قدّمها كحلّ نهائي لإنهاء الصراع وإعادة إعمار القطاع. تتضمن الخطة وعوداً بإزالة التطرف، وتطوير الاقتصاد، وإقامة حكم انتقالي، وهي تبدو جذابة على الورق. لكن التحليل المعمّق يكشف عن اقتراح غير متوازن تماماً، يتماشى مع المصالح الإسرائيلية والأمريكية، بينما يتجاهل تطلعات الفلسطينيين نحو العدالة والسيادة.
هذه الوثيقة ليست مبادرة محايدة، بل تعكس رؤية ترامب المنحازة لإسرائيل، التي تجلّت في قرارات سابقة مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس عام 2018. وهي تثير سؤالاً جوهرياً: هل يمكن الحديث عن السلام عندما يتم تجاهل مسؤوليات الاحتلال؟
يفحص هذا المقال عيوب الخطة، ويسلط الضوء على انحيازاتها الأيديولوجية، وصمتها الاستراتيجي، وتداعياتها الخطيرة على مستقبل غزة والقضية الفلسطينية.
غزة كتهديد: نقطة انطلاق مضلّلة
تبدأ الخطة بتشخيص منحاز في نقطتها الأولى: "ستكون غزة منطقة منزوعة التطرف، خالية من الإرهاب، ولا تشكّل تهديداً لجيرانها". بوصف غزة كبؤرة للتطرف، يتجنب ترامب الحديث عن الأسباب الجذرية للصراع: الحصار الإسرائيلي المفروض منذ عام 2007، والقصف الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، والأزمة الإنسانية الخانقة التي يعيشها 2.3 مليون إنسان.
هذا الإطار، الذي يتبنى الرواية الأمنية الإسرائيلية بالكامل، يتجاهل حقيقة أساسية: المقاومة الفلسطينية، التي تمثّلها حماس وفصائل أخرى، هي نتيجة للقمع الهيكلي والاحتلال المستمر منذ عقود.
النقطة الثانية تعد بإعادة إعمار "لصالح سكان غزة الذين عانوا بما يكفي"، لكنها تلتزم صمتاً مريباً حول المسؤولين عن هذه المعاناة. الحصار الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـالعقاب الجماعي؟ الحروب الإسرائيلية المتكررة؟ دور حماس وخياراتها؟ بتجنب هذه الأسئلة، يبرّئ ترامب الاحتلال من مسؤوليته.
هذا الصمت المتعمّد يكشف عن نية واضحة: تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم واختزالهم إلى "مشكلة أمنية"، بدلاً من الاعتراف بهم كشعب يسعى إلى الحرية والكرامة.
عدم التوازن الزمني: ضغط على حماس ومرونة لإسرائيل
تفرض الخطة جداول زمنية تكشف عن انحياز صارخ. يجب على حماس إطلاق سراح جميع الرهائن، أحياءً وأمواتاً، خلال 72 ساعة فقط من قبول إسرائيل للخطة (النقطة 4)، وإلا ستواجه عقوبات صارمة مثل تعليق المساعدات الإنسانية (النقطة 17). وقد حدد ترامب مهلة قصوى من "3 أو 4 أيام" للحصول على رد إيجابي، متجاهلاً التعقيدات اللوجستية والتحديات الميدانية في غزة.
في المقابل، يظل انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي غامضاً ومفتوحاً، مشروطاً بـ"معايير وخطوات ومواعيد نهائية" غير محددة (النقاط 3 و16). بل تفتح الخطة الباب أمام بقاءٍ أمنيّ إسرائيلي في محيط القطاع من دون سقفٍ زمني محدّد. (النقطة 16)، وهو ما يشرعن شكلاً من أشكال الاحتلال الجزئي المستمر.
يذكّرنا هذا التناقض باتفاقيات أوسلو، حيث تبعت وعود الانسحاب الإسرائيلي موجات من توسيع المستوطنات. هذا الاختلال ليس عفوياً: إنه يعكس الأولوية المطلقة المعطاة للأمن الإسرائيلي على حساب حقوق الفلسطينيين.
بالنسبة للمراقب النقدي، فإن هذه الخطة تحوّل مفهوم "السلام" إلى استسلام أحادي الجانب، حيث تُحاصر حماس بمواعيد نهائية صارمة بينما تملي إسرائيل شروطها دون التزامات واضحة.
القضاء على حماس: حملة عسكرية وسياسية وثقافية
لا تكتفي الخطة بنزع سلاح غزة، بل تهدف إلى محو حماس على جميع المستويات. تمنع النقطة 13 حماس نهائياً من أي دور في الحكم المستقبلي، بينما تربط النقطة 6 العفو بشرط تسليم الأسلحة أو قبول المنفى الطوعي.
أما النقطة 18، فترى في "الحوار بين الأديان" وسيلة لـ"تعديل العقليات"، وهو طرح يبدو أقرب إلى هندسة اجتماعية تسعى لإعادة توجيه السردية الفلسطينية تحت غطاء ثقافي.
لكن الحقيقة أن حماس، بغض النظر عن الموقف منها، تمثّل بالنسبة للكثيرين معارضة مشروعة للاحتلال؛ واستبعادها القسري دون عملية ديمقراطية حقيقية هو إلغاء للإرادة الشعبية.
يذكّرنا هذا النهج بالتدخلات الغربية الفاشلة، مثل غزو العراق عام 2003، حيث أدى حل حزب البعث واجتثاث مؤسسات الدولة إلى فوضى عارمة وظهور جماعات أكثر تطرفاً. استبعاد حماس دون بديل ذي مصداقية شعبية يخاطر بخلق فراغ سياسي وأمني، قد يمهّد الطريق لفصائل أكثر تشدداً أو لسلطة فلسطينية فقدت ثقة الشارع وتُتهم على نطاق واسع بالتعاون مع الاحتلال.
أما نزع السلاح الأحادي (النقطة 14)، تحت إشراف "مراقبين مستقلين"، فيبدو مصمماً لنزع سلاح الفلسطينيين بالكامل مع ترك إسرائيل حرة في تسليحها وممارساتها. هذه الاستراتيجية تعمّق الشعور بالظلم، وتتجاهل الحقيقة الواضحة: المقاومة المسلحة هي رد فعل على الاحتلال، وليست ظاهرة معزولة أو انحرافاً عقائدياً.
حكم تحت الوصاية: عودة توني بلير المثيرة للجدل
البنية الحاكمة المقترحة تمثّل نقطة خلاف أخرى. تنصّ النقطة 9 على تشكيل "لجنة فلسطينية تقنية وغير سياسية" لإدارة الخدمات الأساسية، تعمل تحت إشراف "مجلس السلام" الذي يرأسه ترامب ويضم بين أعضائه توني بلير.
هذا الهيكل، حيث يتحكم خبراء دوليون بالتمويل وإعادة الإعمار والقرارات الاستراتيجية، يستحضر نموذجاً استعمارياً صريحاً، يحرم الفلسطينيين من السيادة على أرضهم ومقدراتهم. تدير اللجنة المحلية الشؤون اليومية، لكن السلطة الحقيقية تبقى في يد المجلس الدولي، حتى تنهي السلطة الفلسطينية "إصلاحات" مبهمة لم تُحدد معاييرها (النقطة 9.(
وجود توني بلير تحديداً يثير استهجاناً واسعاً. بصفته أحد المهندسين الرئيسيين لغزو العراق عام 2003، وهي كارثة إنسانية وسياسية تسببت في مقتل مئات الآلاف، يُنظر إلى بلير كشخصية مثيرة للجدل بعمق، مرتبطة بأجندة مؤيدة للغرب وإسرائيل. فترة عمله كممثل للرباعية الدولية (2007-2015) لم تحقق أي تقدم ملموس للفلسطينيين، بل رافقتها توسعات استيطانية متواصلة.
تعيينه في هذا المجلس يبدو محاولة لإعادة تأهيل صورته المشوهة، بينما يفرض في الوقت نفسه رؤية خارجية على غزة تتجاهل إرادة أهلها.
وعود التطوير الاقتصادي، مثل إنشاء "منطقة اقتصادية خاصة" (النقطة 11) أو جذب استثمارات دولية (النقطة 10)، تثير أسئلة حاسمة: من سيمول هذه المشاريع؟ ولمصلحة من ستعمل؟ النقطة 12، التي تسمح بالمغادرة الطوعية دون ضمانات واضحة لحق العودة، تستحضر مخاوف من تهجير مقنع.
هذا النموذج الحاكم، بعيداً عن كونه شاملاً أو تمثيلياً، يبدو مصمماً للحفاظ على سيطرة خارجية طويلة الأمد على غزة، تحت مسميات "إعادة الإعمار" و"بناء السلام".
خطة تكرّس الظلم ولا تحقق السلام
خطة ترامب لغزة ليست سوى وهم سلام، تخفي أجندة واضحة: إطالة أمد الاحتلال تحت غطاء إعادة الإعمار. بتصنيف غزة كـ"بؤرة إرهاب"، وفرض مواعيد نهائية قاسية على الفلسطينيين مع منح إسرائيل مرونة غير محدودة، وتكليف شخصيات مثيرة للجدل مثل توني بلير بالإشراف على الحكم، تهمّش الخطة تماماً تطلعات الشعب الفلسطيني نحو الحرية والعدالة.
غزة ليست "مشكلة أمنية" تحتاج إلى "إزالة التطرف"، بل هي شعب يقاوم من أجل الحرية في مواجهة حصار وحشي واحتلال مستمر منذ عقود. هذه الخطة، بدلاً من أن تمهّد لسلام عادل، تعزز الوضع الراهن الظالم وتكافئ المحتل.
الحل الحقيقي الذي يلبي مقتضيات العدالة والكرامة الإنسانية واضح: رفع الحصار عن غزة، وإنهاء الاحتلال، وفتح طريق حقيقي نحو دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة كاملة وفقاً للشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
بقلم: أمين بن خالد