معمارياً: مركز وأطراف ونظام تُقننه قوى قادرة على فرض سردية جماعية. جمّدت الحرب الباردة بوصلة ثنائية القطب، بينما غذّت تسعينيات القرن الماضي وهم عالم ليبرالي منفتح تُسالمه السوق العالمية والقانون الدولي. غير أنّ هذا الوهم سرعان ما انهار أمام صلابة الوقائع وقسوتها. اكتشفت الولايات المتحدة أن الهيمنة لا تضمن لا التماسك الداخلي ولا السيطرة الشاملة على الأحداث، وأدركت أوروبا أن القانون لا يكفي وحده، فيما اندفعت روسيا في الفجوة التي خلّفها التيه الغربي، ونهضت الصين دون أن تدّعي يوماً عالمية معيارية تُضاهي واشنطن.
لم يتحول العالم إلى نظام متعدد الأقطاب، بل أصبح عالماً بلا أقطاب. تلاشى المركز. لم يعد أي فاعل قادراً على تنظيم المنظومة الدولية، ولا أي كتلة تُهيكل العالم. المؤسسات الدولية لم تعد تعكس موازين القوى الفعلية، بينما باتت القوى تسعى أقل إلى إدارة فضاء عالمي منها إلى الحفاظ على هامش مناورتها في بيئة متقلبة. هذا الغياب للمركز ليس فراغاً هادئاً، بل خواء عاصف. النظام لم يُستبدل بتوازن جديد، بل ابتلعه حقل مغناطيسي متحول، دون جاذب ثابت.
عالم في حالة تزامن صراعي
لم يشهد التاريخ الحديث قط هذه الدرجة من الأزمات المتوازية: الحرب في أوكرانيا، حريق دائم في الشرق الأوسط، توترات بحرية في بحر الصين الجنوبي، توترات ملاحية ممتدة عبر السواحل والممرات البحرية، تنافسات طاقوية في شرق المتوسط، عسكرة القطب الشمالي، إعادة تشكيل قوقازية، هشاشة بلقانية، نزاعات كامنة في البحر الأحمر، تنافسات هندو-باسيفيكية.
هذه الخريطة المتحركة لا تخضع لمنطق واحد، بل تجمع بين طموحات إقليمية، وانكسارات ذاكراتية، ومطالبات حضارية، وصراعات طاقوية، وأمن غذائي، وتحولات تكنولوجية. لم تعد الدبلوماسية تسير في ممرات خطية، بل في متاهة بلا رؤية شاملة. تصبح الاستراتيجية ردة فعل، أحياناً مرتجلة، وغالباً مُكرهة.
السيادة باتت مسامية: معلومات تتدفق دون رقابة، رؤوس أموال متحركة، تقنيات تُعيد تعريف القوة، شبكات عابرة للحدود تحل محل الدولة أو تنافسها. الأمن نفسه يتشظى: أمن عسكري، رقمي، معرفي، مناخي، طاقوي. الترابط الذي كان محتفى به يوماً، أصبح تهديداً متبادلاً. لم يعد التعاون لبناء المدى البعيد، بل لاحتواء اللحظة الآنية.
في هذا التزامن الأزماتي، ينضغط الزمن الدبلوماسي. يختفي المدى البعيد خلف الطوارئ. المعنى خلف ردة الفعل. الرؤية خلف إدارة الحاضر الأبدي.
الفوضى كمنهج
في هذه البيئة المضطربة، حوّلت بعض القوى عدم اليقين إلى أداة. تركيا تبحر بين الناتو وروسيا وآسيا الوسطى، مضاعفة التوازنات السائلة؛ إيران تمزج بين استراتيجية التحمّل ومفاوضات متقطعة؛ قطر تلعب الوساطة والحماية معاً؛ الإمارات تسقط نفوذاً مالياً ودبلوماسية نشطة؛ السعودية تجرّب الاستقلالية الاستراتيجية؛ إسرائيل تتأرجح بين قاعدة داخلية متصدعة وإسقاط عسكري وحشي.
الهدف لم يعد الاستقرار بل تحسين اختلال التوازن. الغموض يصبح مورداً. القابلية للتنبؤ، ضعفاً. لم تعد الدبلوماسية تهدف إلى إنتاج بنى دائمة، بل ترتيبات مؤقتة: هدنات، ممرات إنسانية، وقف إطلاق نار مشروط، اتفاقيات عبور، تأمينات طاقوية مؤقتة. النظام لم يعد أفقاً بل تعليق هش. وفي هذا العالم حيث يتقدم الجميع بلا خريطة، وفي كثير من المحطات، لا تعود الاستراتيجية مشروعاً، بل مجرّد فن للنجاة.
في شقوق العالم: وساطات صامتة
أمام تآكل المؤسسات الرسمية، تتولى الوساطات الخفية الدور. الدوحة، أنقرة، مسقط، أبوظبي، بل الجزائر وأديس أبابا في بعض الملفات، تصبح منصات سرية تُتبادل فيها الرسائل والضمانات والضغوط المقننة. بكين تلعب ورقة التهدئة الحذرة كما أظهر دورها في التقارب السعودي-الإيراني؛ واشنطن تمارس الردع النقطي والترتيب الضمني؛ بروكسل تحاول التوفيق بين المعايير والبراغماتية؛ موسكو تتموضع كمخرّب مفاوض.
هذه الوساطات لا تخلق سلاماً بنيوياً، بل تنسج استقرارات عابرة. غايتها ليست النظام بل منع الانهيار. الدبلوماسية تصبح خياطة لا معماراً. تُصلح، تُرقّع، تُخفف الصدمات، دون أن تُعيد البناء في هذا العالم، لم تعد القوى المتوسطة مجرّد هامشٍ صامت، بل أصبحت مهندسةً لما هو عابر وزائل.
نحو فلسفة جديدة للقوة في العالم
هذا التحول يُغيّر طبيعة السلطة ذاتها. القدرة على الفرض تفسح المجال للقدرة على إدارة عدم اليقين، على التكيّف مع عالم بلا مركز. القوة تُقاس أقل بالإسقاط العسكري منها بإتقان السردية، بالصلابة التكنولوجية، بالقدرة على الإبحار في التحولات الطاقوية، بالمرونة الدبلوماسية، بفن الجمع بين التنافس والتعاون.
هذه الدبلوماسية الدوارة تتطلب فكراً مركباً، قادراً على تقبّل الالتباس، على ربط القصير بالبعيد، على التوفيق بين الواقعية الاستراتيجية والأفق الإنساني. تتطلب حدساً سياسياً متجدداً، قادراً على قراءة الإشارات الضعيفة، على إدراك الشقوق، على التقاط ما يولد في الفوضى أكثر مما ينهار.
تستدعي أيضاً علاقة جديدة بالزمن: صبر استراتيجي في التسارع العالمي، وعي بطيء أمام الآنية الخوارزمية، رؤية شاملة رغم التشبع المعلوماتي. اللايقين ليس انهيارًا، بل شكل الوجود الدولي الراهن. الخطر ليس غياب المركز، بل العجز عن التفكير دون مركز.
التعامل مع اللايقين دون الارتماء في فوضاه
النظام الدولي لن يُبعث بشكله السابق. العالم لن ينضبط حول قوة واحدة، ولا حتى حول توازن مستقر. سيتقدم بتأرجحات، بتوترات مضبوطة، بتوازنات ناقصة. السؤال لم يعد: أي نظام للغد؟ بل: كيف نوجّه التعقيد دون ادعاء ترويضه؟
لم يعد الرهان استعادة مركز اندثر، بل امتلاك مهارة العبور بين مراكز متعدّدة من دون الوقوع في قيد أيٍّ منها. فدبلوماسية الغد ستواجه مفارقة زمن يركض وتحوّلات تمشي على مهل، وستبحث عن توازن دقيق بين غريزة البقاء وواجب المعنى، بين الاعتراف بالصراعية وصون أفق الممكن المشترك.
في هذه البيئة المضطربة، قد تكمن الحكمة الجيوسياسية في إدراك هشاشة العالم دون التعامل معها كقدر محتوم. الرهان ليس استعادة عمودية مطمئنة، بل بناء جغرافيات للتعاون في فضاء متصدع؛ ليس فرض سردية كونية، بل إبقاء الحوار الكوكبي مفتوحاً رغم التصدعات. بين ضغوط إمبريالية، وإعادات تشكيل إقليمية، وتحولات طاقوية، لن يكون الاستقرار معطى بل محل تفاوض مستمر.
يبقى حينها تساؤل: من سيحمل هذه الرؤية؟ القوى الكبرى المنشغلة بصراعاتها؟ القوى المتوسطة، القادرة على الوساطة لكن محدودة بقيودها؟ أوروبا، إن نجحت في جعل هشاشتها الطاقوية محركاً استراتيجياً؟ الصين، المتأرجحة بين الحذر والإسقاط؟ أم أطرافاً لا يمثلها علمٌ ولا دستور ، شبكات، مدن، تحالفات غير مسبوقة؟
إعادة توزيع السلطة لا تعني اختفاء المسؤولية. في عالم بلا مركز، الأفق ليس النظام الكامل، بل السيطرة على الفوضى عند مستوى محتمل، حيث لا تزال الإنسانية قادرة على أن تتنفس، وتختار، وتتخيل...
في العمق، ربما لم يعد السؤال الأكثر إلحاحاً جيوسياسياً بل حضارياً: هل سننجح في ابتكار فكر بمستوى العالم الذي صنعناه؟ فكر لا يبحث عن وهم اليقين، بل عن انضباط الشك، وقوة الفروق الدقيقة، والصبر الاستراتيجي، وجرأة الخيال. بهذا الثمن فقط ستكف دبلوماسية الدوار (la diplomatie du vertige) عن كونها تيهاً، لتصبح فن الصمود في عالم يترنح.
بقلم: أمين بن خالد