Print this page

امتحان بيزا وهجرة الطيور والتلاميذ

حملني فضولي ذات يوم إلى البحث عن نصوص امتحانات

بيزا وهو امتحان تنظمه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كل 3 سنوات لتلاميذ الدول الأعضاء و الذين أعمارهم 15 سنة .

تونس لها قصة سيئة مع هذا الاختبار فقد احتل تلميذنا في آخر مشاركة لنا والتي تعود إلى سنة 2016 المرتبة 65 من أصل 70 دولة ومنذ ذلك التاريخ لم نشارك في هذا الامتحان
الذي يتعلق بالمواد الأساسية وهي اللغة الأم والرياضيات والعلوم الطبيعية وتكون الأسئلة في شكل وضعيات غير مألوفة تقيس مدى قدرة التلميذ على التكيف وفهم معطيات مقدمة في شكل جداول إحصائية أو خرائط أو رسوم بيانية وفي هذا المجال أثبت التلميذ التونسي ضعفا بالنسبة لقرنائه في العالم .
وأنا أتصفح بعضا من نصوص الامتحان جذب انتباهي اختبار يتعلق بالعلوم الطبيعية وهو الذي أوحى إلى بفكرة هذا المقال :كان السؤال يتعلق بهجرة أحد الطيور وقد تم تقديم خريطتين لمسارات هجرته وكان المطلوب اختيار المعلومات الصحيحة من الخاطئة من بين عديد الاقتراحات وذلك من خلال تحليل صحيح للمعطيات الموجودة في الخريطتين.
أولا لا بد من الإشارة إلى أن هجرة الطيور لا يتم الإشارة إليها في أي سنة من سنوات التعليم الأساسي التسعة ولكن هذا لا يشكل عائقا جوهريا أمام الإجابة عن السؤال ولكن إذا لم تكن للتلميذ معلومات قليلة عن هذه الظاهرة الطبيعية وأهمها أن هجرة طائر هي في الحقيقة هجرتين في السنة, واحدة في فصل الربيع في اتجاه الشمال والثانية في أشهر الخريف وتكون في اتجاه الجنوب فانه على الأغلب سيتافجأ و ربما سيتساءل عن سبب وجود خريطتين بدل واحدة وعلى الأرجح سيعتقد بان السؤال لا يمكن الإجابة عليه بما انه ليس ضمن البرنامج الرسمي وهذا كله سيضيع عليه دقائق ثمينة ربما تمنعه من الإجابة الصحيحة عن السؤال .
أردت من خلال هذه المقدمة الطويلة أن أتناول موضوع أهمية انفتاح المؤسسة التربوية على محيطها الطبيعي والعام من خلال ظاهرة طبيعية تعيشها بلادنا كل سنة من الشمال إلى الجنوب ويمكن أن تكون منطلقا للتعريف ليس فقط بعالم الطيور الجذاب وإنما بكل الأوساط الطبيعية التي ترتادها خلال رحلة هجرتها الطويلة مثل الواحات الصحراوية والغابات والمناطق الرطبة ولكنها وللأسف تبقى مجهولة من قبل اغلب التلاميذ ...
وهنا تعود بي ذاكرتي إلى حادثتين تعودان إلى سنوات خلت, الأولى عندما نظمت جمعية أحباء الطيور العريقة مخيما لمتابعة الطيور المهاجرة في جبل الهوارية وقامت عبر وسائطها الإلكترونية بدعوة كل من لديه رغبة للتعرف على هذه الظاهرة بالقدوم ولكن لم يتجاوز عدد الحاضرين آنذاك عدد أصابع اليد الواحدة وهذا رغم جاذبية الإطار الطبيعي من جهة والظاهرة الطبيعية من جهة أخرى وأيضا التسهيلات التي وفرتها الجمعية .
لم يكن من بين القادمين تلاميذ ولا أساتذة علوم طبيعية ...
اما الحادثة الثانية وكان مسرحها جبل الهوارية كذلك وتتمثل في قدوم طالب دكتوراه صحبة خبير عصامي تكون في جمعية أحباء الطيور من اجل بحثه حول أحد الصقور المقيمة في الجبل و صادف قدومه ذروة هجرة الطيور في فصل الربيع .
اكتشفنا ان طاب الدكتوراه لا يعرف أي نوع من أنواع الطيور المهاجرة والأغرب انه لم يبدي اهتماما بمعرفة أي شيء يتعلق بالظاهرة الطبيعية التي تدخل نظريا في دائرة اختصاصه في حين كان رفيقه العصامي المتكون في جمعية أحباء الطيور والذي لم يتحصل على شهادة البكالوريا موسوعة في مجال العلوم الطبيعية وقد ساهم صحبة فرنسيين في نشر كتب علمية عن بعض نباتات وحشرات تونس هذا علاوة على إلمامه الأصلي بعالم الطيور .
يوفر المثالين أرضية لفهم احد أبرز نقائص تعليمنا وهو فقدان الرغبة في المعرفة خارج أسوار المؤسسة التربوية أو بالأحرى انغلاق المؤسسة التربوية على محيطها الخارجي ففي
مجال العلوم الطبيعية وأي مجال آخر لا يمكن للبرامج المدرسية أن تعطي كل شيء لان العلم هو بحر لا شاطئ له و بالتالي تكمن مهمة المدرسة الذكية والناجحة بالأساس في بث محبة المعرفة وليس إعطاء كل المعرفة وهنا أريد أن أعمم أكثر هذه الفكرة التي أرى إنها مهمة للغاية لأقول إن المدرسة الجديدة التي نريد تأسيسها يجب أن تفكر في إيجاد حلقات وصل قوية بينها وبين كل ما يوسع دائرة معارف التلميذ وهذا يشمل أشياء مثل المجلات العلمية العالمية كمجلة "ناسيونال جيوغرافيك " الأمريكية أو الأشرطة الوثائقية أو الانخراط إلى الأنشطة المختصة للجمعيات او مدن العلوم وغير ذلك مما أسميه الروافد الممتعة للتعليم ...
يتذكر القارئ من جيلي برنامج الدكتور مصطفى محمود" العلم والإيمان" الذي كانت تبثه في أواخر ثمانينات القرن الماضي قناتنا الوطنية الوحيدة بعد ظهر كل يوم جمعة والذي طبع آنذاك جيلا بأكمله لجمعه بين روح القصة وحلاوة الشريط الوثائقي.
مازلت أتذكر وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما تفاصيل كثير من الحلقات مثل تلك التي قام فيها الدكتور بتعريف الساعة البيولوجية الموجودة داخل كل إنسان أو الحلقة التي خصصها للمهندسين الذين كلفتهما إدارة الشركة العاملة في مجال الاتصالات الهاتفية التي يعملان لصالحها لمعرفة سبب التشويش الدائم على مكالمات الهاتف القار في احد المناطق .
بعد بحث طويل اكتشف المهندسان ان السبب المتبقي الوحيد هو صدى الذبذبات الكونية التي تعود أسبابها إلى نشأة الكون عبر الانفجار العظيم الذي وقع قبل مليارات السنوات وحملهما هذا الاكتشاف إلى نيل جائزة نوبل للفيزياء .
أتذكر في تلك الفترة أن لاعب كرة قدم غير متعلم وقع سؤاله عن أفضل برنامج تلفزي يقوم بمشاهدته فقال انه"العلم والإيمان".
وأنا أكتب هذا المقال فاني أتلقى دعوة لطيفة للتوجه إلى مدينة العلوم من اجل مشاهدة ظاهرة فلكية فريدة وهي خسوف كامل للقمر عبر التليسكوبات وهي تندرج في إطار برنامج قسم علم الفلك بمدينة العلوم والذي يواكب كل الظواهر الفلكية التي يمكن مشاهدتها من تونس وتقدم للعموم وللتلاميذ خاصة مداخلة نظرية شيقة قبل التوجه إلى المناظير.
وللعلم فان ظاهرة الخسوف الكلي للقمر تنشئ عندما يدخل القمر في ظل الأرض نتيجة لاستواء الشمس والأرض والقمر.
هذه أمثلة جميلة للتعلم خارج أسوار المدرسة ولكن حبذا لو يتوفر نادي فلك في كل معتمدية حتى تتاح مشاهدة مثل هذه الظواهر الكونية لأكبر عدد من التلاميذ والتي هي فرصة فريدة ومحببة للتعلق بالعلوم عبر شيء فطري هو" الانبهار"الذي يمكن أن نبني عليه فلسفة كاملة لتدريس العلوم ببلادنا ...

 بقلم: نبيل بن إبراهم 

 

 

 

 

المشاركة في هذا المقال