Print this page

حروب بلا انتصارات

القرن العشرون وقواعد الانتصار


رغم ما شهده القرن العشرون من عنف غير مسبوق، ظلّت الحرب والنصر يُفهمان وفق منطق واضح نسبياً. فالحربان العالميتان، وحروب التحرر من الاستعمار، بل وحتى بعض الحروب "المحدودة" إبان الحرب الباردة، أنتجت جميعها نهايات محددة: استسلامات، استقلالات، معاهدات، تغييرات في الأنظمة، وموازين قوى جديدة. حتى حين كان الدمار هائلاً، بدت الحرب قادرة على إفراز نظام ما، ولو كان ظالماً.
لم يكن النصر حينها عسكرياً فحسب، بل كان سياسياً ورمزياً وسردياً أيضاً. كان يتيح إغلاق دورة العنف، وتسمية المنتصر والمهزوم، وإدراج الحرب ضمن تسلسل زمني مفهوم. للحرب نهاية، مأساوية أحياناً، لكنها واضحة المعالم. هذا الوضوح، على قسوته، سمح للمجتمعات أن تتجاوز صدمة الحرب، أن تعيد بناء ما تهدّم، وأن تصوغ سرديات جماعية تمنح معنى للتضحيات. معاهدات السلام، مهما كانت مجحفة، شكّلت نقطة تحوّل تفصل بين زمن الحرب وزمن السلم، ولو كان سلماً هشاً.
في هذا السياق، حمل النصر بُعداً تربوياً ونفسياً. سمح للأجيال اللاحقة بأن تتعلم من الماضي، وللشعوب أن تحاسب قادتها، وللمؤرخين أن يحلّلوا الأسباب والنتائج. حتى الهزائم قُرئت ضمن إطار واضح، ما أتاح استخلاص الدروس وإعادة البناء على أسس جديدة.
القرن الحادي والعشرون أو تلاشي النهايات
لكن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، تصدّع هذا المنطق. الحروب المعاصرة تعجز عن إنتاج انتصارات واضحة ودائمة ومعترف بها. إنها تتعثر، تتشظى، تتنقل، وتتحول. لم يعد السؤال فقط من ينتصر، بل هل النصر نفسه، كما عرفناه، ما زال ممكناً.
الغزو الروسي لأوكرانيا يجسّد هذا التحوّل بوضوح صارخ. فمهما كانت النتيجة العسكرية، سيخلّف الصراع وراءه بلداً مدمّراً، وبنية أمنية أوروبية متصدّعة بعمق، وروسيا ضعيفة ومعزولة، وعالماً أكثر استقطاباً. حتى لو أُعلن عن نصر من أي طرف، فسيكون محمّلاً بتكاليف بشرية وسياسية وأخلاقية تجعله أقرب إلى البقاء منه إلى الانتصار. المدن المدمّرة لن تُعاد بناؤها بسهولة، والثقة المفقودة بين الشعوب ستستغرق أجيالاً لترميمها، والجراح النفسية ستظل نازفة لعقود.
أما في غزة، فالمنطق أكثر تطرّفاً وإيلاماً. العنف لا يفضي إلى أمن ولا سلام ولا حل سياسي. كل عملية عسكرية تغذّي شروط الصراع التالي في دورة لا تنتهي من الانتقام والثأر. النصر العسكري، إن ادُّعي، يذوب فوراً في فوضى إنسانية لا يمكن السيطرة عليها، ونزع شرعية دولية يزيد العزلة، وتأبيد للكراهية تنتقل من جيل إلى جيل. هنا، لا ينتج العنف سوى مزيد من العنف، في حلقة مفرغة تبتلع كل محاولة لإيجاد مخرج سياسي.
حروب بلا منتصرين
ما يجمع هذه الصراعات هو إنتاجها لمهزومين متعددين: المدنيون الذين يدفعون الثمن الأفدح، المؤسسات التي تنهار تحت وطأة العنف، القوانين الدولية التي تُخرق دون عواقب، المبادئ الدبلوماسية التي تُداس باستمرار. الجيوش، حتى الأكثر تطوراً تقنياً وتفوقاً عسكرياً، لم تعد قادرة على تحويل قوتها إلى استقرار حقيقي على الأرض.
هكذا تتحوّل الحرب إلى حالة دائمة أكثر منها حدثاً عابراً. تمتد زمنياً، تتطبّع في حياة الناس اليومية، تنتشر كالوباء. لا تنتهي بالمعنى الكلاسيكي، بل تنضب مؤقتاً أو تتجمد في توازنات هشة أو تتحول إلى أشكال أخرى من العنف. وقف إطلاق النار الهش يحلّ محل معاهدات السلام الشاملة، والمناطق الرمادية غير المحكومة تخلف الحدود الواضحة والمعترف بها دولياً.
في هذا السياق المعقّد، يتوقف النصر عن كونه أفقاً مشتركاً يطمح إليه الجميع، ليصبح مجرد تأكيد أحادي الجانب، غالباً ما يُوجّه للرأي العام الداخلي لتعزيز شرعية النظام، دون اعتراف دولي حقيقي أو ترجمة سياسية فعلية تغيّر الواقع على الأرض. إنه نصر إعلامي أكثر منه واقعي، صورة أكثر منه جوهر.
تحوّل أشكال الحرب
هذه الأزمة في مفهوم النصر لا تنفصل عن تحوّل طبيعة الصراعات نفسها. الحروب الكلاسيكية بين الدول، بجيوشها النظامية وجبهاتها الواضحة، أصبحت تتعايش مع حروب غير متكافئة، هجينة، ومعلوماتية يصعب تصنيفها. العدو لم يعد دائماً دولة محددة بحدود وعاصمة وجيش، بل صار شبكة مترامية الأطراف، أو أيديولوجيا عابرة للحدود، أو اقتصاد إجرامي متغلغل في مسام المجتمع.
"الحرب على الإرهاب" جسّدت هذا التحول وكشفت عن تناقضاته. خِيضت دون حدود جغرافية واضحة أو آجال زمنية محددة، ونادراً ما أنتجت سوى نقل التهديد من بلد لآخر: من أفغانستان إلى العراق إلى سوريا إلى اليمن. الاستئصال الموعود، الذي بُشّر به في خطابات رنانة، تحوّل في الواقع إلى إدارة دائمة لانعدام الأمن، وحوّل مناطق بأكملها إلى بؤر عدم استقرار مزمنة.
كذلك الحروب ضد تجار المخدرات، خاصة في أمريكا اللاتينية والمكسيك، تُظهر بوضوح استحالة النصر العسكري أمام بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية متشابكة ومعقدة. العنف يدمّر الدولة التي يدّعي حمايتها، ويفكك النسيج الاجتماعي، ويزيد الفساد، دون أن يجفّف منابعه الحقيقية المتجذرة في الفقر والإقصاء والطلب العالمي على المخدرات.
النصر المستحيل على الفوضى
ما يجمع هذه الحروب المتنوعة هو مواجهة منطق القوة العسكرية المنظمة لديناميكيات الفوضى اللامركزية. لكن الفوضى، بطبيعتها، لا تُهزم بالقوة وحدها. إنها تنتشر كالنار في الهشيم، تعيد تشكيل نفسها باستمرار، وتتغذى بشكل متناقض على الردود العنيفة التي تستهدفها.
التفوق التقني والعسكري الساحق، بدلاً من أن يضمن النصر كما كان متوقعاً، يوسّع أحياناً الفجوة الخطيرة بين الوسائل المستخدمة والأهداف السياسية المنشودة. الدمار يحدث بشكل فوري ومذهل تقنياً، لكن إعادة البناء السياسي والاجتماعي تظل غائبة أو بطيئة بشكل مؤلم. النصر التكتيكي على الأرض، مهما كان مبهراً عسكرياً، يخفي الفشل الاستراتيجي الأعمق في تحقيق أهداف سياسية مستدامة.
في هذا الإطار المتغيّر، تكفّ الحرب عن كونها أداة لحل النزاعات كما تصوّرها كلاوزفيتز، لتغدو عامل فوضى وتشظٍّ إضافي. لم تعد تنتج نظاماً عالمياً جديداً أو توازنات إقليمية مستقرة، بل تزيد تشظي العالم وتضاعف من عدم قابليته للحكم.
أزمة المعنى الاستراتيجي
العجز المتكرر عن حسم هذه الحروب المعاصرة يكشف عن أزمة أعمق وأخطر: أزمة المعنى الاستراتيجي نفسه. الأهداف ضبابية ومتحركة، متقلبة حسب الظروف، وغالباً متناقضة فيما بينها. نحارب لردع العدو، لمعاقبة النظام، لطمأنة الحلفاء، لإظهار القوة للداخل والخارج، دون أن نعرف دائماً بوضوح ما هو السلام المقبول الذي نسعى إليه، وما هي التسوية الممكنة التي يمكن أن تنهي الصراع.
الدبلوماسية، بدورها، أصبحت مهمّشة في أغلب الأحيان أو مُستغلّة لأغراض تكتيكية، فلم تعد قادرة على تحويل العنف إلى تسوية سياسية حقيقية. أضحت ترافق الحرب وتبررها بدلاً من أن تتجاوزها وتوقفها. المفاوضات، حين تحدث، تغدو مجرد هدنات تكتيكية لإعادة ترتيب الأوراق، لا طرقاً جادة نحو الحل النهائي والسلام الدائم.
في هذا الفراغ الاستراتيجي الخطير، تحلّ الحرب تدريجياً محل السياسة. تصير لغة التواصل الافتراضية بين الدول، رداً آلياً وسريعاً على أزمات لم نعد نعرف كيف نفكّر فيها بطريقة أخرى، ولم نعد نملك الأدوات الفكرية والمؤسساتية للتعامل معها سلمياً.
نحو عالم بلا نهايات للحروب
إن كان القرن العشرون، رغم كل مآسيه، قرن الحروب التأسيسية التي أعادت رسم خريطة العالم، فقد يكون القرن الحادي والعشرون قرن الحروب اللامتناهية التي تستنزف الجميع دون أن تحسم شيئاً. ليس لأن العنف بالضرورة أشد كثافة أو وحشية، بل لأنه أصبح بلا غاية واضحة، بلا أفق منظور، بلا نهاية يمكن تصوّرها.
هذا الوضع الجديد والمقلق يدفعنا بإلحاح لإعادة النظر الجذرية في علاقتنا بالقوة والأمن والمسؤولية الدولية. يفرض علينا إعادة تعريف النصر بشكل مختلف تماماً، لا كهيمنة عسكرية أو إخضاع للآخر، بل كخروج جماعي من دوامة العنف. لكن هذا الخروج المنشود يتطلب بناء تصوّرات سياسية ودبلوماسية وأخلاقية جديدة، وهي تصورات تمر اليوم للأسف بأزمة عميقة.
في عالم مترابط اقتصادياً ومتشظٍّ سياسياً وغير مستقر أمنياً، لم تعد الحرب تنتج منتصرين حقيقيين يحتفلون بنصرهم، بل تنتج فقط ناجين منهكين يحاولون التقاط أنفاسهم. وربما تكون هذه هي العلامة الأكثر دلالة على عصرنا الراهن: عالم يواصل شن الحروب بعناد، رغم فقدانه الكامل للقدرة على الخروج منها بكرامة.
بقلم أمين بن خالد

المشاركة في هذا المقال