التاريخ المعاصر، لا من حيث بعدها الجغرافي أو السياسي فحسب، بل من حيث رمزيتها الإنسانية العميقة. فهي قضية تختبر الضمير الجمعي العالمي، وتشكّل مرآةً عاكسة لقيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان التي تتغنّى بها الأمم والمنظمات الدولية. لقد صارت فلسطين معيارًا يُقاس به مدى صدقية الخطابات الإنسانية في عالمٍ تزداد فيه الفجوة بين الشعارات والممارسات.
لقد شكّل السابع من أكتوبر 2023، تاريخ انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، نقطة تحوّل مفصلية في مسار الوعي العالمي تجاه القضية الفلسطينية. فالأحداث التي تلت هذا التاريخ لم تقتصر على إعادة ترتيب المشهد السياسي في المنطقة، بل ساهمت في إيقاظ وعي إنساني كوني تجاوز حدود الجغرافيا والانتماء. وتحوّلت فلسطين من قضية محلية إلى رمز كونيّ يجسّد فكرة العدالة في معناها الأسمى، ويذكّر البشرية بأن الحرية لا تُجزّأ، وأن الكرامة الإنسانية لا تُختزل في الانتماء أو اللون أو العقيدة.
من هذا المنظور، لم يعد التضامن مع غزة مجرد ردّ فعل عاطفي مؤقت، بل أصبح حركة وعي عالمي تتلاقى فيها أصوات الفنّانين والباحثين والنشطاء عبر المنصّات الرقمية والفضاءات العمومية، مؤكدةً أن مقاومة الاستعمار والهيمنة فعل متجدد يعيد تعريف الكرامة والحرية. كما برزت أنماط متنوعة من المقاومة الرمزية والرقمية — من الصورة والقصيدة إلى التوثيق الميداني والمرافعة القانونية — لتفتح أفقًا جديدًا لفهم العلاقة بين المقاومة والمعرفة، وبين الذاكرة والعدالة.
في ضوء هذه التحوّلات المتسارعة ، يهدف هذا المقال إلى تحليل اللحظة الراهنة بما تحمله من أبعاد إنسانية وتاريخية وسياسية وثقافية متداخلة. فهي لحظة امتحانٍ حقيقي للضمير الإنساني، تُظهر قدرة الشعوب على إعادة صياغة سردياتها في مواجهة آلة العنف والهيمنة، وتعيد طرح السؤال الجوهري حول معنى العدالة في عالمٍ تُدار فيه المعايير بموازين القوة لا بموازين القيم.
يتناول المقال ثلاثة محاور مترابطة تتيح فهم التحوّلات الراهنة: الأول يدرس تحوّلات الوعي العالمي والمقاومة الفلسطينية، موضحًا دور الفعل الميداني والتوثيق الرقمي في إعادة صياغة السردية الفلسطينية. الثاني يسلط الضوء على المكاسب الإنسانية وهشاشة حقوق الإنسان، من إنجازات ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الانتهاكات المعاصرة في ظل العولمة النيوليبرالية. أما الثالث فيركز على الصحوة الشعبية العالمية والتربية على المقاومة، موضحًا كيف يمكن تحويل التضامن الرقمي إلى وعي تربوي مستدام يعيد للحرية والكرامة والعدالة معناها الإنساني.
أولا: تحولات الوعي العالمي والمقاومة الفلسطينية
كشفت حرب غزة عن انفصال متزايد بين مواقف الشعوب الحرة ومواقف الحكومات الرسمية، وأظهرت كيف يمكن للتقنيات الحديثة أن تتحول إلى أدوات مقاومة، توثّق الحقيقة وتكسر احتكار الصورة والخبر.لقد أعادت المقاومة الفلسطينية تعريف المفاهيم الجوهرية في القانون الدولي: من "حق الدفاع عن النفس" إلى "حق الشعوب في التحرر وتقرير المصير". وصار واضحًا أن الرأي العام العالمي بات أكثر تحررًا من السرديات المهيمنة، وأكثر استعدادًا لتسمية الأمور بأسمائها الحقيقية: الاحتلال استعمار، والقصف الممنهج جريمة حرب، والحصار عقوبة جماعية.
في هذا السياق، برزت تجارب عالمية تعبّر عن هذا الوعي الجديد. فقد تحدّى طلاب الجامعات في الغرب، من هارفارد إلى أكسفورد وكولومبيا، إداراتهم ورفعوا شعارات "الحرية لفلسطين" رغم التهديدات بالطرد والفصل. ووقّع آلاف الأكاديميين والفنانين والكتاب بيانات تضامن، من أمثال نعوم تشومسكي وجوديثبتلر وريتشارد جير وروبرت دي نيرو، معتبرين أن الصمت أمام الجرائم هو تواطؤ أخلاقي.
كما شهدت الفترة نفسها محاولات كسر الحصار البحري على غزة، أبرزها "أسطول الصمود العالمي" في سبتمبر 2025، الذي شكّل أكبر تحرك بحري مدني دولي لدعم القطاع منذ بداية النزاع. ضمّ الأسطول نحو 50 سفينة وحوالي 500 ناشط من أكثر من 45 دولة، بينهم نواب برلمانيون وأكاديميون وفنانون وصحفيون. وقد صارت هذه السفن رمزًا للمقاومة المدنية الدولية، بعدما اعترضتها السلطات بالقوة في المياه الدولية، متجاوزةً جميع المحاولات السابقة من حيث الحجم والتنظيم والأثر الرمزي.
هذا التحوّل لا يقتصر على المواقف السياسية فحسب، بل يشمل أيضًا البنية التقنية للمعلومة. فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي — رغم محاولات التضليل وإسكات الأصوات الحقيقية من قبل الجهات المهيمنة— للضحايا أن يصبحوا رواة قصصهم بأنفسهم. ولم تعد مشاهد القصف في غزة محصورة بعدسات المراسلين الدوليين، بل نقلها سكان القطاع مباشرة عبر هواتفهم، لتتحوّل بذلك المعلومة إلى فعل مقاوم، والذاكرة الرقمية إلى أداة فعّالة لكشف التعتيم الإعلامي وكشف الحقائق أمام العالم.
أحد الأمثلة الرمزية على هذا التحول لمسناه في تجربة بسيطة لكنها دالة: ففي 22 أوت 2024، عندما طلبنا من أحد أنظمة الذكاء الاصطناعي تقديم تقرير عن الانتهاكات في غزة، تهرّب من الإجابة بحجة : "الصراع في غزة معقّد ويتغيّر بسرعة". لكن بعد عام واحد فقط، في6 أكتوبر 2025،جاء الردّ عن الطلب نفسه مختلفًا جذريًا، مستندًا إلى تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية مثل منظمة العفو الدوليةوهيومنرايتسووتش، ومُصنّفًا انتهاكات الكيان الصهيوني بدقة ووضوح غير مسبوق، ، متضمنًا العناصر التالية:
• انتهاك مبدأ التمييز والتناسب أثناء العمليات العسكرية، عبر شنّ هجمات مباشرة أو عشوائية تؤدي إلى مقتل أعداد كبيرة من المدنيين وتدمير المنازل والمستشفيات والمدارس ودور العبادة، أي الأعيان المدنية المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني.
• فرض العقوبات الجماعية والحصار على قطاع غزة، وهو ما تعتبره اتفاقيات جنيف شكلاً من أشكال العقاب الجماعي المحظور، يتجلى في منع الغذاء والماء والكهرباء والوقود والأدوية عن السكان المدنيين.
• الاستيطان غير القانوني ونزع الملكية، من خلال بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي والممتلكات الخاصة والعامة في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
• القتل غير المشروع والاحتجاز التعسفي والتعذيب، وحرمان المعتقلين الفلسطينيين من أبسط ضمانات المحاكمة العادلة.
• استخدام المدنيين كدروع بشرية في بعض العمليات العسكرية، وهو انتهاك صارخ لاتفاقية جنيف الرابعة.
• استهداف الطواقم الطبية والإغاثية ومنعها من أداء مهامها، بل وتدمير المستشفيات ومنشآت الرعاية الصحية، بما في ذلك أقسام الولادة وحديثي الولادة.
هذا المثال الرمزي يعكس تحولًا في الوعي الرقمي العالمي، حيث لم يعد الذكاء الاصطناعي ذاته بمنأى عن الحقائق التي توثّقها الضمائر، وهو مؤشر على تحرر نسبي للخطاب العالمي من هيمنة السرديات التي كانت مهيمنة قبل 7 أكتوبر 2023.
إن المقاومة الفلسطينية، بهذا المعنى، لم تعد مجرد حركة تحرر وطني، بل أصبحت مدرسة عالمية في الوعي المدني، تذكّر العالم بأن العدالة لا تحتاج إلى تبرير، وأن الضحية ليست مطالبة بإقناع الجلاد بإنسانيتها.
ثانيا: حقوق الإنسان بين المكاسب والهشاشة في عالم الهيمنة النيوليبرالية
1) مكاسب ما بعد الحرب العالمية الثانية: تأسيس أفق إنساني جديد
منذ سنة 1945، برزت الحاجة إلى بناء نظام دولي جديد يضع الإنسان في صميم اهتماماته، بعد ما خلّفته الحربان العالميتان من مآسٍ غير مسبوقة. وقد شكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 لحظة فارقة في التاريخ المعاصر، إذ أرسى قيمًا كونية للحرية والعدالة والمساواة، وأعاد تعريف دور الدولة في حماية الكرامة الإنسانية.خلال العقود التالية، تحققت مكاسب ملموسة:
• استقلال العديد من الشعوب المستعمَرة، وترسيخ مبدأ تقرير المصير.
• توسيع الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية في كثير من الدول.
• بروز حركات نسوية وطلابية وحقوقية عالمية جعلت من الإنسان محورًا للمواطنة والعدالة.
• تطور منظومة القانون الدولي، وتكاثر الهيئات الأممية والاتفاقيات الخاصة بحماية الفئات الهشّة ومناهضة التمييز والعنف.
هذه المكاسب لم تكن هدية من النظام الدولي، بل ثمرة نضالات متراكمة للشعوب والحركات الاجتماعية، مما منح حقوق الإنسان شرعية مزدوجة: قانونية ونضالية.
2) من نهاية الحرب الباردة إلى 11 سبتمبر2001: بداية الانكشاف
مع انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، دخل العالم مرحلة جديدة من الأحادية القطبية، حيث تصدّر النموذج الليبرالي الغربي المشهد باعتباره "نهاية التاريخ" وذروة التقدّم الإنساني .. غير أنّ هذا "الانتصار" سرعان ما كشف عن وجهٍ آخر للرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية، التي جمعت بين الحرية الاقتصادية والهيمنة السياسية، وحوّلت شعار "الأسواق الحرة" إلى وسيلة لإعادة إنتاج التفاوت وإضعاف قيم العدالة والمواطنة.
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتكرّس التحول الأخطر في النظام العالمي: هيمنة المنطق الأمني على المنطق الحقوقي، وتبرير التدخلات العسكرية باسم "الديمقراطية" و"مكافحة الإرهاب"، مع تكريس ازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي، كما تجلّى في احتلال العراق وأفغانستان والتواطؤ الغربي المستمر في مأساة فلسطين.
ويكتسب في هذا السياق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379(10 نوفمبر 1975)، القاضي باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، دلالة خاصة؛ فقد شكّل لحظة نادرة في التاريخ الحديث عبّر فيها الضمير العالمي عن وعيٍ نقديٍ بالقيم الإنسانية. لكن هذا القرار أُلغي بموجب القرار 46/86في 16 ديسمبر 1991، بعد أن جعلت دولة الكيان الصهيوني إلغاءه شرطًا لمشاركتها في مؤتمر مدريد للسلام، في لحظة تزامنت رمزيًا مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء التوازن الدولي.
لقد شكّل هذا الإلغاء أكثر من تراجع دبلوماسي؛ كان إعلانًا عن بداية مرحلة جديدة من انكشاف الوعي الإنساني، حيث تراجعت القيم الكونية أمام منطق المصالح، وتحوّلت مبادئ الحرية والعدالة إلى أدوات انتقائية تُفعّل أو تُعطّل بحسب إرادة القوى الكبرى. وهكذا بدأ العقد الأخير من القرن العشرين يؤسّس لقرنٍ جديد فقد فيه العالم بوصلته الأخلاقية والتربوية، وانكشفت فيه تناقضات الخطاب الإنساني العالمي في أوضح صورها، خاصة في قضية فلسطين.
3) الأسباب البنيوية للهشاشة الحقوقية: حضارة القوة وتناقض القيم
لا يمكن فهم هذا التراجع دون العودة إلى الجذور الفلسفية للحضارة الغربية الحديثة. فمنذ توماس هوبز وفريدريك نيتشه وتشارلز داروين وصولًا إلى تشارلز بيرس وغيرهم، تبلور في الثقافة السياسية الغربية نموذج حضاري يقوم على الصراع والتفوّق، يرى في القوة أساسًا للنظام وفي السوق معيارًا للقيمة. وقد أنتج هذا النموذج عبر القرون خطابًا مزدوجًا: إنسانيًّا في المبدأ، براغماتيًّا في الممارسة؛ فهو يرفع شعار حقوق الإنسان كقيمة كونية، لكنه ينتهكها متى تعارضت مع مصالحه الاستراتيجية. ولعلّ في قولةبانكاجميشرا ما يعبّر عن هذا ببلاغة: "أمريكا كانت ترفع شعار الحرية في زمن ازدهار العبودية."
وفي سياق ازدواجية الخطاب الغربي ذاتها، يمكن الاستشهاد أيضًا بكتاب بانكاجميشرا الأخير The World After Gaza: A Short History(فيفري 2025)، حيث يُعيد الكاتب تقييم الصراع الفلسطيني–الصهيوني في إطار تاريخي أوسع، مبرزًا التوتّر القائم بين الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان والسياسات الاستعمارية الفعلية. يشير ميشرا إلى أن الغرب يستخدم ذكرى الهولوكوست لتبرير سياسات الاحتلال، مظهرًا ازدواجية أخلاقية صارخة، إذ يُستغل الماضي لتبرير الحاضر.
ويظهر هذا التناقض ليس فقط على مستوى السياسات الدولية، بل أيضًا في حياة الفرد والمجتمع: مع تعمّق الهيمنة الاقتصادية والثقافية للعولمة النيوليبرالية، يتجسّد هذا التناقض على مستوى الفرد والمجتمع، إذ يتحوّل الإنسان من فاعل اجتماعي إلى مستهلك منعزل، تُختزل قيمته في الإنتاج والاستهلاك، وتغذّيه خطابات "السعادة الفردية" و"النجاح الشخصي"، فيما تتآكل الروابط الجماعية ومعها المعنى الإنساني المشترك.لقد أصبح شعار الحداثة الجديدة: "أنا أستهلك، إذن أنا موجود. "
هذه الفلسفة المادية الاستهلاكية تمثل الوجه الأيديولوجي للهشاشة الحقوقية المعاصرة، إذ تُحوّل القيم إلى سلع، والمواطنة إلى امتياز، والحرية إلى شعار قابل للتسويق. ومع ذلك، فإن تراكم التجارب والاحتجاجات العالمية يؤكد أن جذوة الوعي لم تنطفئ؛ فكل مكسب حقوقي كان ثمرة مقاومة، وكل انتكاسة حالية تستدعي مقاومة جديدة — مقاومة تربوية وثقافية ومدنية، تُعيد وصل الحقوق بالكرامة، والكرامة بالحرية، وتمنح للإنسان معنى وجوده من جديد.
ثالثًا: الصحوة الشعبيةوالتربية على المقاومة العالمية
تظهر المقاومة الفلسطينية اليوم كمدخل لإعادة التفكير في معنى الحرية والكرامة الإنسانية، ليس فقط كعمل سياسي، بل كفضاء للوعي والضمير. في هذا السياق، يمكن قراءة المقاومة عبر ثلاثة أبعاد متكاملة: وعي كوني جديد يتجاوز الحدود الجغرافية، أزمة الضمير في مواجهة التزييف والسخرية، والتربية على المقاومة لتعزيز التفكير النقدي والقيم الإنسانية.
1) المقاومة كوعي كوني جديد
مع اشتداد المأساة في غزة، شهد العالم تحوّلًا لافتًا في أنماط التفاعل الشعبي، حيث تجاوزت المقاومة حدودها الجغرافية لتصبح رمزًا كونيًا للحرية والعدالة. فمن شوارع العواصم الغربية إلى الجامعات العالمية، ومن الحملات الرقمية إلى المبادرات الثقافية والفنية، تبلورت حركة تضامن عالمية تمزج بين الوعي الأخلاقي والعمل الميداني.
هذا التحوّل لم يكن مجرد ردّ فعل إنساني عابر، بل تعبيرًا عن وعي عالمي جديد بالعولمة؛ وعي يرى أن مصير الشعوب مترابط، وأن العدالة لا يمكن أن تكون نسبية أو انتقائية. لقد ولّدت المقاومة الفلسطينية — بما تحمله من رمزية إنسانية وتاريخية — لحظة مراجعة شاملة لمنظومة القيم التي تحكم العالم، وأعادت إلى السطح مفاهيم غُيّبت طويلًا مثل الاستعمار، الهيمنة، التواطؤ الدولي، والمقاومة المدنية.
إنّ ما يتبلور اليوم في الوعي الجمعي للشعوب ليس فقط تعاطفًا مع الضحية، بل استعادة لفكرة الفعل الإنساني المشترك، الذي يعيد وصل الأخلاق بالسياسة، ويجعل من مقاومة الظلم فعلًا كونيًا تتجاوز فيه الشعوب حدود الأوطان والأيديولوجيا، لتبني معًا أفقًا جديدًا للإنسانية المشتركة.
2) بين التزييف والسخرية: أزمة الضمير والوعي في قراءة المقاومة
لكن هذه الصحوة لم تخلُ من محاولات الاحتواء والتشويه. فالإعلام المهيمن، بوصفه أحد أهم أدوات النظام النيوليبرالي العالمي، يسعى باستمرار إلى تفريغ المقاومة من معناها وتحويلها إلى موضوع للريبة أو السخرية. في الخطاب الغربي والصهيوني — وحتى في بعض الأوساط العربية — يُعاد إنتاج صورة "المقاوم" ليس فقط بوصفه تهديدًا للنظام العالمي أو رمزًا للعنف، بل أيضًا كساذج، متهور، ومنفصل عن الواقع. هذه الصور النمطية تضعف القيمة الرمزية والأخلاقية للمقاومة، وتجعل الفعل التحرّري عرضةً للتقزيم والتهوين، بعيدًا عن عمقه الإنساني والسياسي.
وفي المجال الرقمي، تتخذ هذه الاستراتيجية أشكالًا أكثر نعومة: إغراق الفضاء العام بالمحتوى التافه، وتشجيع ثقافة اللامبالاة والاستهلاك، بما يُضعف الحس النقدي ويحوّل المقاومة إلى مادة للتهكم أو التسطيح. ومع ذلك، فإن هذا التلاعب بالوعي لا يخلو من أثر عكسي؛ إذ غالبًا ما يُنتج وعيًا مضادًا يدفع الأفراد إلى التساؤل عن حقيقة ما يُقدّم إليهم، ويكشف التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني. وهكذا، تتحوّل السخرية ذاتها إلى باب للتفكير واستعادة الوعي النقدي والضمير الإنساني في مواجهة الدعاية المهيمنة.
3) التربية على المقاومة: تعزيز الوعي النقدي والضمير الإنساني
من هذا المنظور، تصبح التربية على المقاومة أكثر من مجرد شعار نضالي؛ إنها مشروع إنساني لبناء الوعي والضمير. ففي عالم تُدار فيه المعرفة عبر الخوارزميات والمصالح، تصبح التربية — بمعناها العميق — فعل مقاومة ضد الجهل، وضد تحويل الإنسان إلى كائن مستهلك ومنفصل عن مجتمعه.
المقاومة هنا ليست فقط مواجهةً ميدانية، بل موقف تربوي وأخلاقي يُترجم في المدرسة، في الجامعة، في الإعلام، وفي الفضاء الرقمي. إنها تربية على الكرامة والوعي النقدي، وعلى رفض اللامبالاة والصمت أمام الظلم، أياً كان شكله أو موقعه.
وتقتضي هذه التربية إعادة النظر في مفاهيم التعليم والثقافة والإعلام، بحيث لا تبقى هذه المجالات أدوات لتشكيل الأفراد وفق المعايير النمطية السائدة ، بل فضاءات لتمكينهم من التفكير الحر والفعل المستقل، ومن بناء علاقة نقدية بالعالم.
لقد نبّه عدد من المفكرين المعاصرين إلى ضرورة تحرير الفكر الإنساني من التبعية المعرفية والثقافية للغرب. فكما يرى فتحي المسكيني(2025)، “يبدو أن الوقت قد حانلفك الارتباط بين الغرب والإنسانية، وبين الحداثة والمستقبل..”، مؤكّدًا أن الحداثة الغربية “حيوان تاريخي ذو وجهين : الوجه الأول مضيء، يمثل قيم التنوير والتقدم الإنساني، بينما الوجه الآخر مظلم، يتمثل في الاستعمار والسيطرة على الشعوب والثقافات الأخرى .
وفي الاتجاه نفسه، يطرح موريس غودلييه في كتابه Quand l’Occidents’empare du monde (2023) سؤالًا حاسمًا: “هل يمكن التحديث دون التغريب" وهو سؤال يعيد تعريف معنى التقدم، ويؤسس لمشروع تحديث قيمي ينبع من الذات، بعيدًا عن استنساخ نموذج الغرب. لقد أثبتت نماذج تاريخية (كالنموذج الياباني أو الصيني) أن المقاومة الثقافية الواعية قادرة على تحقيق الحداثة دون التنازل عن الهوية.
إنّ التربية على المقاومة، بهذا المعنى، هي تربية على التحرر المعرفي بقدر ما هي مقاومة سياسية أو أخلاقية. إنها دعوة إلى أن يتعلم الإنسان كيف يفكّر من موقعه، لا من مرآة الآخر، وأن يميّز بين التقدّم كقيمة إنسانية والتغريب كآلية للهيمنة. إنها وعيٌ نقديّ جديد يحرّر الحداثة من احتكارها الغربي، ويعيد تأسيسها كمسار إنساني مشترك.فالمطلوب — كما يقول فتحي المسكيني — هو بناء ذات ديكولونيالية تمارس العصيان المعرفي، وتعيد وصل الفكر بالكرامة والحرية.
خاتمة: نحو أفق إنساني جديد
تكشف اللحظة الفلسطينية الراهنة عن عمق الأزمة الأخلاقية التي يعيشها العالم المعاصر، حيث تتقاطع هشاشة منظومة حقوق الإنسان مع صعود منطق الهيمنة والعنف المُمأسس. غير أن ما تتيحه هذه اللحظة أيضًا هو بروز وعي إنساني متجدد، يجد في مأساة غزة مرآةً لضمير البشرية ومحكًّا لمصداقية القيم الكونية التي بُني عليها النظام الدولي منذ 1945.
لقد بيّن تحليل المحاور الثلاثة أن التحولات الجارية لا يمكن قراءتها فقط في ضوء الصراع الجغرافي والسياسي، بل ضمن مسارٍ تاريخي طويل يتنازع فيه منطق التحرر ومنطق السيطرة. فبين مكاسب ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتكاسات ما بعد الحرب الباردة، تواصل حقوق الإنسان مسارها المتعرّج، حيث لا يتحقق أي تقدم دون مقاومة، ولا تُحفظ أي قيمة دون وعي نقدي ومساءلة مستمرة.
في المقابل، تمثل الصحوة الشعبية العالمية وتنامي التضامن مع فلسطين علامة على تحوّل في الوعي المدني الكوني، إذ باتت المقاومة — في بعدها المعرفي والثقافي والتربوي — شكلًا من أشكال إعادة بناء الإنسان في مواجهة اللامبالاة والاختزال والاستهلاك. ومن هنا تبرز أهمية التربية على المقاومة بوصفها فعلًا إنسانيًا طويل المدى يربط بين الحرية والكرامة، ويحوّل التضامن من موقف ظرفي إلى ثقافة مواطنية عالمية.
وفي هذا السياق، تتحوّل غزة إلى ضمير الإنسانية الجديدة ومنارة للحداثة المحررة من الاستلاب والاستعمار، تذكّر العالم بأن العدالة لا تُجزّأ، وأن الكرامة الإنسانية ليست امتيازًا، بل الأساس الذي تقوم عليه إنسانيتنا المشتركة، وأن الحداثة الحقيقية يمكن أن تنبع من الذات والتجربة التاريخية للجنوب، لا من فرض نموذج الغرب.
بقلم: مصطفي الشيخ الزوالي