Print this page

شعرية العتبات النصية في " أنا والقالة وظلالنا" لحفيظة قارة بيبان

أشير بداء إلى أن القصة القصيرة التونسية

شهدت تراكما كميا في السنوات الأخيرة ، واهتماما نقديا ، وانعقاد توقيعات وندوات حولها ، وتنظيم مسابقات، وتخصيص المجلات والصفحات الثقافية لنشرها بقصد تداولها ، ولا ننسى مساهمة الإذاعة الثقافية والإذاعات الجهوية ، ونادي القصة أقدم وأعرق النوادي الأدبية بمدينة تونس العاصمة حيث تأسس في منتصف الستينات (أكتوبر 1964 ) ، ومجلته " قصص" التي بدأ النادي بإصدارها منذ 1966.

"ولا غرو ، فالقصة القصيرة هي ذلك الجنس العابر لكل الأجناس الأدبية ، الراشف من رحيقها ، والمقطر لها فيما يشبه الكبسولة الإبداعية ، يضاف إلى هذا أن إيقاع عصرنا المتسارع اللاهث ، المعقد المفتت ، يجد ضالته ومبتغاه في شكل القصة القصيرة 1".
وواضح هذا الاهتمام التونسي الدؤوب بالقصة القصيرة ، الذي أنتج تجارب نوعية وكيفية ، وتخوما جديدة ، وتحولا في الموضوعات والأساليب ، وأشكال الحياة التي يمور بها المجتمع ، ونستحضر هنا على سبيل المثال : سفيان رجب ، نبيل قديش، وليد الفرشيشي ، طارق الشيباني ، حسن مرزوقي ، رضا بن صالح ، محمد فطومي، ولن يسقط منا سهوا مساهمة المرأة في الرقي بهذه الكتابة ، واجتذاب أشكال تعبيرية تغذي المتخيل القصصي، ف" منذ القديم ارتبط الحكي بتاء التأنيث ، ومن شفاه المرأة تقطرت أبجدية الحكي الأولى ، وما تفتأ ذاكرتنا مسكونة بحكي الأمهات والجدات ،وما تفتأ ذاكرة التاريخ مسكونة ومفتونة بحكي سيدة الحكي شهرزاد ، في لياليها البهية الخالدة مع الأيام "2 ، ومن الأسماء القصصية بصيغة المؤنث نستدعي ،آمنة الرميلي ، بلقيس خليف ، حياة الرايس ، نورة عبيد ، نافلة الذهب ،آمال مختار ، مسعودة أبوكر وقارة بيبان التي أصدرت عن دار نقوش عربية مدونتها القصصية " أنا القاتلة وظلالها" 2025 .
فما الذي تفشي به عتباتها النصية ؟
العتبات النصية هي كل ما يحيط بالنص من عنوان خارجي ، وعنوان داخلي ، ومقدمات ، وهوامش ، وإهداء ، وصورة الغلاف ، واسم المؤلف ، إلى غير ذلك ، وقد أطلق عليها جيرار جينيت النصوص الموازية ، ولواحق النص ، وكل ما يهتم بما يحيط بالنص ، فهي " أول لقاء مادي ومحسوس بين الكتاب والقارئ الذي تراهن استراتيجية الكتابة على حسه وحدسه الإبداعيين اللذين يشفان عن أفعال قرائية تتعامل إيجابا مع هذه العتبات "3 ،و كل ما وجد فيه المتلقي ممرا إلى دلالة النص ومقاصده وفك مضمراته ، ذلك أن العلاقة بين بين النص ولواحقه ، هي علاقة اتصال ، وليست علاقة انفصال ، ومن هنا يمكن اعتبارها " قراءة أولى محفزة ومثيرة لشهية القارئ ، فالقارئ يواجه الكتاب عادة وهو معروض على رفوف المكتبات أو واجهتها ، متقدما إليه من خلال غلافه وما يتوفر عليه من " عناصر إشهارية تعلن عن " بضاعته الداخلية " التي تنطوي عليها الصغحات"4
وفي هذا المجال سنركز على العتبات النصية التالية:
العنوان ، اسم المؤلف ، المؤشر الأجناسي ، صورة الغلاف.
1- عتبة العنوان
يعتبر العنوان من أهم عتبات النص ، ولذلك فهو " هوية الكتاب ، واسمه الذي لا يعرف بشيء سواه ، ذلك أنه قبل النص يوجد العنوان ، وبعده يبقى ، فهو في الأخير كلي الحضور ومطلق السيادة" 5. وسيرا على هذا المنوال ،ورد عنوان هذه المجموعة القصصية " أنا القاتلة وظلالنا؟ ، جملة اسمية دالة على ثبوت فعل القتل كحدث واقع بالفعل ، وليس غريبا أن تجد الظلال بحكم اقترانها بالغموض والموت والحياة. فابن منظور أورد في لسان عربه أن الناس يقولون للرجل إذا مات: (ضحا ظله) إذا صار شمسا.. وإذا صار شمسا فقد بطل صاحبه ومات.
هكذا يتخذ العنوان دلالة الإرهاص بتوقع حدث مرتقب يحمل عنصر القتل والموت ، وإذا تتبعنا هذين العنصرين نقرأ من قصة ""القاتلة :
- "قررت أن أقتله " ص 9
- "سأقتله" ص 9
" مع ذلك سأقتله " ص 10
2- المؤشر الأجناسي
يعد المؤشر الأجناسي موجها قرائيا ، يعلن عن الجنس الذي تنتمي إليه المجموعة ، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبارها عملا سرديا ينتمي الى الكتابة القصصية ، مما يدفعنا إلى تحديد مفهوم القصة جنسا أدبيا نثريا يعتمد السرد والحكي ، و " الكبسولة الأدبية التي تسمى القصة القصيرة ، هذه الكذبة المتفق عليها بين القاص والمتلقي ، حد تعبير تشيخوف ، أضحت إحدى العلامات الثقافية لعصرنا ،وأحد " الردارات الأدبية قدرة على التقاط إيقاعات وذبذبات العصر "5
3- صورة الغلاف
يتكون غلاف المجموعة القصصية من لوحة تشكيلية تعكس امرأة بملامح ضبابية وغامضة ، وتساهم دلالة اللون في نقل الأبعاد المضمرة في نفسيتها ، فاللون الأسود هنا يرتبط بالموت والنهايات ،كذلك اللون الأحمر يحمل سمة القتل المصبوغ بالدم .
فالصورة إذن نص أيقوني مشحون بكثافة الدلالات ، تساهم في بناء معنى العنوان ، وتتحاور معه ليختزلا معا ثقافة الموت والقتل ،ذلك لأن " الأشياء التي ترى وتدرك بالعين ، أي كل ما يشتغل باعتباره علامة أيقونية ، لا ينظر إليها في حرفيتها ، بل من خلال انضوائها داحل هذا النسق أو ذك" 6
4- اسم المؤلف
إن تموقع اسم القاصة " بنت البحر حفيظة قارة بيان" أسفل العنوان الرئيسي ، يعرف بصانعة المحتوى، ويمنح الأحقية القانونية للمجموعة حتى لا توسم باللقيطة ، والمساهمة في فهم النص وتأويله بشكل أعمق ، ف" النظام القولي لا يكتسب نصيته من بنيته الداخلية فحسب ، بل يتدخل فيها كذلك منتجه ليضيء بدوره النص" .7
وعليه، لا بد من التوقف عند هذه العتبة الجوهرية ، وأخذ نبذة مقتضبة عن السيرة الإبداعية لحفيظة قارة بيبان ، الإبداعية ، فهي من مواليد بمدينة بنزرت، نشأت منذ الطفولة على حب الأدب وعشق الفن. كتبت القصة والمقالة والرواية وال. انضمت إلى نادي القصة (تونس) منذ أواخر السبعينات وعضو في اتحاد الكتاب التونسيين، أدرجت بعض نصوصها في برامج التعليم التونسية. ساهمت في لجان تحكيم لمسابقات أدبية، وترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية، الأنجليزية، الإيطالية والصينية.
تكون قارة مبدعة رائعة ، ووشم في ذاكرة المشهد الثقافي الإبداعي التونسي ، رسخت وأثبتت أنها قارة لوحدها ، وبحر من الإبداع.
مجمل القول ، " أنا القاتلة وظلالنا " تجربة قصصية جديدة ، تنضاف إلى عناوين المبدعة حفيظة قارة بييان ، وإلى سجل القصة القصيرة بتاء التأنيث في تونس ، ولا أحد يشك في أنها تجربة غزيرة، حاضرة ومستمرة ، بعبارة ، هي قارة وبحر ، اسمان على مسمى .

بقلم: عبد الله المتقي كاتب وشاعر مغربي 

المشاركة في هذا المقال