تألّقا لقضايا التحرّر الوطني من الاستعمار لقلت بدون تردد أنّهما شريطي المخرج الجزائري محمد لخضر حامينة "رياح الاوراس " وأيضا "وقائع سنوات الجمر" المتوّجين بجائزتين رفيعتين في مهرجان كان السينمائي وهما الكاميرا الذهبية بالنسبة للأول سنة 1967 والسعفة الذهبية بالنسبة للثاني سنة 1975 وهما الفيلمين الذين عرضا خلال ايام قرطاج السينمائية في إطار تكريم المخرج الجزائري الذي غادرنا الى الدار الاخرة هذه السنة.
وهنا لا بدّ ان أضع الأمور في نصابها التاريخي والفني في علاقة بأهميّة هذين التتويجين أوّلا في ما يتعلق بطبيعة مهرجان كان السينمائي الذي نجح في أن يكون ودون منازع أقوى مهرجان سينما مؤلف في العالم وهذا لا يعود إلى السجّاد الأحمر الشهير وقدرته على جذب مشاهير السينما العالمية كل سنة ولكن خاصّة لأنّ منظّموه استطاعوا أن يجعلوا منه القبلة الأولى لأفلام أقوى مخرجي أفلام المؤلف ولذلك فانه ومنطقيا فان الفيلم المتوّج بإحدى الجوائز الكبرى القليلة للمهرجان هو في الواقع من أفضل الأفلام المنتجة على مستوى العالم لتلك السنة.
ثانيا لا بدّ أن لا ننسى أنّ السينما العربية ما عدى السينما المصريّة كانت في فترة الستينات تخطو خطواتها الأولى ولم تكن تحظى آنذاك باهتمام عالمي وأكبر دليل على ذلك ما أوحى الى الراحل الطاهر شريعة بإنشاء أيام قرطاج السينمائية والتي أراد مسابقاتها الرسميّة حصريّة على الأفلام العربيّة والافريقية كرد فعل لما شاهده خلال ندوة صحفية خصّصت لفيلم عربي مشارك في مهرجان برلين حيث لم يحضر تقريبا أي صحفي اجنبي .
ولأجل الأسباب التي ذكرتها أعلاه فان نيل جائزة رفيعة في أكبر مهرجان في العالم سنة 1967 من طرف مخرج عربي وبشريط بذلك المستوى الفنّي و يفضح جرائم الفترة الاستعمارية للبلد المنظم للمهرجان هو نجاح استثنائي بكل المقاييس...
استمد محمد لخضر حامينة مادتّه السينمائية من تجربته الشخصية كمناضل سابق في جبهة التحرير الجزائرية التي التحق بقياداتها في تونس في خمسينات القرن الماضي وأيضا كابن شهيد قتلته القوات الفرنسية ابان الثورة الجزائرية وأيضا كجزائري ملتصق بأرضه وبهموم أبناء شعبه فقد ذكر في مقابلات صحفية أنّ عروضا كثيرة اقترحت عليه لإخراج أفلام في فرنسا وإيطاليا بعد تتويجه في مهرجان كان ولكنه رفض وعندما سأل عن الأسباب قال انه مرتبط أشدّ الارتباط بالجزائر ...
أدرك المخرج عندما كتب سيناريو "وقائع سنوات الجمر" أنّ انجاز الفيلم يحتاج الى تمويل ضخم لطبيعة المشاهد الكبرى في الصحراء الجزائرية وقد استجابت الرئاسة الجزائرية بقيادة الرئيس بومدين آنذاك التي موّلت الشريط وقامت بعرضه امام مجموعة من الرؤساء العرب في أحد المناسبات الوطنيّة ولكن طموح المخرج كان أكبر من مجرّد مخرج لشريط تحتكره الدولة من أجل عرضه في المناسبات الوطنية فقد كان ينوي المشاركة في مهرجان كان لأنه كان يشعر بأنّ الفيلم قوي فنيّا وهو الشيء الذي عارضته الرئاسة التي رفضت منحه نسخة ناطقة من الشريط لولا احتفاظ المخرج بنسخة ثانية تمكّن بواسطتها من المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان ليتوّج اثر ذلك بالسعفة الذهبية ...
حكى المخرج في مقابلات صحفية كيف أنّه لم يعد الى الجزائر مباشرة بعد التتويج ولكنه أتى الى تونس مرّة أخرى بعد دعوة تلقاها من الرئيس الحبيب بورقيبة الذي استقبله استقبال رؤساء الدول فقد أقام على شرفه مؤدبة عشاء دعا إليها كامل وزرائه وقد أشاد المخرج بثقافة بورقيبة ونظرته المستشرفة ونعته بأنّه رئيس كبير.
اذا أردت ان أقدّم نظرة نقديّة للفيلم فأقول أنّه حكى فترة حسّاسة من تاريخ الجزائر تمتد منذ بداية الثلاثينات الى الخمسينات من خلال شخصية أحمد الرجل الجزائري البسيط الذي يقطن احدى القرى الفقيرة في جنوب الجزائر حيث الأمطار نادرة والجفاف جعل النشاط الفلاحي المورد الوحيد للحياة شبه مستحيلا مما يضطر أحمد لمصاحبة زوجته وأبناءه الى أقرب مدينة كان ابن عمّه سبقه اليها وذلك طمعا في ظروف حياة أفضل ولكن قبل هذا صوّر حامينة جيّدا شدّة القحط ومدى قساوة الحياة في قريته الصحراوية و ندرة المياه الصالحة للشرب وموت المواشي وأثر قساوة الحياة على وجوه الأهالي وانتظارهم للأمطار وشدة فرحهم عند قدومها وأيضا الفتنة التي تصل الى حد العنف الأهلي عند تقسيمها بينهم وقد فهم أحمد في مرحلة متقدمة من الشريط أنّ المستعمر استحوذ على الأراضي الخصبة حيث المناخ أفضل ودفع السكان الأصليّين الى مناطق قاحلة ...
في المدينة يستقبل أحمد رجلا سيلعب دورا محوريّا في الشريط وهو ميلود، الرجل الذي فقد عقله ويلعب الدور المخرج حامينة نفسه و حضور هذه الشخصية مع أشياء أخرى منها أداء الممثلين وتقنيات التصوير والموسيقى المصاحبة أعطى للفيلم مسحة فنيّة وعمقا في الطرح جعله يتجاوز دوره التاريخي .
في المدينة يكتشف بطل الشريط حقائق أخرى وأهمّها حضور المستعمر الفرنسي وذلك في شكل العمارة وفي الإدارة وأيضا صاحب العمل وظلمه ونظرته الدونيّة للعمّال الجزائريّين وهنا يلعب ميلود الذي يجوب المدينة طولا وعرضا ويقول جملا ملغزة تحرّض على الثورة دورا دراميا مؤثرا في الشريط لتبدا أولى بذور الثورة تولد داخل أحمد ويكون أوّل صدام فعلي مع المستعمر الفرنسي حينما يحاول صاحب العمل إهانته بحضور ابنه الصغير حينها لم يتوانى احمد عن الرد بعنف ليساق إلى مركز الشرطة ليعنف بشدة ويرمى به اثر ذلك في الشارع .
يأتي اثر ذلك جزء مهم من الفيلم تم تصويره ببراعة وهي فترة جائحة تنتاب المدينة ناتجة عن فيروس "التيفوس " حيث سمح للفرنسيين المقيمين بمغادرة المدينة ولم يسمح للجزائريين الذين تركو ليواجهوا مصيرهم بمفردهم ؛ شاهدنا تكدّس الناس أمام مراكز العلاج وفي الأنهج الضيّقة وفي المنازل ممّا أدّى الى وفات أعداد هائلة منهم في مشهديّة مؤثّرة نجح المخرج في إيصال تفاصيلها المؤلمة بكل حرفيّة .
لم ينج من عائلة بطل الفيلم سواه وابنه الصغير ولم تزد الاحداث المتتالية والمؤلمة وأهمّها تجنيده بالقوة صلب الجيش الفرنسي وآخرها قصف وقتل متساكني قريته الاصليّة وأيضا احتكاكه بمناضل سياسي "سي العربي " وقع نفيه الى المدينة التي اختار العيش فيها سوى قناعة بضرورة المقاومة المسلحة التي انخرط فيها وانتهى به الامر الى الاستشهاد في آخر المطاف ...
ربّما تكون نقطة قوّة الفيلم في نجاح المخرج في إضفاء لمسة فنيّة على كل ردهاته جعلته يتجاوز صبغته التوثيقية التاريخية الى عمل فنّي راق يروي الحيثيّات والظروف التي أدّت الى اندلاع الثورة الجزائرية المجيدة من خلال قصة جزائري بسيط حملته الاحداث المتلاحقة الى الاقتناع بضرورة الثورة والمقاومة والاستشهاد ...
في النهاية أقول حبذا لو تعمل وزارة الثقافة على عرض هذا الفيلم في دور الثقافة بكلّ معتمدياتنا فهو يجمع بين التاريخ المعاصر لمنطقتنا المغاربية وفن سينما المؤلف الراقية ...
بقلم: نبيل بن إبراهم (مفكر في مجال علاقة الثقافة بالتربية)