفة طور فايسبوك العديد من البرامج منها برنامج مع آكاديممين وشركات تكنولوجية يديره معهد الصحافة في جامعة نيويورك (CUNY) ، إضافة إلى برنامج آخر بالتعاون مع مؤسسات صحفية فرنسية. كما أطلق فايسبوك منصة تفاعلية للحوار حول ما يسميه الأسئلة المحرجة(3) hard questions التي تتعلق بالترويج للإرهاب ومصير صفحات الموتى، وبالأخبار الزائفة وبخطاب الكراهية وتأثيره على الحياة الديمقراطية.

وفي المجتمعات الديمقراطية طورت المؤسسات الاقتصادية والحكومية والتربوية وحتى مؤسسات الميديا نفسها اساليب مبتكرة لإدارة الميديا الاجتماعية عبر التنظيم الذاتي بواسطة مدونات سلوك تحدد مسؤولية وحقوق المستخدمين. فكثير من مؤسسات الميديا في العالم وضعت مدونات لتنظيم استخدام الصحفيين للميديا الاجتماعية على غرار مؤسسة البي بيس ي ووكالة الأنباء الفرنسية وتضمنت بعض المواثيق التحريرية التي وضعتها بعض مؤسسات الميديا التونسية بنودا تتعلق بالميديا الاجتماعية على غرار موزاييك أفم والتلفزة التونسية
أما الدول غير الديمقراطية فتعالج هذه المسائل بطرق تقليدية عبر المنع كما هو الشأن في الصين التي منعت الفايسبوك منذ 2009

لماذا يغيب النقاش حول تنظيم الفايسبوك في العالم العربي ؟
أما في العالم العربي فإن النقاش حول إمكانات تنظيم أو تعديل الفايسبوك فهو غائب وهذا يشكل مفارقة في ذاته لأن الفايسبوك يمثل رمز العولمة الاتصالية الشاملة.... فقد تمثل المثقفون العرب العولمة في الكتب والمقالات والندوات والمؤتمرات العديدة التي خضت لهذا الموضوع باعتبارها خطرا يهدد الهوية الثقافية والقيم الأصيلة والقيم الأخلاقية على الأقلّ منذ منتصف تسعينات القرن الماضي مع بدايات انتشار التلفزيون الفضائي.

وما إن تحققت العولمة الاتصالية بشكل فعلي وتسرّبت منظوماتها إلى الحياة العامة والخاصة في المجتمعات العربية حتّى توقف هذا الخطاب المناهض للعولمة و أصبح المدافعون عن الهوية والخصوصية نشطين في الميديا الاجتماعية وفي الفايسبوك على وجه الخصوص، رمز العولمة الرأسمالية بما أنه موقع تديره شركة أمريكية اتخذت من العالم سوقا لها. صحيح أن الفايسبوك تعرض في السنوات الأولى من انتشاره إلى هذا النقد الهوياتي المستمد من أدبيات مناهضة العولمة الثقافية كما أنه كان موضوعا لخطاب ناقد يستند إلى مرجعية أخلاقية ( تهديد الأسرة العربية) خاصة في دول المشرق العربي لكن هذا النقد سريعا ما خفت.

كما يمكن أن نلاحظ أن النقد الذي يتعرض إليه الفايسبوك في المجتمعات الديمقراطية لا نجد صدى له في العالم العربي خاصة فيما يتعلّق بحماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية وقد يكون لغياب هذا النقد سببان :
السبب الأول هو الحريات التي أتاحها الفايسبوك لمناهضي العولمة الثقافية أنفسهم للحصول على موارد للاتصال والتعبير عن الأفكار والإيديولوجيا : فالحركات الإسلامية والتنظيمات الجهادية والمدافعون عن الأيديولوجيا الهوياتية وجدوا في الفايسبوك وفي الميديا الاجتماعية بشكل عام مجالا لا نظير له للترويج لأفكارهم بل وحتى للدعوة الدينية ثم إلى الجهاد والتجنيد

أما السبب الثاني فيتعلّق بطبيعة الفايسبوك نفسه الذي هو في حقيقة الأمر لا ينتج مضامين معينة بما أنها منصة تريد أن تكون محايدة مفتوحة على كل الأنشطة والمضامين الممكنة وتدير تفاعلات الناس وعلاقاتهم (وهذا سبب من اسباب انتشار الفايسبوك وشعبيته كما فسرنا ذلك في مقال السبت الماضي).

إشكالية تنظيم الفايسبوك في السياق التونسي

لا نرى نقاشا عموميا حول الفايسبوك في تونس حتى في الأوساط الأكاديمية إلا في حالات نادرة رغم الحضور المتعاظم للفايسبوك في حياتنا الجماعية والحديث المتواصل عن الميليشيات الفايسبوكية وتنامي الأخبار المزيفة والحملات الدعائية واستخدام الفايسبوك لإدارة الصراع السياسي عبر الحملات الدعائية والتضليلية واستخدام التنظيمات الإرهابية (تنظيم أنصار الشريعة خاصة) للفايسبوك لنشر دعايتهم والاعتداءات المتعاظمة على سمعة الناس وعلى كرامتهم ونشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف حتى يكاد الفايسبوك يتحول إلى مجال خارج القانون يساهم بشكل كبير في إفساد الحياة العامة.

هل تكفي القوانين الحالية لحلّ كل هذه الإشكاليات أي المرسوم عدد 115 المؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر وفصوله المتعلق بالثلب أو مجلة الاتصالات (الفصل 86) أو المجلة الجزائية (القسم الخامس المتعلق بهتك شرف الإنسان وعرضه الفصول 245 ,246 و247) لحلّ الإشكالات الناتجة عن استخدام الفايسبوك ام يجب أن نثير أيضا مسألة مسؤولية الدولة والنخب الفكرية والميديا وحتّى الصحفيين أنفسهم.

تتمثل مسؤولية الدولة في أكثر من مستوى : تطوير تشريعات لحماية المواطنين من أخطار التلاعب بمعطياتهم الشخصية كما ينصّ على ذلك الفصل 24 من الدستور ودعم قدرات الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية لتعزيز آليات عملها في المجال الرقمي وكذلك تطوير برامج التربية على الميديا l’éducation aux médias لتعزيز ثقافة التعامل مع منصات الميديا الاجتماعية وإدراجها في البرامج التربوية. ويمكن أيضا للمؤسسات الحكومية أن تطور كذلك ثقافة التنظيم الذاتي autorégulation عبر وضع مدونات السلوك الجيد على استخدام الميديا الاجتماعية، كما أن وزارات بعينها يمكن أن تطور حملات في مجال مقاومة خطاب الكراهية في الفايسبوك التي هي أيضا من مسؤوليات منظمات المجتمع المدني,

اما الميديا التونسية فدورها أصبح رئيسيا كما تبين ذلك التجارب العالمية (سنعود إلى هذا الموضوع في مقالات مقبلة) حتى تكون بديلا عن الأخبار الزائفة التي تزدهر في الفايسبوك. لأن الميديا التونسية تسقط أحيانا في فخ إعادة نشر المعلومات المتداولة في الفايسبوك دون إخضاعها للتدقيق والتمحيص والتثبت وهي عمليات في صلب المنهجية الصحفية بل أن بعض صفحات الميديا في الفايسبوك تتحول إلى مجال لنشر خطاب الكراهية في غياب سياسة إدارة واضحة politique de modération لهذه الصفحات وتخصيص الموارد البشرية الضرورية لإدارته. هذا دون أن ننسى بعض النخب السياسية والصحفية وحتى الأكاديمية التي تنخرط في الاتصال العدائي ونشر الأخبار الزائفة وحتى خطاب الكراهية.

والخلاصة أن تونس مثل باقي الدول العربية، وعلى عكس الدول الأوروبية، لا يمكن أن تؤثر في عملية تنظيم الفايسبوك لأن المؤسسة التي تديره ليس لها علاقات مع تونس كمجال لنشاطه والتي لا يمكن أن تسلط عليها عقوبات أو تتخذ ضدها إجراءات. أما في كثير من الدول العربية الأخرى فإن إشكاليات الفايسبوك والميديا الاجتماعية تعالج عبر المنع والمراقبة. وهذا شكل جديد وفريد من الخضوع إلى العولمة الاتصالية الذي لا لم ندرك بعد نتائجه.

بقلم:الصادق  الحمامي

المشاركة في هذا المقال