Print this page

دولة الخوف و مجتمع الغضب

نواجه اليوم بشكل غير مسبوق مشكلا

عمليّا للخروج من حالة القصور التي نحن فيها لإنقاذ أنفسنا من كل مخاطر الاستبداد, إنقاذ المساجين من الموت المحتمل, إنقاذ المستضعفين من مزيد انتظار خلاص لا يأتي وهم يمشون على المسامير سكوتا, إنقاذ الحقوق و الحريات, حق العمل النقابي و المدني و الصحفي و السياسي , بل إنقاذ الدولة نفسها. ثمة اليوم حاجة مزدوجة ملحّة الأولى للدولة و الثانية للوعي المشترك بقيمة الحقوق و الحريات , حاجة تتولدّ من تحليل العلاقة الراهنة بين دولة الخوف والمجتمع الساخط .

لم نكن بحاجة الي الدّولة أكثر مما نحن عليه اليوم, دولة مؤسسات و إدارة تسوسنا بعقلانية و ترسم رؤية لنفسها ولنا . قد تبدو مفارقة أن تصغر فكرة الثورة الي حدّ مطلب الدولة ولكنها حقيقة طالما تجاهلناه فحن معشر اليسار كنّا نفرّ من التفكير في الدولة تجنبا لمطبات نجهلها وخوفا من تهمتها .
فرضت علينا الوقائع الانتخابية و الأنتربولوجية و الاجتماعية بعد 2011 أن نخوض في النقاش العام حول طبيعتها فكنا من أنصار مدنيّتها ضد الإسلاميين و من دعاة اجتماعيتها ضد الليبراليينولوبيّاتالرّيع,الى حدّ المطالبة بدولة قوية عادلة كلها صيغ فضفاضة جئنا إليها لماما ودون تدبير بل في غمرة السجال الساخن. ربما تعاملنا معها كتحصيل حاصل حتي وقفا على مخاطر تقويضها بعد 25جويلية
لكننا نواجه اليوم طلبا مصيريامنعتقا إيديولوجيا لإنقاذ الدولة كضامن لوحدة المجتمع, و سيادة الوطن, و نشاط الاقتصاد, و حياة المواطنين, فهي اليوم ضرورة سواء من جهة وظائفها الأمنية و العسكرية و الإدارية و القضائية والديبلوماسية ومن جهة وظائفها الاجتماعية و الاقتصادية. في ضلّ مؤسسات شرعيّة, لأن دولة الفرد خطر محدق تعلمن عواقبه . من تاريخنا الخاص القريب و البعيد ومن تاريخ الآخرين.
لقد كان رواد النهضة العربية على حق حين ربطوا أحوال الناس بالسلطة السياسية فإذا جارت ساءت الأحوال وإذا أنصفت تحسّنت, إن سوء أحوالنا يعود الي فشل السلطة السياسية و جورها .
كلنا ضحايا أوهامنا و صلفنا ففي كلّ مرة ننظر لإحداث التاريخ على أنها سدرة المنتهي وقد كان هذا وهم الدولة الوطنية بعد الاستقلال لتنتهي الي تبرير نظام سلطوي أبوي تبني التحديث و كرّس حكما مدي الحياة, ثم أوهام التغيير مع بن علي لتحلّ العائلة الجشعة محلّ الدولة, ثم الأوهام المجنونة للحائزين على أغلبيّات صناديق الاقتراع من الإسلاميين و الحداثيين حين ظنوا أن الحكم حتي بتفويض ديمقراطي يعني وقف مسار الثورة وتجاهل دور الأقليات و السلطات المضادة, و الوهم الراهن حين يؤمن الحاكمون الجدد كإيمان العجائز أن قطع الجسور و تخريب الوسائط بين النخب و الشعب يكفي لإدامة سلطانهم الى الأبد. إن أخطر نظام حكم على الدولة قبل المجتمع هو الذي لا يستبق خروجه من السلطة ولا ينظر الي ديمومة الدولة.
ربما نكون قطعنا مرحلة أخذت منا أكثر من قرن لتأكيد تصالحنا مع السياسي المدني و نزعه من سطوة الديني, هو غير كاف .
ندرّس اليوم شبابنا تحت إشراف رسمي في نظامنا التعليمي الإشكالات المرتبطة بطبيعة السلطة السياسية و باطولوجيا العنف المرتبطبها و أهمية المقاربة الحقوقية السياسة، للقواعد التي تنظم الحياة المشتركة للأفراد و الجماعات داخل المجتمع، و علاقتهم بالدولة, فثنائية دولة مجتمع تقتضي قواعد لتنظيم العلاقات الإنسانية , والحق إحدى هذه القواعد القانونية والأخلاقية التي تحدد ما ينبغي القيام وفق أسس عقلية تؤسس لمبدأ العدالة من جهة و أسس أخلاقية تأسس لنزاهة القاضي و الحاكم و تضمن مساءلته .
هذه القطيعة بين ميل الدولة للانحراف التسلطي من جهة و تمثّلاتالمجتمع بفضل مدرسة الجمهورية لقيم الحرية و العدالة من جهة أخري, ليست جديدة فالمواجهة الأولي كانت بين بورقيبة و شباب أواخر الستينات ثم بين بن علي و جيل التسعينات وهي اليوم بين جيل ثورة مرت من هنا ومن هناك وتسربت كالرمل فينا و نظام الحكم الحالي .
في مستوي ثاني علينا ان نقرّ أننا لم نهتدي الي اليوم إلي السبيل التي تفرض على نظام الحكم التراجع أيأننا عجزناعن فرض العدالة بما هو سلطة قانون في يد قضاء مستقل و عجزنا عن بناء القوة الكافية و اللاّزمة لتغيير موازين القوي و استعادة الديمقراطية . نعيش مرحلة تشبه ما قبل الثورة، وفي الوقت نفسه، فترة مضادة للثورة. هي فترة ما قبل ثورية حين ننظر الي بؤر الغضب المتصاعدمن رحم المجتمع و مؤشرات تصدع منظومة الحكم وهي مرحلة ثورة مضادة من جهة نسف المسار الديمقراطي . فالثورات الغير ناجزة تسّهل الثورات المضادة وتنجح في حكم الناس بالخوف لتحلّ دولة التنّين محلّ مشروع دولة العقد الاجتماعي العالقة . فوبيا الاختلاف لدي الدولة ورهاب القمع لدي المجتمع ساد طوال سنوات شلّ الفضاء العام.
ما نلاحظه الآن مع تصاعد الاحتجاجات و تعبيرات الرّفض هو تنامي شعور الغضب ,غضب الأفراد و الجماعات هو فعلا تعبير انفعالي و طالما كررّ العقلاء منا أن الغضب و السخط خطران على الديمقراطية, فهل أدركنا اليوم أن الغضب انفعال مشروع يطرد انفعال الخوف .؟
الآليات النفسية التي تنتجالغضب في أعماق كل مظلوم تحوّله الي عدوي محمودة , فهل يوحدنا شعار لا للظلم ولو انفعاليا ؟ ونؤجّل وحدتنا السياسية.
بحلول انفعال الغضب و السخط محل الخوف نكف عن الطاعة الطوعية و نندفع بطاقة قوية للانعتاق .فماذا يعني هذا التحّول نحو لغة الانفعالات وما هي رهاناته السياسية ؟
لغة حقوق الإنسان، التي تعودنا عليها وإن كانت تُعبّر بطبيعتها عن المعاناة، إلا أنها لم تكفي لوقفها و منع تفاقمها ووقف الانتهاكات ، فهي تبقي في الجوهر ذاتيةٌّ "حقي قبالة الآخرين". ما يعبّر عنه الغضب هو فتح أفق لوعي جديد لحقوق الإنسان -دون أن يعني ذلك نقدها من وجهة نظر محافظة-يصبح بموجبه الالتزام هو الرافعة الأولي فهو التزام كوني فوق ذاتي وإرادي . كلمّا استمر البعض منافي الشّعور بالارتياح حين يري الآخرين يتألمون بل حتي بارتياح أكبر حين يؤلمهم ستبقي قيمة العدالة بعيدة المنال و يطغي على علاقاتنا التشفّي و الكراهيّة و الانتقام وهي انفعالات حزينة تؤسس ''لحياة فاشية ''.
تُصنّف الحقوق بموجب هذا التّحولعلى قاعدة الالتزامات الأخلاقية اتجاه الغير ما هو واجبي من أجل حقوق الغير؟ هذا هو السبيل الوحيد لإعلاء شأن قيمة العدالة المطلقة لمجتمعٍ بشريٍّ مُنظّمٍ يقبل الاختلافات , و يُوفق دائمًا بين التناقضات و يمنع قانون الغاب و الحرب الأهلية. مزية الدولة الديمقراطية أنها تترك المجال رحبا للاختلافات التي يمكن التسامح فيها فلا الإفراد و لا الجماعات محمولة على الموافقة على طرق تفكير الآخرين و سلوكهم .في أفق ''حياة لا فاشية '' و مجتمع ديمقراطي لا تتلاشي الاختلافات و لا تتحول الى مدعاة العداوة و تصبح العدالة موضوعامحوريا بما هي إقرار بحرية الآخر, و تحققّ من خلال وعيبالواجبات وليس فقط بالحقوق لمواجهة المعاناة الإنسانية. ما الذي تمليه علينا ضمائرنا الاخلاقية تجاه الغير ؟ ذلك هو الأمر القطعي المحدّدللعدالة اليوموهو القادح المفترض لغضبنا من الظلم.
هزمتنا الشّعبوية التّسلطية حين استحوذت على المشاعر و استثمرتفي الانفعالاتالحزينة لكن لا ننسي لحظة رفعت عنا جميعا صدمة إحراق البوعزيزي لجسده شعور الخزي و دفعتنا الي الشوارع بصدور عارية ولم نبرحها حتي سقوط النظام فتحوّلنا كلنا من الخزي الي الثورة على الظلم و من أجل الكرامة وهي المعركة التي لا نزال نملك إرادة خوضها الي اليوم .

المشاركة في هذا المقال