Print this page

كالقطّ يحكي هُرّةَ الأسد

 يُقال إنّ رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر

حين أُبلغت عام 1982 بأنّ الحكومة العسكرية في الأرجنتين قامت بغزو جزر الفوكلاند التابعة لبريطانيا، قالت فورًا: «سندخل الحرب حالًا!».

فقيل لها: «ألا نتقدّم أولًا بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي؟»

فأجابت بحزم: «استدعوا مجلس الحرب، أنا لستُ زعيمًا عربيًا يتسوّل حقوق بلاده!».

والمفارقة أنّ إسرائيل لا تكتفي بصراعاتها الإقليمية، بل جعلت من العالم كله مسرحًا لعملياتها. فبحسب تقارير وتحقيقات عديدة، نفّذت أجهزتها الأمنية وفرقها الخاصة عمليات في ما يقارب أربعين بلدًا، موزعة على القارات الخمس. وآخر ما أُشيع، استهدافها لقطر، يؤكد أنّ المسافة الجغرافية ولا غياب النزاعات المعلَنة يشكّلان حاجزًا أمامها.

لم تكن تلك استثناءً بل قاعدة: إذ طوّرت إسرائيل عقيدة متكاملة للعنف العابر للحدود، حيث لا سيادة، ولا حصانة دبلوماسية، ولا حياد يمكن أن يحمي من تعتبره عدوًّا.

ثم جاءت قمة الدوحة، فإذا بها تتمخّض لتلد فأرًا!

عندها، أسأل نفسي أحيانًا: كيف ننجو نحن العرب من الكآبة؟

ثم أبتسم ساخرًا وأقول: نحن لا ننجو منها أصلًا، بل نصنعها، ونستهلكها، ثم نوزّعها في أسواق الكلام.

قالوا لنا قديمًا: «بلاد العرب أوطاني». صدّقنا الأغنية ونحن صغار، وردّدناها في المدارس كما يُردَّد النشيد الوطني. لكنّنا كبرنا قليلًا فاكتشفنا أنّ الأوطان ليست لنا. الوطن ملكٌ للشرطة التي تمنحك رخصة التنفس، وللمخابرات التي تعرف لون جواربك، وللعسكر الذي يتعامل معك كمشروع جثة. أما نحن، فلسنا سوى نزلاء مؤقتين في حضيرةٍ واسعة اسمها «الأمّة».

ما معنى أن تكون عربيًا اليوم؟

أن تكون مثل مشتركٍ في خدمة هاتف نقال: كل فاتورة تذكّرك أنّك تدفع ثمن ما لا تستعمل. تدفع ثمن العروبة في الخطب والقصائد، لكنك تحتاج إلى تأشيرة للسفر إلى بلد عربي. تُعامل كلاجئ في مطار شقيق، ويُنظر إليك كجاسوس محتمل في عاصمةٍ رفعت يومًا شعار الوحدة.

أن يكون أخوك العربي أوّل من يبيعك، وأوّل من يعتقلك، وأوّل من يشمت بك إن انهزمت.

نحن لسنا إخوة، بل غرباء يجمعهم تاريخ طويل من الصراخ المشترك، ليتفرّقوا عند أول نقطة حدودية. أقسم أنّ الجمارك العربية أكثر إبداعًا من أي شاعر جاهلي: فقد نجحوا في تحويل الوطن الواحد إلى شقق مفروشة، لكل شقةٍ حارسٌ وبوّابٌ وكاميرات، ولا حق لك بدخولها إلا إذا أثبتّ أنّك لا تمثل خطرًا على المستأجرين.

أتدري ما الفارق بين العربي في بلده والعربي في بلدٍ عربي آخر؟

في بلده متَّهَم، وفي البلد الآخر مُشتبَه فيه.

لكن لا نبالغ في جلد الذات: نحن أيضًا شعب كريم… كريم في جهله، في خضوعه، في انبطاحه. رضعنا من ثدي الأمّية المقدّسة، وفُطمنا على حليب الطاعة. نشأنا على مقولاتٍ من قبيل: «الحاكم أدرى»، و«الشرطة أبونا الروحي»، و«الحدود قدرٌ إلهي».

حتى صار الخوف جزءًا من شخصيتنا: لا نخاف الضياع لأننا تائهون أصلًا، ولا نخاف القمع لأنه صار قريننا، بل نخاف فقط من الحلم. لأنّ الحلم أكبر جريمة في بلاد العرب.

نعيش فوق قارةٍ كاملة لكنها أضيق من زنزانة حين يتعلق الأمر بحرية الفكر. نملك أنهارًا من النفط، لكنها لا تسقي عطش الحرية. نملك صحارى ممتدّة، لكنها أرحم من المدن التي تُحكم بالهراوة والكاميرا.

نحن العرب كالقطيع المدلّل عند راعٍ قاسٍ: يطعمنا القليل ليجعلنا ننتظر المزيد، يسقينا الوهم، ويجلدنا بعصاه إن فكّرنا بالهرب، بل يمنعنا حتى من النباح.

أتدري لماذا؟

لأنه يعلم أنّنا إن توقفنا عن النباح، سندرك فجأة أنّنا لسنا كلابًا بل بشرًا. وهذه أخطر لحظة على أي حاكم عربي: لحظة الوعي.

لكننا لا نقترب منها أبدًا. نحب قيودنا كما يحب الطفل دميته. نغضب قليلًا من الظلم، ثم نعود إلى حياتنا كأن شيئًا لم يكن. تُقصف غزة فنغضب يومين، ثم ننشغل بكرة القدم. يُقتل المئات في اليمن أو السودان، فنلعن الفضائيات يومًا ثم نبحث عن مسلسل جديد.

أتدري ماذا سيقول التاريخ عن العرب؟

سيقول إنهم كانوا أكبر أمة تجتمع على أغنية، وتفترق على حدود. سيقول إنهم عرفوا كل أشكال الوحدة: وحدة شعارات، وحدة قمم، وحدة بيانات ختامية، لكنهم لم يعرفوا أبدًا وحدة شعوب. سيقول إنهم أنجبوا خطباء أكثر من أي أمة أخرى، لكنهم لم ينجبوا قائدًا واحدًا يجرؤ على مواجهة الحقيقة.

فلتبقَ بلاد العرب أوطاني… أوطانًا للسلطة، أوطانًا للمخابرات، أوطانًا للهيبة المصطنعة. أما نحن، فسنظل مجرّد رعيّة سمينة، تنتظر عصا الراعي لتحدّد لها اتجاه السير.

وإلى أن يحين ذلك الحين… سيبقى القطّ يحكي هُرّةَ الأسد.

المشاركة في هذا المقال