---
تعتبر الومضة لحظة شعرية إيجاز لامع و” انخطاف بارق تتكثف فيه الرؤيا ، فتدهش حتى الشاعر الذي تتنزل عليه البارقة من دون انتظار سابق ، بينما القصيدة فيها البرق والمطر معا ، وما تبقى من الكون “ يرى الشاعر المغربي عبدالكريم في حوار أجريناه معه ، وينشر قريبا في مجلة “ أصوات ثقافية “.
إنها شكل من أشكال الحداثة الشعرية، تداولت في السبعينيات من القرن العشرين ، ومن أهم العوامل التي ساهمت في رواجها رياح المؤثرات الأجنبية ، وانتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، ثم التحول الذي عرفته متطلبات الحياة الجديدة ، وإيقاعها السريع والمختلف عن حياة الاستقرار .
ولن تفوتنا الإشارة إلى أن عزالدين المناصرة من وضع الحجر الأساسي لهذا الشكل الشعري الوامض ، لتنتقل عدواها الإيجابية إلى ديوان الشعر العربي الحديث في تونس ، ولا يختلف المتتبعون لحركيتها ، استحضار ملتقى الومضة الذي ينظمه الصالوان الثقافي واصبح مخصوصا بمدينة سوسة، ويكون من المناسب والمنصف هنا أن نقدم تحية شكر، للشاعرة والروائية والرائدة في هذا المجال راضية الشهايبي، وكذا الانبهار بالخراطيش الشعرية البرقية والصافية ، لكل شعراء وشواعر تونس المهووسين بأجوائها وموحياتها ، ونذكر على سبيل المثال : رجيم جماعي، حبيب مرموش ، سعاد عوني، محمد بوحوش ، فاطمة بنمحمود ، صالح السويسي ، عدنان العكروتي ، وعبدالمجيد يوسف ، نفيسة التريكي والفقيد فتحي ساسي الذي أصدر ديوانه “ وحبك يأتي كظل “ الذي ينحاز إلى شعر الومضة بامتياز ، والتي برع في تشكيلها وفقا لرؤيته الخاصة ، وهذا ما تفشي به الجملة العنوانية القائمة على على اللقطة الشعرية، وبلاغة التكثيف إلى أقصى الحدود .
وبعدوتنا لعتبة العنوان “ وحبك يأتي كظل” ، تطل علينا قدوم الحب مندغما بالظل ومتوحدا به، ،متجاوزا كونه عنصرا ماديا ، ليرمز إلى المرأة، ويعكس حالة من حضورها المكتنز بالحب ، نقرأ في الصفعة الرابعة :
“ حقا ...
أنا لا أثق في شيء،
إلا في الظل “
وعليه ، تكون جملة عنوانية أفشت بسرية الومضات ، التي تهيمن تيمة الحبعلى أجوائها ، وهذا ماتكرسه ومضة خاطفة ل” لوركا” اختارها الشاعر في عتبة التصدير :
“ في حبك يؤلمني الهواء “ ص 3
مما يعني أن الديوان منح موضوعة الحب ، قوة تداولية واسعة ، بتجلياتها وتمثلاتها الجمالية ، تساوقا مع الإدهاش والخرق ، واللعب ، وتكسير التوقع الذي تتمتع به مكونات الومضة .
أول خصيصة تلفت انتباه القارئ ، حضور خيط مشترك بين الحب والشعر، الذي ينتظم العديد من الومضات ، إدراكا لوعي الشاعر بهذه الحقيقة ، فالمرأة أنثى ، والقصيدة أنثى ، ثم أن من لا يؤنث لا يعول عليه ، كما يقول المتصوفة .
“ هكذا كنت دائما ،
حين يشتد بي الحنين إليها ،
أشعل البياض ...” ص 11
يبدو المشترك بين حرارة الحب “ الحنين “ ، وحرارة الكتابة “ البياض “ ، انعكاسا لتجربتين متكاملتين ، اشتعال الراوي الشعري وجدانيا ، واشتعال ثان تعكسها الكتابة الصادرة عن حرقة الإحساس .
وفي ومضة “ تصور “ ، يظل الحب متماهيا مع الشعر على الفضاء الشعري ، إذ تقيم الذات علاقة بين جمالية القصيدة وجمالية المحبوبة ، أو على الأصح ، تصورها أبهى من القصيدة لحظة التوله بها :
“ وأحببتها ،
وكنت أتصور أنها أجمل قصائدي “ ص 25
وبمعجم رقيق وشفاف ، وبكل حساسية يتداخل الحب والشعر في ألفة وتفاعل، و فيما يشبهالتشكيل ، حيث تعمل الذات على تشكيل لقطات لا توفرها سوى امرأة الشعر :
“ راحتيك عش العصافير ،
وأنت تقفين تحت قصيدة غائمة ،
ليتبلل كل العاشقين ..” ص 58
اللقطة الأولى تشتغل على تمثيل كف المحبوبة بعش العصافير ، اللقطة ذات طبيعة غائمة ، ومن جدلهما تتشكل اللقطة الثالثة التي تحيل على الماء ، في تشكيل شعري صور تكاملي ، يحفظ للصورة الشمولية شعريتها وانفتاحها ، ومن ثم الظفر بجماليتها وخصوصيتها .
وبرذاذ لغوي مقتضب ومكثف ، يحضر الحب في كثير من البروق الشعرية بكل ما يحويه من دلالات موغلة في أنثويتها ، مرة تأتي ذات معنى يمكن استلطافه ، مثلما في ومضة “ أحمر الشفاه “ :
“ كلما ...
غيرت لون أحمر الشفاه ،
اعترى قهوتك الخجل “ ص 5
ومثل هذا يصادفها في ومضة “ أمطار “:
ويمر ...
اسمك خلسة على لساني ،
فتمطر الغابات “ ص 9
ويمكن أيضا أن نقرأ حبا يفتح أفقه الشعري على لغة ذات حس ومعنى إيروسي :
“ لم ياحبيبتي كلما قبلتك ، ارتعشت
حلماتك ؟
وأمطرت غيثا من عسل “ ص 64
وإذا ما سعينا إلى استنطاق هذا المشهد الوامض ، وإدراك مستوياته التعبيرية ، فعلينا أن ندرك أنه يشتغل على آلية التأثير والتأثر “ قبلت ، ارتعشت حلماتك “ ،مما يوحي بالغريزي واعتصار الوصال ، علما أن “ للحب نسقا آخر لا ينشأ من طبيعة الجسد البشري ، بل من مجموعة علاقات من بينها الجنس ، بدل من ارتباطه الحقيقي بالجنس “، على حد تعبير حنا عبود .
لكن ، هل انفلت الحب من المعنى التقليدي ، حيث يظل العاشق ماسكا بخيوط العلاقة ، وحيث المحبوبة خاضعة ومتاحة له ، بما تمليه رغباته ؟ أم هي امرأة الشعر التي يبحث عنها الشاعر في بروقه الشعرية ، و يريدها متوحدة مع كينونته كما يريدها وتريده ؟ أم لأن من أذهله الجمال ، أبحر في مجازات اللغة وعمل على فض أسرار الكلمات ، يستنطقها ويستحضر إمكاناتها زيفتتن بها ، ولعل الافتتنان بالكلام هو الوجه الآخر للافتان بالجمال “ كما يذهب إلى ذلك علي حرب في “ الحب والغناء ص 116-117؟
تلك أسئلة نتركها مفتوحة ، و” يجهد المتلقي أو القارئ نفسه في البحث عن المقصدية ، أو عن معنى معين يخفيه الشاعر بين مكونات قصيدته ، أو من حاصل تفاعل هذه المكونات مجتمعة ، لأن الشاعر نفسه ، لو طلبنا منه أن يكشف عن ذلك المعنى سيقف حائرا مترددا ، وهذا الأمر مردود إلى الطبيعة الملتبسة لمفهوم النص الشعري المعاصر الذي يقول كل شيء ، ولا يقول شيئا محددا في الآن نفسه ،على حد تعبير الشاعر المغربي عبدالسلام المساوي في كتابه “ وللمتلقي واسع التأويل ، قراءات في الشعر المغربي المعاصر “ ، منشورات بيت الشعر في المغرب .
وخلاصة القول ، إن ديوان “ حبك ... يأتي كظل “ للمرحوم فتحي ساسي ، إضافة للومضة التونسية ،وإغناء لها ، بومضات تجمع بين البساطة والعمق ، وبقلب نابض بأسرار الواقع والمتخيل ، وهذه خاصية لا تتاح إلا للشعراء الذين يبتهجون بالشعر ، وجنات نعيم لفتحي ساسي .
بقلم: عبد الله المتقي (كاتب من المغرب)