Print this page

جاكراندا : شجرة أمل في زمن الرداءة

كثيرًا ما ينتهي المطاف بنقاد الأدب والمسرح إلى أن

يصبحوا هم أنفسهم مبدعين؛ كتّابًا مسرحيين ومخرجين من طراز رفيع. وهذا يعني أنّ المتفرج ليس مجرد متقبل سلبي، كما قد يُظن في الغالب، بل هو مشارك فاعل يعيد بناء العمل الذي يشاهده،فيخلقه من جديد، مثل الحرفي المتدرب الذي يتعلّم من خلال مراقبة طريقة صياغة الفنان لعمله.

ولكن هل يستطيع هذا الحرفي المتدرب أن يتحرّر من تأثير ما أثار إعجابه واخترق وجدانه، وترك في داخله أثر الدهشة والانبهار، أو حتى مجرد انطباعٍ منقوشٍ لاشعوريًا في ذاكرته، ذاكرة فنانٍ متدرب جاهزا للبروزin statu nascendi. ؟
عند مشاهدة مسرحية "جاكراندا"، تدرك أنّ صاحب المشروع وصانعه، عبد الحليم مسعودي - الكاتب والدراماتورغ - حاضر في العمل بقوة تفوق حضور المخرج نزار السعيدي. فمن خلال ثماني شخصيات مختلفة في المشارب والمآرب والمواقف والطموحات، يحكي المسعودي عن العالم وعن ذاته وكأنه يتطهّر من ذنب أو خطيئة، أو يسعى إلى التخلص من ألمٍ يسكنه، فيكسو الفضاء الدرامي بنصٍ يتمتع بجمالية تبهِرك بجدّتها، رغم شعورك بأنّها تردد صدى نصوص أخرى شاهدتها وأحببتها.

وبطبيعة الحال، فإن اختيار عنوان "جاكراندا" يوحي بكرم الجمال الذي تتميز به هذه الشجرة بعظمتها وبهائها.فالمؤلف، رغم العتمة التي تحيط بواقع متدهور، يريد أن يقول إنّ نهاية المطاف ستكون إيجابية ومثمرة، مثل تلك الشجرة الخلابة بجذورها وأزهارها.
في هذه المسرحية، يبرز سؤال الاستبطان والتأمل الداخلي أكثر ظهورا من السعي لاكتشاف الحقيقة الناتجة عن الحوار والتبادل. فالمونولوج (الحوار الداخلي) يطغى على الحوار الثنائي. وفي لحظات معينة، خُيّل إليّ أنني أستمع إلى فاضل الجزيري في "غسّالة النوادر". ومع ذلك، فإن نسيج النص بعيد كل البعد عن التقليد، ولا يتقاطع معه لا في السياق ولا في المنهج.

أدى الممثلون والممثلات أدورا أقنعوا بها ، ولكن قد يستهويك أحيانا خطابهم المحبوك بفنيّة عالية دون أن تتبين السرد في كليّته ، فهو يذكرك بأسلوب فاضل الجزيري، لكن دون أن يكون نسخةً طبق الأصل عنه. وقد أسفتُ لعدم القدرة على السماع دائما لخطاب الممثلين والممثلات، أحيانالسرعة إلقائهم الشديدة، وأخرى لعدم توفر مضخمات الصوت الذي كان يجب أن يمكِّن كل متفرج من متابعة ما يقال بوضوح. وقد قلّص هذا النقص من وضوح النص وأخفى كثيرًا من جماليته.

أما الحوارات، التي تشكل عادةً الخيط الناظم للمسرحية، فقد احتلت مرتبة ثانية في عملٍ يبدو أحيانًا كمنبر خطابي يتناوب عليه الخطباء، كلٌ حسب ما يعتمل في داخله من هواجس وهموم. ومع ذلك، ثمة سردٌ يدعم البنية الدراماتورجية، وغالبًا ما تخترق التناوب بين المونولوج والحوار لوحات انطباعية تمنح الحركة الجسدية حرية التعبير والانطلاق.

قد تندهش من قدرة صانع الفرجة على تحويل التأبين إلى موسم فرح بموسيقاه الاحتفالية، وصورة شكسبير المقلوبة، والألوان الزاهية، والرقصات، والملابس الباهرة. يناقض الاحتفال فكرة الحداد ذاتها، فكل شيء في هذه المسرحية معرض للسخرية والتهكم. تُسلط الأضواء على أكثر الشخصيات غرابة: شخصيتان أندروجينيتان تربكان المتفرج بخطاب يجمع بين الرقة والعنف، التبعية والتحدي، والانهزام والانتصار.
فشكسبير حاضر في "جاكاراندا"، لكنه يفقد ظله في شخصيات تذكّر به دون اقتباس مباشر أو إعادة إنتاج.
علاوة على ذلك، فإن جميع الشخصيات معقدة، توحدها المشاعر الخانقة وقناعة أن الماضي قد ولى، وأن المستقبل غامض ومليء بالالتباس. هل هذه هي حالة شبابنا اليوم؟ ربما، لكنها في الحقيقة وضعيّة عالمية مأزومة ناتجة عن تحوّل جوهري في الزمان والمكان. فالمكان يبدو مركزًا لنداءات دون أن يكون كذلك، أمّا الزمان فهو زمن النهايات: نهاية الحداثة، ونهاية التاريخ، ونهاية الإنسان، وزمن الكوارث البيئية والبيولوجية، والأزمات الاقتصادية، والاهتزازات السياسية، و"نظام التفاهة"، وقابلية التلف في "مجتمع سائل" ينبئ بنهاية العالم.
عند مشاهدة "جاكاراندا"، انتابني انطباع بأنّ هذا العمل هو تجربة أولى في مسيرة عبد الحليم المسعودي، رغم أنّه ليس كذلك. تحمل "جاكراندا" في الوقت نفسه مزايا العمل الأول ونقائصه: فهي مبدعة وفريدة، لكنها تريد أن تقول كل شيء دفعة واحدة.

 

المشاركة في هذا المقال