الذي يطمح إلى كسر الحصار على الشعب الفلسطيني من أجل التفكير في شكل جديد من أشكال المقاومة البحرية الذي يرتبط بإيتيقا تطبيقية رياضية للمقاومة. تبرز رياضة الاحتجاج والمقاومة البحرية في سياق التطورات المعاصرة للنضال الاجتماعي والسياسي من حيث هي شكل مبتكر من أشكال المقاومة التي تحول الفضاء المائي من مجرد مسرح للصراعات الجيوسياسية إلى منصة حية للتعبير عن المطالب السياسية والاجتماعية والبيئية. تستند هذه المقاربة إلى إرث تاريخي طويل من استخدام المساحات المائية كساحات للمواجهة والتحرر، حيث يجسد البحر رمزية عميقة للحرية والحدود والصمود، بينما يمثل في الوقت نفسه أرضية للنزاعات حول السيادة والموارد والهجرة.
تستلهم هذه الرياضة الاحتجاجية أسسها من أعمال أكاديمية رائدة مثل فيليب شتاينبرغ في "البناء الاجتماعي للمحيط" (Steinberg, P. E. 2001) الذي يشرح كيف يصبح البحر فضاءً للسيطرة والمقاومة، وإليزابيث دي لوفري في "الطرق والجذور" (DeLoughrey, E. 2017) التي تتناول مقاومة الشعوب الأصلية عبر الروايات البحرية. كما تبني على إرث هاري إدواردز في "تمرد الرياضي الأسود" (Edwards, H. 1969) الذي يربط بين الرياضة والاحتجاج، مع توسيع نطاقه ليشمل الفضاءات المائية. لقد طورت إليزابيث دي لوفري مفهوم "الملاحة كقصص" (navigation as storytelling)، حيث تظهر كيف أن رحلات الشعوب الأصلية عبر المحيط الهادئ لم تكن مجرد تنقلات جغرافية، بل كانت أشكالاً من المقاومة الثقافية وأن "الطرق" (routes) لا تلغي "الجذور" (roots)، بل تعيد تشكيلها بشكل ديناميكي. هذا التفاعل بين الحركة عبر الماء والانتماء إلى الأرض يوفر إطاراً نظرياً لفهم كيف يمكن للرياضات البحرية الاحتجاجية أن تكون وسيلة لاسترجاع الأرض وإعادة تأكيد الهوية والتضامن في مواجهة الحصار والقمع.
أما هاري إدواردز فقد ركز على بناء مفهوم "الجسد الرياضي من حيث هو وسيلة سياسية" وكيف استخدم الرياضيون السود أجسادهم وكفاءاتهم الرياضية كأدلة على المساواة وكأدوات للمطالبة بالحقوق. يصف إدواردز كيف تحولت الملاعب إلى "منصات احتجاج مرئية" حيث يمكن مواجهة العنصرية بشكل مباشر. هذا الإطار قابل للتطبيق مباشرة على الرياضات البحرية الاحتجاجية، حيث يصبح الجسد البشري في الماء أداة قوية للاحتجاج، مجسداً المقاومة الرمزية والسلمية.
تتخذ هذه المقاربة أشكالاً متعددة، من السباحات الاحتجاجية التي تتحدى الحدود السياسية، كما في حالة مناضلي أسطول الصمود الذين يسبحون ضد الحصار، إلى التجديف الاحتجاجي أمام المنشآت التي تهدد البيئة البحرية، والغطس الاحتجاجي لحماية الشعب المرجانية، والإبحار التضامني الذي يحمل المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة. في كل هذه الأشكال، يصبح الجسد البشري أداة للمقاومة، والماء وسيلة للكشف عن الاضطهاد البيئي والسياسي.
يمثل الفضاء المائي حالة وجودية فريدة تتجلى في تناقضه الجوهري بين الحرية والتحرر من ناحية والسيطرة والصراع من ناحية أخرى. هذا التناقض يتجسد في ثنائية اللامحدودية مقابل التحديد، حيث يحافظ الماء على طبيعته السائلة المتحركة التي لا تعترف بالحدود الثابتة، بينما تواصل القوى الجيوسياسية محاولات تقسيمه وتسييجه. كما يتجلى هذا التناقض في ثنائية الشفافية مقابل العمق، فبينما يظهر السطح شفافاً وقابلاً للملاحة، تبقى الأعماق غامضة وغير قابلة للسيطرة الكاملة.
يصف ميشيل دي سيرتو الماء كـ"لا مكان" يتحول إلى "مكان" من خلال الممارسات الاجتماعية، حيث تتحول المياه إلى "أقاليم بحرية" عبر آليات السيطرة الجيوسياسية كخطوط الملاحة الدولية ومناطق الصيد الحصرية والحدود البحرية المصطنعة. في المقابل، تعمل المقاومة كإعادة تأويل لهذه الفضاءات من خلال اختراق الحدود البحرية وإنشاء طرق بديلة وتحويل مناطق السيطرة إلى مسارح للاحتجاج.
تتخذ هذه المقاومة البحرية أشكالاً متعددة تترجم من التنظير إلى الممارسة الجسدية الوجودية. فسباحات الاحتجاج التي يتحدى بها المناضلون الحصار، كما يمكن أن يحدث في حالة أسطول الصمود تجاه غزة، ليست مجرد عبور مادي لحدود مصطنعة، بل هي انزياح جسدي-سياسي يفضح تناقض السيادة الحديثة. يصبح الجسد الهش والضعيف في مواجهة التيارات أقوى من الجيوش حين يحول خط الدفاع الحدودي إلى مسرح لإدانة أخلاقية. أما التجديف الاحتجاجي أمام المنشآت المهددة لكرامة الإنسان فيحول الفضاء المائي إلى محكمة كونية عائمة، حيث يترجم النشطاء القمع والحصار إلى صورة مرئية دراماتيكية: أجساد بشرية هشة في مراكب مهددة بقسوة البحار تتحدى آلات الاستعمار العملاقة.
وفي الغطس الاحتجاجي، يصبح الغواص ناطقاً باسم عالم صامت، مشكلاً ما يمكن تسميته "دبلوماسية الأعماق"، حيث يخلق تحالفاً وجودياً بين الجسد البشري والكائنات غير البشرية قائماً على الاعتراف بالتبعية المتبادلة والحق في الوجود. بينما يعيد الإبحار التضامني الحامل للمساعدات الإنسانية تعريف مفهومي "الحدود" و"التضامن"، مكرساً مبدأ "الحق في الحصول على المساعدة" كحق إنساني يتجاوز الشرعية السياسية للدول.
تتحول هذه الممارسات إلى "فنون أدائية سياسية" حيث يصبح الجسد البشري علامة سياسية من خلال تجسيده للضعف والمقاومة وأداة لكسر الحصار الرمزي والمادي. يصبح الماء شريكاً في المقاومة، حيث تعيق خصائصه الفيزيائية آليات السيطرة التقليدية وتفرض أشكالاً جديدة من التضامن وتحول المقاومة إلى عمل جماعي ضروري.
تعمل المقاومة البحرية على إعادة تعريف دلالات الفضاء المائي عبر الانزياح الدلالي، فتحوله من فضاء اقتصادي إلى فضاء أخلاقي، حيث تتحول مناطق الاستغلال الاقتصادي والسياسي إلى ساحات للمساءلة الأخلاقية ومساحات للتضامن الإنساني ومنصات للعدالة. كما تتحول الحدود البحرية من أدوات فصل واستبعاد إلى فرص للالتقاء والتضامن، فتصبح جسوراً تصل بدلاً من حدود تفصل.
تتجلى هذه المقاومة كشكل من "الإبداع الوجودي" الذي يعيد اختراع العلاقة مع الماء من خلال الممارسات السباحية الاحتجاجية وإعادة تأويل الرموز البحرية وخلق تقاليد مقاومة جديدة. كما يحول الضعف إلى قوة من خلال الاستفادة من هشاشة الجسد البشري في الماء وعدم قدرة أنظمة السيطرة على التكيف والقوة الرمزية للتضامن الإنساني.
تطرح المقاومة البحرية أسئلة ابستمولوجية عميقة حول معرفة المقموعين، حيث تظهر كيف تنتج الممارسات الاحتجاجية أشكالاً بديلة من المعرفة وخرائط مضادة للهيمنة وروايات مضادة للسيطرة. كما تؤكد جسدية المعرفة، فالمعرفة ليست مجردة بل متجسدة، والمقاومة تُعرف بالممارسة لا بالتنظير، والماء ليس وسيطاً محايداً بل فاعلاً أساسياً في إنتاج المعرفة والسياسة.
المهم أن الفضاء المائي ليس مجرد خلفية للصراعات الجيوسياسية، بل هو فاعل رئيسي في تشكيلها وإعادة تعريفها. من خلال تحويل الماء من "موضوع" للسيطرة إلى "شريك" في المقاومة، تعيد الحركات الاحتجاجية البحرية تعريف السياسة نفسها: من سياسة التملك إلى سياسة الانتماء، ومن منطق السيطرة إلى منطق العناية، ومن صراع على الموارد إلى نضال من أجل الاعتراف. هذا التحول يجعل من الفضاء المائي ليس مجرد مسرح للصراع، بل مختبراً حياً لإمكانيات جديدة للوجود المشترك والمقاومة الإبداعية، حيث تثبت الممارسات المائية أن الضعف البشري يمكن أن يتحول إلى اقتدار أخلاقي، وأن الحدود المصطنعة يمكن اختراقها بإرادة التضامن، وأن البيئة ليست مجرد موارد للاستغلال بل شريكاً في الوجود يستحق الحماية والاحترام.
لا تكتفي رياضة الاحتجاج البحرية بمجرد معارضة أنماط السيطرة القائمة، بل تهدف إلى تأسيس نموذج مقاومة جذري يعيد تعريف العلاقات الأساسية بين الجسد والماء والسلطة. فالجسد الرياضي هنا يتحول من أداة للإنجاز الفردي أو الترفيه إلى وسيلة للتغيير الاجتماعي، والماء ينتقل من كونه مجرد وسيط أو مساحة محايدة إلى شريك فاعل في فعل المقاومة. أما السلطة الإسرائيلية فتواجه تحدياً وجودياً، حيث تُختبر مشروعيتها ليس أمام القوة المضادة بل أمام هشاشة "جسدٍ سابحٍ" أو (سفينة متواضعة) تعري زيف حدودها وتجسد "اقتدار" الضعف الأخلاقي.
هذا التحول الجذري يفتح آفاقاً جديدة للبحث الفلسفي، فهو يستدعي إعادة النظر في المفهوم الهيغلي للصراع من أجل الاعتراف، حيث يصبح الاعتراف هنا ليس بين وعيين ذاتيين بل بين الجسد البشري والطبيعة والسلطة معاً. كما يطرح أسئلة أخلاقية عميقة حول مسؤوليتنا تجاه الآخر البشري وغير البشري، وعن إمكانية قيام إيتيقا كونية قائمة على التضامن العابر للحدود والأنواع. وفي الدراسات البيئية، يقدم هذا النموذج مقاربة وجودية تربط بين العدالة البيئية والعدالة الاجتماعية والسياسية والكونية... بشكل غير قابل للتجزئة.
الأهم من ذلك، أن هذه الممارسات تقدم إمكانيات لا محدودة للإبداع في أساليب النضال ، حيث تتحول الرياضة من نشاط تنافسي إلى أداء سياسي، ومن ممارسة فردية إلى فعل تضامني جماعي، ومن استعراض للقوة الجسدية إلى تجسيد للقوة الأخلاقية. إنها تثبت أن الإبداع في وسائل المقاومة يمكن أن يكون أكثر تأثيراً من العنف، وأن الضعف يمكن أن يكون مصدر قوة، وأن التضامن الإنساني يمكن أن يخترق أقسى الحصارات وأعتى الحواجز.
هكذا، لا تقدم رياضة الاحتجاج البحرية مجرد تكتيكات نضالية جديدة، بل تطرح رؤية بديلة للعالم، عالمٍ تُقاس فيه القوة بالعدالة لا بالعنف، وتُقاس فيه السيادة بالمسؤولية لا بالسيطرة، وتُقاس فيه الحدود بالتضامن لا بالفصل. إنها تجعل من الفضاء المائي مختبراً حياً لعلاقات إنسانية وبيئية جديدة، تقدم الأمل في إمكانية بناء عالم أكثر عدالة واستدامة، حيث تصبح المقاومة إبداعاً، والضعف قوة، والماء جسراً للتواصل لا حاجزاً للفصل بين الأفراد الذين يكونون الحشود.
بقلم: الجامعي نوفل حنفى