Print this page

مسرحيّة الهاربات: كٌثر الهَّم يضَّحِك

بعد مسرحيّة»آخر مرة«، التي نالت جائزة أفضل عمل

متكامل في المهرجان الوطني للمسرح التونسي – مواسم الإبداع في نوفمبر 2023، وهو مهرجان يُخصَّص حصريًا للإنتاجات المسرحيّة التونسيّة، لم تُنتج وفاء الطبوبي عملاً جديدًا إلا »الهاربات«، وهو عمل مشترك بين المسرح الوطني التونسي وشركة الأسطورة للإنتاج، بدعم من وزارة الشؤون الثقافيّة.

المسرحيّة من تأليف وفاء الطبوبي وتصميمها السينوغرافي وإخراجها.وها هي الطبوبي اليوم تفوز مجددًا بجائزة أفضل عمل متكامل في الدورة الثالثة من مواسم الإبداع. كما تُوّجت الممثلة الكبيرة فاطمة بن سعيدان بجائزة أفضل ممثلة نسائيّة، أهدتها إلى روح زوجها، الأستاذ الجامعي الخلوق حسين بن عزونة، طيّب الله ثراه.
عُرِض العمل يوم 7 نوفمبر 2025 على خشبة مسرح الفن الرابع، أمام جمهور تفاعل مع العرض تفاعلًا لم أشهد له مثيلًا في أعمال سابقة.وخلال المشاهدة راودني سؤال ظلّ يتردّد في ذهني:هل تُصَوِّر وفاء الطبوبي واقعًا ملموسًا أم تقدّم أمثولة رمزيّة متخيّلة؟ما طبيعة الكتابة التي تمارسها؟ وما السمة الأبرز في أسلوبها الإخراجي هذه المرّة؟
تلاحقت الأسئلة في ذهني وزاد فضولي لمعرفة ما ستقدّمه هذه المبدعة الشابة التي فتحت لنفسها بابَي الكتابة والإخراج بثقة نادرة. كنت قد تعرّفت إليها في آخر مرة، حيث بدت واثقة الخطى، حريصة على ترك بصمتها الجماليّة في المشهد المسرحي التونسي. كانت تعرف ما تريد وتسعى إلى التفرّد بإصرار. لذلك كان ترقّبي لإضافتها الفنيّة في الهاربات كبيرًا، وخوفي من التكرار أكبر. فالتجديد في الدراماتورجيا والإخراج ليس تمرينًا شكليًا، بل موقفٌ فكري وجمالي.
جلست في الصفوف الأولى، مشدودًا ومنتبهًا، أرقب ما ستفعله الهاربات بأنفسهن… وبنا أيضًا.
في الهاربات نلتقي بخمس ممثلات وممثل واحد. ورغم أنّ القاعدة اللّغويّة تقتضي التذكير بوجود الذكر بين الإناث فيُقال «الهاربون»، فإنّ من حقّ المرأة الجسورة أن تكسر هذه القاعدة المنحازة للذكور، فتُعَنْوِنَ مسرحيتها بـالهاربات.
وجود الرجل هنا ليس استثناءً لغويًّا فحسب، بل هوعلامة رمزيّة على أنّ معاناة بعض الرجال لا تختلف كثيرًا عن معاناة النساء.
هذه المجموعة تتقاسم الهموم والأحزان والأحلام، وتستمدّ من بعضها الصبر والثبات والكبرياء بتلقائيّة آسرة. إنّهن كادحات يخاطبنك بلغة القلب، صادقة في بساطتها، بعيدة عن الزيف والادّعاء.
في الهاربات مشاهد تُشبهنا، خاليَة من الشعارات الجوفاء واللّغة الخشبيّة المُملّة. ورغم محليّة الخطاب الممهور بلهجة تونسيّة جميلة، فإنّ هذا المحليّ يترجم كونيّة أفقيّة، لا تلك الكونيّة العموديّة التي تجعل «الوضع الإنساني» حكرًا على الإنسان الغربي، بل كونيّةمتعدّدة، حواريّة، بلا مركز ولا هرَميّة.
وما يبدو خطابًا مباشرًا ليس سوى بحث عن جوهر الحقيقة.وقد قال ألبير كامو يومًا:
»أعتقد أن المسرح مجال الحقيقة. يُقال عادةً إنه مجال الوهم، لا تصدّقوا ذلك. إنّ المجتمع هو الذي يعيش في الوهم، وستجدون في المدينة دجالين أكثر ممّا تجدونهم على خشبة المسرح«.
شخصيّات الهاربات شخصياّت من لحمٍ ودمٍ.تمرّنت الممثلات على أدوارهن بإتقان حتى تماهت الذوات بالأدوار. فلا تشكّ لحظة في أن فاطمة بن سعيدان عاملة منزليّة منكسرة الجناحين يخجل منها أبناؤها فتبكيهم،ثم تقف شامخة، أو أنّلبنى نعمان عاملة في مصنع لا ترى خلاصها إلا بالزواج، هروبًا من سلطة الأب والأخ والجار والمشغِّل.وتقتنع أنّمنيرة الزكراوي امرأة تجمع قوارير البلاستيك وتشكو من تلوّث البيئة، وأنّ صبرين عمر أستاذة لغة إنجليزيّة تحب مهنتها لكنّها متعاقدة لم تتقاضَ راتبها الزهيد منذ أشهر، وأنّ أميمة البحري خرّيجة حقوق تعمل سكرتيرة في مكتب محامٍ، تحلم أن تصبح محامية ذات يوم.
أما أسامة حناينية، فيُقنعُك في دور العامل الليلي بمصنع الأسلاك، العاجز عن دفع النفقة لطليقته وأطفاله.
يأسر أداء الممثلات القلب برقّته وصدقه، فتودّ لو تخبرهنّ أنّك تشاركهنّ ضحكهنّ وبكاءهنّ. يَسحَرك غناؤهنّ حين ينبثق الجمال من رحم الحزن.في الهاربات ينبض المسرح بالحياة. ضحكتُ وبكيتُ، وشاهدتُ وأحسستُ، وتيقنتُ أن الحزن لا يقتل الأمل. فالحياة، والجمال، والحقيقة في المسرح مفاهيم تتّخذ هنا معنى جديدًا.إنّ السعي إلى تجاوز واقع الانتظار هو العُقدة الغورديّة التي تلتفّ حولها مشاهد المسرحيّة، بين حركة جسديّة تعبيريّة وخطاب درامي يجمع بين العمق والعفويّة.
أما مَنْ ينتبه إلى الإضاءة والديكور، فيلاحظ اقتصادهما وابتعادهما عن الزوائد، باستثناء علامتَي »ممنوع«البيضاء والحمراء، و«انتبه أشغال» اللتين ترمزان إلى المقاومة والبناء.
تُضاء علامة «ممنوع» لا لحجب الحقيقة، بل لمنع إخفائها، ولإتاحة الفرصة للجسد كي يقول ما تعجز اللغة عن قوله.
وما أثار إعجابي أكثر هو الانسجام التام بين التعبير الجسدي واللّغوي، بين مشاهد الرقص والهروب المفاجئ، وبين لحظات القول المشحونة بالألم والأمل.رافقت ذلك موسيقى هاني بالحمادي، التي تدفعك إلى التساؤل:هل كُتبت الموسيقى لتواكب الحركة، أم أنّ الحركة هي التي انسابت مع الموسيقى؟ وقد أحقّ الدكتور محمد المديوني رئيس لجنة التحكيم في المسابقة الرسمية لمواسم الإبداع في اقتراحه جائزة خاصة بالموسيقي. فموسيقى هاني بالحمادي كانت على غاية من التناسق مع المشاهد الدرامية بحيث
تجلّى صدق الإيقاع لا في العزف والصوت فحسب، بل في اندماج دقات القلب مع إيقاع العرض.وكأنّ العمل يقول»:إنني هنا حيٌّ معكم… فحيّ على الفلاح.«

 

المشاركة في هذا المقال