Print this page

الثورة أولا رغبة والبقية سيأتي يوما ما

عاد هذا العام الانقسام حول معني الثورة ليبلغ

درجة خطيرة . التّعليق على حجم الحشود التي كانت يوم 17 ديسمبر في العاصمة و دور مؤسسات الدولة في جمعهم قضية صغري لا تكفي في القياس المنطقي أن يستنتج منها أي شيء المسألة الأهم هو ما أرادوا أن يجتمعوا عليه كما لو أنهم على قلب رجل واحد ينزعون عن غيرهم صفة الوطنية. ويعلنون ولاءهم الطقوسي لقائدهم و لا يقبلون بأن نعيش معهم نحن المختلفون عنهم كمواطنين أحرار.

لا أصادر حقّ أي واحد منهم خرج من تلقاء نفسه أو بدعوة من حزب في أن يكون ما يشاء ولا أصمه بأي شيء ولكني أقف ضدّهم جميعا أيا كان عددهم و عتاد هم حين يتعلق الأمر بمصادرة حقّ الخوض في معني الثورة لأن تحرير المعني و الحق في تمعين الأشياء و الأحداث بما فيها حدث 2011 مكسب من مكاسب ثورة أزاحت الغمة عن أوهام الرأي الأوحد , يمكن لأن نظام ولأي قوة مادية أن تبسط نفوذها على ما هو مادي وحتي على قطاعات واسعة من الجمهور ولكنها لا تقدر على حبس المعني. لقد فشل السجن في إيقاف عقل غرامشي عن التفكير و الدّرس أن كل دولة وكل ملّة تلاحق منتجي المعني تهزم في النهاية
هب أن أصبح معني الثورة خطّ فرز يشق الرأي العام و المجتمع و حقول البحث في العلوم الاجتماعية . بين من ينسبها للفقراء و المنسيين المنشدّين لكرامتهم ويغار عليها من ريح الشمالومن يريدها رداء لكلّ التونسيين فليس في ذلك ضيم ولا مضرة . طالما أنّ لا أحد منّا يحمل السّلاح و يطلب تصفية الرأي الآخر فمن حمله يوما في وجهنا ووجه الدولة خسر كلّ شيء.الخصومة حول دلالة ما حصل منذ 17 ديسمبر 2010 الي مسيرة 17 ديسمبر 2025 لا تزال قائمة وهي محمودة إلاّ أنها اليوم مصادرة في غياب نقاش عمومي حرّ .
ومع ذلك هناك حركة في كلّ الاتجاهات في الفكر و الأحاسيس و السياسة و السلوك و اللباس و الجماليات .. عميقة تسلّلت داخلها ومن خلالها الثورة هي حركة لا تملك اللغة الخشبية لثوار النمط القديم و للحكام قدامى و جدد تلقّف ارتداداتهافبين كلّ الطّيات الصغيرة ثورة لها اسمها المخصوص وهي حين تتملّك اسمها الخاص و الأصلي تنغرس في المحايث, مزية الثورة '' الكبرى '' أنها فكت الطوق على كلّ الثورات '' الصغري'' بل إن هذه الأخيرة لم تتوقف حين تعطلت الكبرى بعد أن أنّت بما حملت .
تبنّي معني الثورة التي تتسرب في طيات المجتمع و سيكولوجيا الأفراد يعني أنها تمس اللاّمتناهي في الصغر . بين هذه الطّيات التي لا تري رغبة في الحضور الثوري بوجه مكشوف واسم شخصي صريح هي رغبة تفسح المجال لافتكاك السلطة لا كلّ السلطة بالمعني الاقتصادي و السياسي بل السّلطة المقسمة و المفتتة و المتاحة. وهو نصر عظيم .لذلك لا يحقّ لأحد أن يوقف هذه الحركة التي تجيء لأنها مستمرة كما أبو هريرة المسعدي كالماء تجري
سرديّة كلّ سجين مدعاة ألم حارق ولكنها مرآة تعرض أمامنا وأمام السّجان ليري كلّ منا وجهه فيها, نحن لن نفرّ من المرآة لأننا لا نخشي أنفسنا ولا نخجل منها ونقر بما فعلناه بها وما فعل بنا الآخرون و الزمان , الهارب من المرآة عادة هارب من نفسه و الهارب من نفسه خطر عليها وعلى الغير ويرفض العيش في زمن ثوري سائل لا تسلطية فيه .
صرنا ببركة الثورة وحمدها نؤمن أنه لا بدّ لنا من وعي تاريخي بمجمل وجوه مقاومتنا و بجغرافياتها البشرية و الذهنية المتنوعة وعي يخرجنا من نرجسيتنا و يمنح البنى الذهنية والتركيبات الاجتماعية دورا ويسلّط الأضواء
على تلك الذاتيات التي عيّنت ولا تزال تعيّن الجمهور المتعاطف و ''المتمرّد'' إنها عناصر تشكّل المشترك الذي جعل سقوط الاستبداد ممكنا وهي أيضا العدّة الأساسية للرغبة في الثورة . الرغبة هنا ليست بلاء ولا نقصا ولا رذيلة هي وقود كلّ '' آلة جامحة و راغبة'' من تلقاء نفسها في الثورة و كسر المحظور . ثمّة، في الثورة التونسية على الأقل، تفصيل صغير،"شيء ما لا نُدرك ماهيته، شيء يكاد يكون لا شيء''. (Le je ne sais pas quoi et le presque rien) . اقتباسا من عنوان مؤلف جانكليفيتش. ولكنه يضفي معنا دقيقا على كلّ حالة ثائرة .لسنا مُطالَبين كلّ مرة باختبار أيديولوجيلنراها بصورة مجملة في مقولة واحدة .كم نحن بحاجة أن نمعن النظر في تفاصيلها و التفكير فيها بما هي قريبة من كلّ واحد منّا بل من حياته هو فحين تكون ثورته هو تنفتح وتنثني في تجربته الحميمية و تضع حدّا للشمولي لينغرسكلّ مناّ بلحمه في لحم عالمها الجديد فتكون بذلك شأنا ذاتيا و الذاتي ليس أناني .
اليوم تمنحنا السجون فرصة مدّ الجسور بين عوالم الحاضر وخرائط الذاكرة بقبوع كلّ جسم سجين في زنزانته وحيدا هو في ذات الحين تجربة و جيل و كلمات و صوت أي في الجوهر معني ما وهو جسر مع خارج ما , ثمة خيط لا مرئي يربط كلّ المعتقلين و كل الجسور و كلّ العوالم الخارجية ـ. تونس الجديدة المتعددة تولد اليوم في سجونها وتكفي عودة المساجين الي الفضاء الحر وعودة الرغبة في العيش معا حتي تقف تونس الحرة و الديمقراطية في قلب شرق قاتل لرغبتها في الثورةحاقد عليها كراها لثائراتها الباسلات و قبالة غرب استعماري ,تقف قادرة على حمل رسالتها الحضارية الإنسانية بعناد .
في ضوء الاهتمام بالثورة سواء من جهة الاحتفاء بها أو من جهة التساؤل عن تطابق ( دالّها ) مع ( مدلولها ) . يعود إذن السؤال الفلسفيّ "ما الثورة"؟ وهو أجدى لنا من سؤال لِمَ الثورة؟ كما يقترح فتحي المسكيني و هو الذي يليق بأن نقول الثورة في لغة فلسفية. نطرحه ليس كما تفكّره كانط وتناوله وهو يعيش كألمانيّ ثورة الفرنسيّين،معجبا ومتوجّسا. هو سؤال أكثر بساطة :لما الرغبة في الثورة ؟
رفض أن تكون الفلسفة قولا كليّا في الأشياء هو الذي يدفعها للانشغال بالحدث وبالراهن وبصياغة أسئلة دنيوية ''ما الذي يحدث الآن؟ تساءل فوكو وما هو هذا الآن الذي نوجد داخله'' و يوجد داخلنا , و هو تحوّل في مهمة الفيلسوف الذي كفّ عن أن يكون مهموما بما هو كونيّ ومثاليّ لينصبّ اهتمامه على مشكلات الحياة. ندقّق السؤال لنقول ما الذي يحدث فينا هل هي رغبة في الثورة ؟ ام في الخنوع ؟ وهل يحقّ لنا الخنوع بعد سجن شيماء و العياشي و نجيب و الحكم الأخير على عبير موسي؟ وكلّ من سبقهم من المظلومين و المظلومات , يتماهى اليوم آلاف الشباب نساء و رجالا مع وجه سجين وصوته وفكره وهو موقف أنطولوجي و أخلاقي مولّد لطاقة لا نجد لها بيسر رديفا فالالتزام اتجاه السجين صديقا , رفيقا , اخا , أما , أبا ,جدّا , زوجا , حبيبا ... يجعل عشق الحرية تجربة حسيّة غائرة في الحيوي و رمزية في ذات الحين .
في رفعنا من معنى الثورة كحساسيّة نتخفّف مؤقتا من التوجّسونتخفّف من جدية التفكير فيها من منظور بنيوي يطمس الذاتيات المشبعة بالثورة. خطّ دفاعنا الأخير.
قد نحكم على فشل الثورة أو نجاحها بعديد المؤشرات ولكننا نحتاج أن لا نكون دوما ''مجرّدين جدّا ''نحتاج أن نحبّ الثورة كما لم نحبّ أبدا . أن نحبّالثورة التي تسري فينا. لأنها أكثر عمقا اليوم ، ولا يليق أن نسحب عليها منوالا واحدا. إنّ رغبتنا الجامحة في الثورة هي التي تحدّد جدارتنا بها.و البقية يوماما , يرونه بعيدا ونراه على مرمي حجر.
 

 

 

المشاركة في هذا المقال