خطوة ضرورية لفهم التحولات العميقة التي يعيشها العالم اليوم، وخاصةً في تونس حيث تتقاطع أزمة الديمقراطية مع ثورة رقمية قلبت شروط التواصل السياسي ومعادلات الشرعية. فالسياسة لم تعد مجرّد نشاط يقوم داخل مؤسسات رسمية، بل أصبحت – كما وصفتها حنّة أرندت عندما حدّدت جوهر الفعل السياسي في الظهور داخل فضاء مشترك (Arendt, 1961) – ممارسة مفتوحة تتشكّل عبر تدفقات الصور والمعلومات، وعبر تشابكات الشبكات الرقمية التي يخضع لها الأفراد والجماعات. وقد بيّن مانويل كاستيلز في تحليله لمجتمع الشبكات أنّ السلطة أصبحت تتحدّد اليوم بقدرة الفاعل على تشكيل الانتباه وإدارة المعنى داخل الفضاء الرقمي (Castells, 1996)، وهو ما يجعل السياسة أكثر هشاشة وأكثر اتساعاً في الآن ذاته.
بهذا المعنى، لم يعد من الممكن الحديث عن السياسة دون الحديث عن تحوّل المجال العمومي تحت ضغط المنصّات الرقمية التي أطاحَت بالوساطات القديمة، كما لاحظ هابرماس في نقده لهيمنة الوسائط على النقاش العمومي (Habermas, 1978). إنّ الديمقراطية التي صُمّمت في عصر الطباعة والبثّ التلفزي لم تعد قادرة بذات الأدوات على تنظيم التعددية اليوم، حيث أصبح «اقتصاد الانتباه» – كما يسمّيه دومينيك كاردون (Cardon, 2015) – هو المحدّد الأول لمدى انتشار الخطاب السياسي وتأثيره، بينما نبّه Rouvroy & Berns (2013) إلى أنّ الخوارزميات تصنع اليوم أشكالاً جديدة من «الحَوْكمة الرقمية» التي لا تخضع للمساءلة الديمقراطية.
غير أنّ هذا التحوّل الرقمي، على الرغم من وعوده، يحمل مخاطر عميقة. فقد حذّر نيل بوستمان (Postman, 1993) من أنّ التكنولوجيا حين تتحول من أداة إلى أفق شامل، فإنّها تغيّر شروط التفكير وتفرغ الخطاب السياسي من محتواه النقدي. وقد عمّق برنار ستيغلر هذا التشخيص حين اعتبر أن الاضطراب الرقمي يُضعف ملكة التمييز ويشدّ الفرد إلى لحظة عابرة بلا ذاكرة (Stiegler, 2016). كما نبّه موروزوف إلى وهم الاعتقاد بأنّ الإنترنت يولّد تلقائياً الحرية أو الديمقراطية (Morozov, 2011)، لأن الأدوات ذاتها التي توسّع المشاركة يمكنها – في سياقات أخرى – أن تعمّق المراقبة والتلاعب.
ورغم ذلك، فإنّ العصر الرقمي يفتح إمكانات سياسية هائلة إذا أحسنّا استثمارها وفق رؤية أخلاقية، على غرار ما طرحته نوسباوم وسن في مقاربة «القدرات» التي تجعل من الحرية مشروعاً قابلاً للتحقق في سياق تحولات تقنية واجتماعية متسارعة (Nussbaum, 2011؛ Sen, 2002). ويسير في الاتجاه ذاته دانيال إينيرارتي عندما قدّم مفهوم «ديمقراطية المعرفة» القادرة على إدماج التعقيد المعلوماتي دون السقوط في الفوضى (Innerarity, 2015).
لقد أصبح التفكير السياسي اليوم تفكيراً في تنظيم الزمن ذاته، كما يؤكّد هارتموت روزا الذي يرى أنّ السرعة ليست وصفاً للعصر فحسب، بل شرطاً وجودياً يعيد تشكيل علاقة الفرد بالعالم (Rosa, 2010). ومع ذلك فإنّ ما يهدّد السياسة ليس السرعة وحدها، بل فقدان «الرنين» الذي يمنح الفعل السياسي معنى وتجذّراً (Rosa, 2018). وفي هذا الإطار، تشير شيري توركل إلى أنّ وفرة التواصل الرقمي لا تنتج بالضرورة علاقات إنسانية، بل قد تولّد عزلة جديدة خلف الشاشات (Turkle, 2015). ولهذا فإنّ التفكير في اختراع السياسة في العصر الرقمي هو تفكير في بناء فضاء عام قادر على احتضان الإنسان دون أن يبتلعه الجهاز التقني.
انطلاقاً من هذا التشخيص العام، تظهر طبيعة الأزمة التونسية بوصفها أزمة خيال تنظيمي، قبل أن تكون أزمة نخب أو برامج. فقد تحوّلت الأحزاب التقليدية، كما يبيّن Bourdieu (1997)، إلى مؤسسات عمودية مغلقة تكرّر منطق البيروقراطية وتفقد تدريجياً رأسمالها الرمزي. وفي المقابل، ظهرت حركات رقمية عاطفية قادرة على التعبئة السريعة ولكن عاجزة عن بناء استمرارية سياسية، لأنّها – كما لاحظ Castells (2009) – ترتكز على موجات من الانتباه الجماعي لا على تراكم مؤسساتي. وهكذا تجد تونس نفسها بين نموذجين كلاهما مأزوم: بيروقراطية متخشبة و عفوية رقمية فوضوية.
في هذا السياق يبرز مفهوم تنظيم الحدّ الأدنى كبلورة نظرية لبديل ثالث يتجاوز انغلاق الأحزاب وفوضى الحركات الرقمية. ويمكن ردّ جذور هذا المفهوم إلى فكرة «الحدث السياسي» عند ألان باديو (Badiou, 1992) التي تجعل من الفعل السياسي وفاءً متجدداً لمبدأ تأسيسي، وإلى نموذج «الجذمور» عند دولوز وغواتاري (Deleuze & Guattari, 1980) الذي يقدّم شكلاً تنظيمياً غير هرمي، مرناً، شبكياً، قابلاً للتجدد، وذا قدرة عالية على التكيّف.
يقوم تنظيم الحد الأدنى على مبدأ بسيط: الحد الأدنى من التنظيم الضروري لضمان استمرارية الفعل دون خلق بنية بيروقراطية. وهو مبدأ يوازن بين الحاجة إلى الوساطة السياسية، وبين رفض التحجّر التنظيمي. ويتضمّن هذا النموذج عدة مرتكزات مركزية: أوّلها الأفقية التي تجعل القيادة وظيفة دورية لا ملكية دائمة، بما يمنع تحوّل التنظيم إلى جهاز مغلق، على غرار ما حلّله تروتسكي في نقده لانحراف الثورات (Trotsky, 1937). وثانيها «الوساطة الخفيفة» التي تسمح بوجود مجالس محلية ومنصات تشاركية ولجان مؤقتة، دون إنتاج طبقة بيروقراطية جديدة. وثالثها موازنة العفوية بالانضباط، وهو درس استُخلص منذ لينين (1902) الذي نبّه إلى أنّ العفوية وحدها لا تكفي لبناء مشروع سياسي. أمّا المرتكز الرابع فهو تطويع التحول الرقمي بدل الخضوع له، أي استخدام التقنية كأداة لتعميق النقاش وتوسيع الشفافية لا لإنتاج شعبوية رقمية آنية. وأخيراً، التركيز على بناء ذاكرة سياسية مستدامة عبر أرشفة رقمية وعمليات متابعة ومحاسبة، لمواجهة فقدان الذاكرة الذي يميّز الحركات الرقمية.
وعند تطبيق هذا النموذج على الواقع التونسي، تبدو الحاجة إليه ملحّة: فلا الأحزاب التقليدية قادرة على تجديد نفسها، ولا الحركات الرقمية قادرة على بناء بديل فعلي. بينهما يقدّم تنظيم الحد الأدنى شكلاً جديداً من الفعل السياسي يجمع بين خفّة الشبكات ورصانة المؤسسات، وبين سرعة العصر الرقمي وطول النفس السياسي اللازم لأي مشروع جماعي. وهو، بهذا المعنى، نموذج قادر على تحويل التقنية إلى أداة للتحرر بدل أن تكون جهازاً لإنتاج الهيمنة، كما أشار فلوريدي في ايتيقا المعلومات (Floridi, 2013).
وهكذا يمثّل تنظيم الحد الأدنى محاولة لإعادة السياسة إلى معناها الأصلي: فضاءٌ يصنعه المواطنون معاً، لا جهاز يسيطر عليهم، ولا موجة رقمية زائلة. وهو الشكل الوحيد القادر، في السياق التونسي، على تجاوز الانقسام بين بيروقراطية متخشّبة وعفوية رقمية، وعلى بناء أفق سياسي يعالج تشظّي العصر الرقمي بذكاء ومسؤولية، ويجعل من التحول التكنولوجي فرصة لإعادة اختراع السياسة لا لدفنها.
بقلم: نوفل حنفى