Print this page

حديث الأنا: (2) في رحاب مستشفى سهلول بالساحل السعيد

أنا لا أحبّ المستشفيات وتراني أهابها. إن اعترض سبيلي مريض، يحمل علّة، ألتفت الى الجهة الأخرى حتّى لا ينقبض قلبي ويصيبني غمّ. يجب أن أذهب الى المستشفى. هذا ضرورة والمرض الخبيث بيّ متربّص. ينوي شرّا. في المستشفى، يجب أن أجري

مفراسا وأتبيّن ما كان في الأحشاء من نبإ. لا أحبّ المفراس هذا وفي المفراس كشف للباطن. يعلمك بما لا تعلم ويأتيك بأخبار، أحيانا، مفزعة... المفراس هو السكانار. تلك الآلة الدائرة، عجلة جرّار منتفخة. تدخلها ممدودا على ظهرك، يداك الى الخلف، لاستجلاء ما في داخل الجسم من خبر. كلّ الأعضاء، يراها المفراس، محدّدة، بيّنة. المفراس آلة مفزعة...

كنت في قاعة الانتظار، هائما، في قلق. أنا وزوجتي ننتظر دوري. في قاعة المفراس صمت وخشية. كلّ المرضى حولي في سبات. في وجوههم صفرة وفي أجسامهم ارهاق ومحنة. في قاعة الانتظار عليك أن تنتظر. لا تستطيع القول. لا تقدر على الكلام، على التفكير، على تبادل الرأي. كلّ شيء حولك تلقاه منتهيّا. في رأسك انقباض. كلّ جسمك في فراغ مطلق. في قاعة الانتظار، يتوقّف الزمن. تنتهي الدنيا. لا شيء حولك يحمل معنى. الكلّ معلّق... قاعة المفراس قاعة مفزعة. في انتظار الساعة، كلّ يحمل جسمه بين يديه يعرضه حتّى يقول المفراس ما فيه من خير وشرّ، من عافيّة وعلّة...

كنت وزوجتي في صمت ثقيل. كان المرضى جميعا في صمت مقبرة. الكلّ ينظر دون أن يرى. الكلّ ينتظر دوره. ما معنى المفراس؟ رأيت الكلمة مرسومة على باب القاعة وكنت في ذهول. بقيت الكلمة في رأسي تتردّد. أعيدها مرّات ولا أدرك لها معنى. أقلّبها طولا وعرضا. من أين جاءت الكلمة؟ ما هو أصلها وكيف اشتقّت؟ لا أدري. لا أقدر على النظر في المعنى. ما كنت قادرا على التركيز أصلا... في الغد، سألت أخي الأكبر عن أصل الكلمة. سألت صحبي. نظرت في معاجم اللغة. المفراس من الفراسة وتعني تلك المهارة في التعرّف في بواطن الأمور من ظواهرها، هي «ادراك حقيقة الباطن بالظنّ الصائب». هي القدرة على الاستجلاء، على تبيّن ما سوف يأتي. في حديث للنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم جاء: «اتّقوا فراسة المؤمن فانّه ينظر بنور الله»... ذاك هو المفراس. آلة مفترسة تنظر بنور العلم، تمكّن من ادراك الباطن بالظنّ الصائب... اشتقاق جميل. مصطلح موفّق. قضيت لحظات ممتعة مع الظنّ الصائب.

يجب أن أذهب الى سوسة، الى مستشفى سهلول الجامعي لأجري الفحوص فينظر فيها الطبيب ويقول ان انتهيت مع المرض أو مازال ماسكا، متمكّنا... منذ أسابيع وأنا في خوف. هو خوف مبهم. هو خوف ممّا قد يحصل. منذ أيّام، في كلّ عشيّة، أذهب لأنام وقد شدّتني حيرة ومشى عقلي في فرضيّات عدّة. ما كنت أرغب في النوم. أذهب للنوم حتّى ألتقي بنفسي وانظر في الظلمة ما كان لي مع الزمن من عمر وما كان لي مع المرض من تبعات. تحت اللحاف، في الظلمة، أرى نفسي، أنظر في ما كان لي مع الأيّام من حلو ومرّ...

كلّما اقترب الموعد يشتدّ هلعي. يضيع فكري. أسرح في الأرض. تهزّني احتمالات عدّة. كلّ شيء ممكن. ها أنا أمشي بين الآخرة والدنيا، بين الحياة والعدم... أحيانا، في يأس، أسأل النفس: أفلا يكفيك عيشا وقد تجاوزت الستّين منذ سنين؟ أفلم تشبع من الدنيا؟ لما كلّ هذا الشغف بالحياة وقد قطفت من الحياة أنوارا ولذّة وأخذت من الطيّبات ما شئت؟ لما هذا التمسّك بالدنيا والآخرة خير وأبقى؟ رغم ما كان من سنين ومن زمن ولّى، رغم ما قطفت من أزهار وما كسبت من نعمة، رغم ما كان من حبّ ومن لذّة، مازلت شغوفا بالحياة، محبّا لما فيها من شمس وسموات عليا، من طرب ونشوة، من أنهاد تقطر عطرا ومن لحم يرقص عشقا...

المشاركة في هذا المقال