بالطاعة فقط، كأنه إعلان تجاري للقيود.. يبدو أن البلاد بخير، حتى الخوف صار جزءًا من المشهد الطبيعي، كظلٍّ لا يفارق الضوء.. كلعنةٍ تلاحق النهار أو كأنفاسٍ تختبئ في الصدر خشية أن تُسمَع.
الناس يتكلمون ببطء، كأن اللغة أصبحت قنبلة موقوتة. فمنذ زمن، أُعلن عن حالة الطوارئ في الجمل والكلمات، فصارت تمر عبر أجهزة التفتيش قبل أن تُطلّ على العيون. في المقاهي، السياسة ممنوعة، لكن أسعار الخبز ومواقيت الغروب تُناقش وكأنها قوانين الكون.
المواضيع الكبرى أُرسلت إلى الأرشيف، إلى جانب رسائل الحب ورسائل المساجين، بلا عودة.. ثمة صمتٌ كثيف يهبّ على البلاد، يشبه الغبار حين يدخل إلى الرئتين: لا يُرى، لكنه يخنق.
يبدو أن الخوف لم يعد يطرق الأبواب، استقرّ في العيون، في الجمل المبتورة، في النكات التي تُروى همسًا.. صرنا نكتب كأننا نوقّع تعهّدًا بالصمت، وننشر كأننا نعتذر عن البقاء أحياء.
ما الذي حدث لبلدٍ كان يفاخر بصوته؟ صارت الكلمة تُوزن بميزان الخطر، والسكوت يُسمّى حكمة، والغياب يُكافأ بالأمان. تتبدّل الوجوه، تتغيّر الأنظمة، لكن الخوف يبقى بذات ملامحه: يرتدي كل مرة قناعًا جديدًا ويجلس في المكان نفسه.
المذيع يقول في نشرته اليومية: «الوضع مستقر».. كلمة ناعمة، كابتسامة طبيب يخبر مريضه أن قلبه ما زال يخفق، وإن كان مربوطًا بأجهزة التنفس الصناعي. كل شيء مستقر، حتى صمتنا، الذي أصبح صمتًا رسميًا معتمدًا. النظام لم يعد بحاجة إلى التهديد.. لقد أنجز أعظم خدعة: زرع الخوف داخلنا، في أعماقنا، حتى صرنا نخاف من أنفسنا.. كل بيت صار وزارة داخلية، وكل هاتف غرفة تحقيق.
الرقابة الذاتية أصبحت قانون الطبيعة: خفض صوتك، خفف كلماتك، فالماضي يسمعك، والحاضر يراقبك، والمستقبل… مستسلم.. الخوف صار أسلوب حياة.. نرتديه مثل البدلة الرسمية، نضعه في جيوبنا مع المفاتيح، وننام وهو تحت الوسادة..الخوف أصبح فضيلة، علامة حسن سلوك، شهادة بقاء.
من يخاف أكثر، يطيع أكثر، يعيش أكثر… وربما يموت أبطأ..أما الشجاعة، فقد تحوّلت إلى فن التجاوز الهامس.. والكاتب الجسور اليوم يكتب عن الضوء، وهو يقصد العتمة، يكتب عن الوطن وهو يقصد الجدار، ويكتب عن المطر وهو يقصد الرصاص.
البلاغة الآن هي التمويه المتقن، لا الصدق الفجّ. حتى الشعراء أصبحوا يكتبون بالطباشير، لتختفي كلماتهم مع أول قطرة مطر. أما النظام؟ فهادئ. هادئ جدًا.. يشبه راهبًا في صلاة دائمة على روح الضجيج.. يبتسم من بعيد، يبارك صمتنا الجماعي، ثم يواصل مراقبة الهواء من خلف زجاج مضاد للكلمات، كأنه يرى كل شيء ولا يلمس شيئًا.
لكن لا شيء يدوم... فكل صمتٍ طويلٍ ينفجر في النهاية، وكل خوفٍ شاملٍ يلد نكتة، والنكتة، كما تعلمون، هي أول تمرينٍ على الحرية، وأول خطيئة ضدّ النظام.. لذلك أضحك...أضحك لأن الضحك هنا لم يعد تسلية، بل نوعًا من العصيان الهادئ..أضحك لأن الضحك، في هذه البلاد، صار تصريحَ إقامةٍ مؤقتًا في وجه العدم...أضحك لأذكّر نفسي أن اللغة ما زالت تنزف، لكنها تقاوم النزيف بالكلمات، وأن الخوف، مهما تمدّد، يبقى ظلاً بلا نبض، وجسدًا بلا روح.