الحدث الأول في العالم وذلك عبر كثير من الأحداث مثل موجة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية وأيضا عبر اجتماع بعض القادة العرب والمسلمين مع الرئيس الأمريكي من أجل بحث وقف حرب الإبادة الجماعية وأيضا اقتراح الرئيس الأمريكي لخطة من 21 نقطة لإنهاء الحرب في غزة , في نفس الوقت يواصل مناضلو أسطول الصمود مسيرهم البحري بثبات من أجل محاولة كسر الحصار عن سواحل غزة الحزينة رغم محاولات التخويف والترهيب المتكررّة تارة عبر القنابل الصوتية وتارة أخرى عبر طلب السلطات الإيطالية وضع المساعدات في قبرص والعودة إلى الديار ...
ولكنكان هناك حدث رمزي مهمّ كان مسرحه مقر الأمم المتحدة بنيويورك وبطله رئيس دولة شبه مجهول خارج أمريكا الاتينية وذلك على هامش الدورة الثمانون لاجتماعات الجمعيّة العامة للأمم المتحدة وقد تناقلت وساءل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بكثافة المقطع الأخير من خطابه والذي دعا فيه إلى تجييش الجيوش من الدول التي ترفض الإبادة الوحشيّة وذلك من أجل تحرير فلسطين .
ورغم أن الجزء الأخير والمثير من الكلمة المطولة لرئيس كولمبيا هي التي جلبت أنظار وسائل الإعلام فان خطابه المرتجل بكامله والذي تجاوز الأربعين دقيقة كان في نظري حدثا استثنائيا وذلك لعمقه وجرأته النادرتين في عالم السياسة.
فنحن نعلم أن جل السياسييّن متحفّظون و كلماتهم محسوبة مسبّقا و هي تخضع إلى حسابات الربح والخسارة وخاصّة إذا تعلق الأمر بنقد السياسة الأمريكية تحت إدارة الرئيس"ترمب" ولذلك فهي عادة تتسم بكثير من النفاق والبرود ولعل أقربها إلينا كلمة الرئيس الفلسطيني الأخيرة التي وقع بثها عبر تقنية الفيديو والتي بدأها باستعداده للعمل مع إدارة الرئيس الأمريكي الذي لم يمنحه حتى تأشيرة للدخول إلى الولايات المتحدة وختمها بتهنئة اليهود الذين يجندون أبنائهم كل يوم لقتل أبناء شعبه العزّل بعيد الميلاد العبري ولكن ما قاله "غوستافو بيترو" في تلك الأمسية كان مختلفا في الشكل والمضمون ولم يكن من طينة تلك الخطابات السياسية البليدة والمتملقة والمملة.
من ناحية الشكل صعد الرجل إلى منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة مرتديا قميصا أبيضا وهذا اللون أشار إليه خلال خطابه وقال انه لون يرمز إلى الحياة والأمل كما كان خطاب الرجل مرتجلا بالكامل وقد أثبت من هذه الناحية طلاقة وبلاغة ووضوح في الأفكار .
أما من ناحية المضمون فقد كان الخطاب أشبه بنقد حاد للسياسات الأمريكية التي وصفها بالمتطرفة والعنيفة تجاه قضايا متعددة مثل الهجرة ومكافحة المخدرات والتغيرات المناخية والحرب على غزة ودعا إلى ثورة في الأمم المتحدة تجعل من صوت الأغلبية هي التي ترسم عالما جديدا تسوده قيم الإنسانية واحترام الاختلاف والسلام .
بدا الرئيس الكولومبي خطابه بالحديث عن السياسة العنيفة للولايات المتحدة تجاه المهاجرين في البحر الكاريبي عبر حادثة قصف قام بها سلاح الجو الأمريكي في المدة الأخيرة لقارب يقلّ عشرة من الشباب بدعوى شبهة كونهم تجّار مخدّرات قائلا إن الكوكايين يصل إلى أمريكا عبر الموانئ وداخل الحاويات ولا ينقل عبر قوارب الفقراء وأن تجّار المخدرات الحقيقيون يقيمون في نيويورك وميامي وباريس ولون بشرتهم بيضاء وشعرهم أشقر وذكر أن أسباب الهجرة غير الشرعيّة إلى الولايات المتحدة تعود بالأساس إلى سياسة الحصار والتضييقات الاقتصادية التي تمارسها أمريكا تجاه دول أمريكا الاتينية .
وهنا يوجه المخرج المكلف بتصوير جلسات الجمعيّة العامة الكاميرا إلى وفد الولايات المتحدة الذي خيّر مغادرة القاعة مبكّرا ليعرّج الرئيس الكولومبي على قصف الأبرياء في غزة ويقول أن هناك اليوم حنينا إلى الفلسفة النازية التي تؤمن بان هناك إنسانيّة أفضل من إنسانيّة أخرى أصبحت تشرع لقصف النساء والأطفال والشباب العزل وتضع المهاجرين في معتقلات كما كان يحدث في أيام هتلر.
بعد هذه المقدمة الطويلة التي ذكر فيها أيضا كيف أنه نجح في الحد من انتشار زرع المخدرات في بلده دون استعمال العنف يعرّج المتحدث إلى موضوع آخر أخذ حيّزا مهما من كلمته وهو موضوع التغيّرات المناخيّة أظهر جانبا مختلفا وعميقا من فكره حيث تحدّث عن إنكار الرئيس الأمريكي لهذه الحقيقة وقال أن هذا الأخير لا يؤمن بما يقوله العلماء وهو أن الإنسانية أمامها اليوم عشر سنوات لبلوغ نقطة ألاعودة وللتذكير فان الرئيس "ترمب" قال في كلمته التي سبقت كلمة الرئيس الكولومبي بأن التغيرات المناخية هي أكبر عملية احتيال عرفها التاريخ وفي هذا الصدد يذكر الرئيس الكولومبي الإمكانيات الضخمة للطاقات النظيفة في بلده والتي تحتاج إلى تمويلات كبيرة لإنتاجها ولكن وللأسف يرفض رأس المال الأمريكي الانخراط فيها محبّذا التنقيب عن النفط وحرقه أكثر فأكثر، مبيّنا أن صاحب رأس المال هو شخص يتميّز بالطمع ولا يهمّه تسمّم الغلاف الجوي وتغيّر المناخ و بيّن أن فلسفة الأسواق المتنامية والإنتاج اللامحدود والليبرالية الجديدة هي التي تسببت في تغيّر المناخ الذي يقود الإنسانية شيئا فشيئا نحو الفناء والموت وعليه فانّ الإنسان يحتاج اليوم إلى ثورة من أجل البقاء على قيد الحياة حيث قال "عندما سينتهي النفط سينتهي رأس المال وتنتهي البشرية ... يجب أن نناضل من أجل البقاء على قيد الحياة على هذا الكوكب ".
مرّ المتحدث اثر ذلك إلى انتقاد آليات عمل الأمم المتحدة التي تقوم على فيتو بعض الدول في حين لا يمثل صوت الدول الصغيرة أي وزن حتى لو مثّل الأغلبية فمنذ قرابة العامين تمارس دولة واحدة حق النقض ضد وقف الإبادة الجماعيّة في غزة حيث يقتل الأطفال ولا يجدون لأنفسهم مأوى امن في مدينة قريبة من مسقط رأس المسيح حيث يقول "ليست غزة وحدها هي التي تتعرض للقذائف، الإنسانية هي التي تتعرض للقذائف ".
وهنا يرى أن المفاوضات والكلام الكثير حول الاعتراف بدولة فلسطين لن يوقف إبادة الأبرياء وأن الحل الوحيد المتبقي هو تجييش الجيوش من الدول التي لا تقبل بالإبادة الجماعية من أجل تحرير فلسطين وقد قام بالتعبير عن هذه الفكرة الأخيرة بطريقة ملحميّة فيها كثير من البراعة اللغوية حيث يقول مثلا " الكلمات ليست ضرورية , حانت ساعة سيف بوليفار, ساعة الحياة او الموت ..."
هذه خلاصة مقتضبة ربّما لا تفي الخطاب حقّه والذي لا يمكن بأي حال من الأحوال تلخيصه كما قامت أغلب وسائل الإعلام المرئية بمجرد دعوة إلى تجييش الجيوش فقد كان يغلب على شخصية الرئيس وكلماته روح السلام واحترام الحياة وروح الدعوة إلى الحوار واحترام الاختلاف وبناء عالم جديد عادل وخال من الكربون وقد أنهى الرئيس زيارته إلى الولايات المتحدة بالانضمام إلى مظاهرة شعبية في ساحة " تايمز سكوير "بنيويورك كانت تطالب بوقف الحرب على غزة طالب فيها الجيش الأمريكي بعدم توجيه بنادقه نحو الإنسانية وهذا أغضب الإدارة الأمريكية التي سحبت تأشيرة بقائه بالولايات المتحدة !...
بقلم: نبيل بن إبراهم