Print this page

الكتابة بالذاكرة في " هدرة أوظلالي التي تعرج" لكلثوم عياشية


على سبيل التقديم

 

"هدرة أو ظلالي التي تعرج" اسم النص الروائي الثاني للتونسية كلثوم عياشية المتوج بجائزة الكومار ، بعد " مدن ولا سراويل" الفائز بجائزة توفيق بكار في دورتها الأولى، و"نيرة" الموجه لليافعين والحاصل على جائزة عبد الوهاب بن عياد الأدبية ، ومن هنا نخلص بعد هذه الاستحقاقات إلى الاعتراف بانخراط الكاتبة في قلب الظاهرة الأدبية التونسية عن جدارة واستحقاق ، وعبر مشوار إبداعي متميز .
والمقبل على فصول رواية " هدرة ظلالي التي تعرج"، يثير انتباهه اشتغالها ا على الذاكرة الفردية والجماعية ، مما يحيل المتلقي مباشرة إلى ماضي" رملة" الساردة الذي يجسد حياتها المريرة والمتشابكة بتفاصيلها الدقيقة ومشاعرها الداخلية والنفسية ،
وعن تلك الأجواء والمواقف الدقيقة التي عاشتها والمعبرة عن التشتت الذهني المرتبط بوضعها الاجتماعي.
وعليه ، تعتبر الذاكرة وظيفة ذهنية ونفسية تسمح بتخزين وحفظ واسترجاع المعارف والصور التجارب الماضية في تلافيف الدماغ ، مثلما حفظ الموسيقى في الأسطوانة، ولا يتأتى هذا الحفر في الذاكرة إلا " بمدى وعي الروائي بما يكتبه أولا ، وبمدى قدرته على الاسترجاع، استرجاع الأحداث والأفكار والأشياء والشخصيات " على رأي " عزيز العرباوي.

الذاكرة الفردية

تشير الذاكرة الفردية إلى الذكريات والتجارب الشخصية لشخص واحد ، إنه تذكر الأحداث والتجارب والعواطف الماضية التي ينفرد بها كل فرد ، وتشمل الذكريات الشخصية للطفولة والعلاقات والتجارب.
هكذا، تعود "رملة " كساردة في الرواية إلى طفولتها، لتحكي عن معاناتها منذ صغرها وحتى بلوغها، من أشكال عديدة من سخرية واستهزاء زملائها سواء في المدرسة أ وخارجها" ضحك بعض الرفاق الذين يشاركونني الحي والطريق إلى المدرسة مع " حليمة" ، نهرهم المعلم ، فهتف أحدهم: أما أمك فمجرد خادمة " ، فأيدهم آخرون :" نعم ، خادمة " ص 28
كما تستدعي الكاتبة من خلال شخصية "رملة" ذاكرتها المكتظة بالأحداث الموخزة لنفسيتها مثل تعرضها لانتهاك وإيذاء عاطفي جارح، دون احترام لطفولتها أو سلامتها العاطفية، حين تم تجريدها من الفستان في عيد ميلاد صغيرة السيدة " نعيمة " " في المطبخ، سلت الفستان من فوق جلدي، وقفت أنظر إليها وهي تنزع مئزرها، تلسني إياه، تضبط حزامه حولي، تسويه حتى يقصر ثم تجذبني خلفها " ص 37 .
وجراء النشاط التي تتكفل به ذاكرة" رملة "، البطلة المتخيلة والمتحكمة في السرد ، يتم استدعاء موت "فاطمة " الودودة الذي ترك ندوبا في نفسيتها :
- " – لم تمددونها هناك؟" ، كررتها جملة صريحة صارخة ، انفلت صوت من بين الباكيات :" فاطمة ماتت" ، لأن الأمر يتعلق بعلاقة ودودة بينهما " ربتت يد على كتفي قائلة :" مسكينة البكوشة بنت " بحرية " كانت تحب " فاطمة " ياسر " " ص84
ومن أجل تنويع حضور الذاكرة ، تقدم الساردة جملة من الأحداث التي عاشتها مع زوجها " محرز" الجزار اللاحم والسادي ، بدءا من دفعه " ثمن صفقة أبرمها مع بحرية ليتم الزواج سريعا ، وكما يحتسي السكير كأسه التي لا عد لها ، شربني دفعة واحدة " ص88، مرورا بالتركيز على تضاريس جسدها الأنثوي "منذ ليلتنا الأولى ، عرفت أني سأكون لحما على وضم"ص 87 ، وانتهاء بالإفلات من شذوذهبطريقة كاريكاتورية " انتبه من نومته الثملة مقيدا إلى السرير ، مغطى بالمقانق التي سعيت إلى حشر إسته بشيء منها ، فلم أقو ، فانثال محتوى الأمعاء عليها كأثر براز محمر وخط الفخدين ، وهو يحاول فكاكا ويلعن " ص 2
كما تعود " رملة " إلى علاقتها الحميمية ب" كمال " النرجسي والمصاب باضطراب الشخصية ،لنفاد صبره ومزاجيته ، وعنفه اللفظي"هززت جسدي في إعياء ، كدت أخبط الأرض بقدمي كطفل متبرم
- "أبدا ، قلت أن أصابعه تشبه أصابعه"
ارتفع صوته في غضب :
- " اللعنة ، ما هو دين ربك .. يداه فقط "ص11
إن الذاكرة هنا ، باستحضارها لتجربتي زواجها من "محرز" ثم علاقتها الحميمية ب"كمال"، تنشر غسيل المجتمع الذكوري على حساب المرأة ، وللرجل اليد العليا .
ومن الأحداث التي عاشتها الساردة وتفاعلت معها ، ووظفت ذاكرتها وذاكرة أمها لاستحضار الألم الطفولي لأمها " حربية " التي نقرأ على لسانها : " كنت صبية ساعتها ، تجاوزت الثالثة عشرة ربما ، أقوم مع إخوة أنا أكبرهم بالمساعدة في البيت ورعي الأغنام " ص17 ، شاهدا نصيايجسدتوافق " رملة " وحربية"في نفسالهلاك والعرجالنفسي.
ومن خلال الحفر في ذاكرتها تستحضر " رملة " عدم الاستقرار العاطفي والاضطراب، والخللفي العلاقات والتواصل الفعال بين أفراد أسرتها ، مما ساهم في ارتباكها عرجها نفسيا ، ولسانيا من خلال تأتأتها في الكلام ، وانهيار كاملللروابط العاطفية ، فالأم " حربية " التي منحت الشبع المادي لأطفالها ، ماتت بشكل تدريجي في غيابهم .
وتزخر الرواية وبشكل جريء باقتحام المسكوت عنه الذي يعكس الدعارة والمثلية النسائية التي لم يألفها المجتمع ، أمها بحرية تخون زوجها النوري مع الهادي ، وأدنبيهة لحملها،"هويدة" وعلاقاتها العديدة ، شبقية "أحلام "، و" حمدية"التي تلتجئ ل " مريم الشوافة" كي يبقى زوجها إلى جانبها ، لكن الغيرة الحارقة عليه أعمتها و" قتلت زوجها ، رفعت رأسه بغضب من تحت الصنبور فانغرست الماسورة في عنقه " ص 175، وبقيت " سلوى أو " سلمى " سالمة .
ثم المثلية الجنسية النسائية التي لم تسع الكاتبة إليها إلا من خلال عقد الطفولة ، ف" نبيهة " لم تكن غايتها الاعتداء على " رملة " ، بل وجدت حلا لألم الحليب المتدفق عندها بعد وأدت طفلتها ، و"رملة" بعد أن مجت الحليب ووجدت الدفء في حضن "نبيهة" الذي افتقدته من أمها المشغولة بالبحث عن الخبز .

الذاكرة الثقافية

تشير الذاكرة الثقافية إلىالذكريات والتقاليد والقيم المشتركة لمجموعة أو مجتمع أو ثقافة ، إنه الفهم المشترك للتجارب السابقة التي تشكل هوية المجتمع ، تشمل الأحداث التاريخية والطقوس الثقافية التي تحيلنا على الماي الضارب في القدم ،والمشترك لجماعة بشرية معينة .
وتبعا لهذا ، تكتب "رملة " بذاكرتها مشهدا يوحي بالمجاعة الصغرى التي عاشتها تونس ، بسبب الجفاف ، وتسببت في لجوء السكان إلى مصادر غذائية غير تقليدية للبقاء على قيد الحياة " كان العام "زمة" كما يقولون ، لم تمد السنابل سوقها ، ولم تثقل بالحبات الصفراء اليانعة، لم ير جل الفلاحين جدوى من خروج النساء والرجال لجمع المحصول كما اعتادوا " ص 16
ويتجلى غنى الذاكرة الثقافية في الرواية من خلال نقش الحناء الذي يعد من التقاليد العريقة ،يمثل جزءًا لا يتجزأ من الثقافة التونسية ، و يتميز بأشكاله المتنوعة ، ويحمل في طياته دلالات ثقافية واجتماعية عميقة" أذكر شكل سبابتها المخضوبة دائما ، تحمل أثر الحناء والسائل الأسود الذي تمزده بشيء من العطور ، بعد أن يستوي خليطا من كبش القرنفل والعفص والحديدة " ص 42
وهناك أيضا حضور لبعض أنواع الملابس المستدعاة من الذاكرة التي تحيلنا على تعزيز الهوية المشتركة من قبيل : الشاشية ، اللحاف الصوفي ، والقشابية :
- لبس " قشابية " وتسلل خارجا " ص17
وأيضا توغل الكاتبة فيذاكرتها وما تحمله من مخزون ثقافي، بانفتاحها على المرجعية الشعبية، واختيارها الأمثال عناوين للفصول الروائية ، اختيار لم يكن حشوا بل يتقاطع مع المضمون ويكشف سره .
وبهذا تجدل الرواية بين الذاكرة الخاصة، والذاكرة الثقافية وتصهرهما في خطاب منسجم في مقابل النسيان والمحو، لأن ذاكرة " رملة " تعني الحافظة والهوية الفردية والجماعية،ويمكن أن يكون هذا النبش في الذاكرةتطهيراً للذات،وفرصة للتخلص من سلطة الماضي وهيمنته المترسخة ، ومن تم تضميد التجارب المؤلمةمن خلال استعادتها بهدف تجاوز تأثيرها السلبي، وتخطي المشاكل والمثبطات التي يمكن أن تعطل مسار الحياة .

بقلم:عبد الله المتقى كاتب وشاعر مغربي 

 

المشاركة في هذا المقال