يوم 12 أوت من طرف خليط من العناصر المحسوبة على مسار 25 جويلية وبمباركة رأس السلطة موجة من الاستياء العام، بعد حملة تصعيد غير أخلاقية في شبكات التواصل الاجتماعي. وان كنا لا نعلم الى حد الآن هل أن الهدف هو اضعاف القيادة الحالية فقط أو استبدالها بقيادة طيعة أو تفكيك الاتحاد، الا أن الأزمة الحالية تتجاوز بكثير مسألة التفرغ النقابي وخصم الأجور. ينبغي أن نضع هذه الهجمة الثالثة في سياق علاقة الاتحاد مع الدولة. علاقة انتماء-اقصاء. فهو كجسم وسيط جزء من المجتمع ومن الدولة بمفهومها الواسع كما سنراه لاحقا. لذلك أي مساس به هو أمر خطير ينبأ بتفكك الدولة، نشجبه بشدة. لقد كانت الهجمة الأولى (1978) في اطار دولة المهنية المستحدثة ((néo-corporatisme أي الدولة التي تمنح للمنظمات الفئوية أو المهنية احتكار تمثيلية القطاع، مقابل الولاء أو مساندة النظام القائم التسلطي. مع مزيج من الاستقلالية والمراقبة اللصيقة. وفي حالة أزمة تستبدل قيادات المنظمات. أما الهجمة الثانية (2012) فكانت في سياق أيديولوجية دينية نشأت معادية للنقابات، قبل التراجع والمراجعات. أما الهجمة الحالية، فتندرج ضمن سياسة شعبوية معادية للأجسام الوسيطة لتغلق قوس التحول الديمقراطي. وفي المقابل لم تتغير سياسة الاتحاد في لعب الدور المزدوج (السياسي والاجتماعي) الموروث وسياسة المد والزجر في العلاقة بالملف الاجتماعي. لم تعي بانها انتقلت بموجب الثورة التي ساهمت بقسط كبير فيها من الدولة التسلطية المبنية على المهنية المستحدثة أو الفئوية الجديدة الى الدولة التعددية بما فيها النقابية والتعدية السياسية للأحزاب. وما الشعبوية الا أحد تعبيرات أزمة الديمقراطية. كان من المفترض أخذها بعين الاعتبار بإعادة النظر في الدور المزدوج للاتحاد وفي علاقته بالدولة . ولكن لم يحصل شيئا من هذا. وبقطع النظر عن الأهداف المعلنة والخفية للسلطة، يتعين أن نطرح بالسؤال: هل ما يحدث الآن هو فك الارتباط النهائي بين الدولة والاتحاد؟ وهل هي نهاية المهنية المستحدثة؟
الاتحاد، من الكتلة التاريخية الى دولة المهنية المستحدثة
لعب الاتحاد العام التونسي للشغل دورا محوريا مزدوجا (نقابي وسياسي) من الحركة الوطنية الى بناء الدولة الوطنية. كان الاتحاد زمن الاستعمار طرفا في ما يسميه أنطونيو قرامشي «الكتلة التاريخية» ( bloc historique ) والذي كان متكون من قوى اجتماعية منضوية تحت منظمات مهنية أو الهيئات الوسيطة أهمها الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (1948) والاتحاد العام للفلاحة التونسية (1949) و الاتحاد العام للطلبة التونسيين (1952). ورجعت تاريخيا الهيمنة أي «القيادة الفكرية والأخلاقية» (la direction intellectuelle et morale ) بمفهوم قرامشسي أو الهيمنة بمفهوم ماكس فيبراي أي الانخراط الطوعي لقيادة آمرة1 --- رجعت الى الحزب الحر الدستوري لأن الحزب السياسي له تصور أشمل من المنظمات المهنية حتى وان لعبت دورا سياسيا. ما حدث مع الاستقلال هو المرور من الكتلة التاريخية الى دولة المهنية المستحدثة أو الفئوية المصلحية (néo-corporatisme). كيف ذلك؟ ما يميز تونس خلافا للبلدان العربية هو أن القيادة الفكرية أو الهيمنة كانت لبرجوازية صغيرة مستنيرة، مدنية (لا عسكرية) حضرية (لا ريفية) علمانية (لا دينية) حداثية (لا تقليدية). قامت هذه النخبة بالتحديث من الفوق بمشاركة نشيطة للقوى من التحت (من داخل المجتمع) بما فيها الأطراف المهنية وخاصة اتحاد الشغل. فهي صاحبة سهم. لذلك يمكن نعت الدولة التونسية في الستينيات بأنها دولة قوية. لم يكن العنف مصدر القوة بالرغم من أن الدولة تسلطية بل القدرة على نحت المجتمع وتغييره. ويقال لها «دولة عضوية» ((Etat organique. وتقاس قوة الدولة العضوية بقدرتها «على النفاذ في المجتمع»2 . هذا ما وقع بالفعل بنجاح في اطار دولة عضوية ولكن تسلطية. هنا يطرح السؤال: مذا ستفعل التسلطية باتحادات الكتلة التاريخية ؟ الحل: مؤسسة الدولة المهنية المستحدثة.
حافظت دولة الاستقلال على هيئات الكتلة التاريخية ولكن بتحويلها الى هياكل مهنية مستحدثة (منظمات الشغالين والأعراف والفلاحة والصناعة والطلبة) بإضافة الاتحاد النسائي. وبأكثر دقة، هو نظام تمثيل مصالح يمنح فيه لعدد محدود من المنظمات «احتكار التمثيل» باعتراف الدولة قانونا أو هيكليا مقابل مراقبة نسبية للقيادات بما فيه الولاء أو المساندة . في الأصل يرجع مفهوم الدولة المهنية المستحدثة الى مفهوم هيقل للمجتمع المدني كمجتمع الهيئات الوسيطة التمثيلية (corporations) ما بين العائلة والدولة. وتلقف المفهوم علماء السياسية لتطبيقه مجددا على النظم التسلطية العسكرية في أمريكا اللاتينية سبعينات القرن الماضي. حاول بعض البحاثة تطبيق هذا النموذج على تونس زمن بن علي مع فوارق بطول شرحها أهمها الطابع المدني للتسلطية قبل 2011.
ثلاث جدليات
ما يميز النظام التسلطي-المهني المستحدث (autoritarisme néo-corporatiste ) هو ثلاث جدليات : – احتكار التمثيلية مقابل المساندة – الانتساب المزدوج للهيئات المهنية للمجتمع وللدولة – علاقة حوار صراع عبر المفاوضات والإضرابات. طغت هذه الجدليات الثلاث على علاقة الدولة بالاتحاد في المرحلتين، 1956-2011 و2001 الى الآن. في ما يخص الجدلية الأولى (احتكار مقابل مساندة) والى حدود 2011 منعت الدولة التسلطية أو عطلت تكوين أو نشاط أي منظمة عامة تنافس الاتحاد (أو غيرها من المنظمات)، وحتى الانقلابات الداخلية التي حركتها السلطة كانت تسطوا على القيادات أو تغذي الخلافات بينها. في المقابل ساند الاتحاد بورقيبة ضد بن يوسف (مؤتمر صفاقس) وسياسات الحزب الدستوري وانقلاب بن علي وترشحه أو الصمت في المناسبات المحرجة...
أما في ما يخص الجدلية الثانية (الانتساب المزدوج للمجتمع والدولة) فهنالك غموض متأتي من أن نظام الحكم في الدول التسلطية يتماها مع الدولة ذاتها. ذلك أن الاتحاد شارك في المجلس القومي التأسيسي وفي نحت السياسة الاجتماعية في الستينيات ولم يخرج حبيب عاشور من الحزب الدستوري الا في 1978 وكان كبن صالح والتليلي طرفا في الحكم. ولكن الدولة شيء آخر. ولو أردنا دليل لأدلينا بالوضع الخاص للاتحاد في تصور النخب التأسيسية. ذلك أن الاتحاد لا يخضع لقانون الجمعيات ولا المنشئات. وتتكفل الدولة بخصم معلوم الاشتراكات لصالح الاتحاد وتصادق على التفرغ النقابي. فالاتحاد جزء من الدولة لأن الدولة جزء من المجتمع حتى وان بدت خارجة عنه. فالدولة-مجتمع تبدأ بالأجهزة الصلبة وتنتهي بعناوين الأنهج خلافا للتصور الضيق الذي يختزل الدولة في أجهزة بيروقراطية. ثم لنفترض أن الاتحاد ليس جزءا من الدولة فالدولة لها واجب الحياد وتوفير شروط عمل المؤسسات بوضع الاطار القانوني وللخدمات والتسهيلات للهيئات. لأنها الدولة، مؤسسة المؤسسات. وبالتالي يشكل التلويح بوضع حد للخصم الألي من طرف الدولة خلط بين الدولة والسلطة ورأس الدولة (الدولة-سلطة-فرد). أما الجديلة الثالثة (حوار حلاف) فهي معادلة صعبة بين مصلحة الفئات المهنية والمصلحة العامة. واذا عيب على الاتحاد الاكثار من للإضرابات التي تشلّ المرفق العام فان السلطة تستسهل القمع والسطو.
أن الأزمة الحقيقية للمهنية المستحدثة بدأت في 2011. لقد أخرجت الثورة مبدئيا الاتحاد من احتكار التمثيلية ومن منطق الولاء المكره أو المساندة النقدية. لقد انحاز بنفسه للثورة ضد نظام الحكم. ولعب دورا أساسيا في اخراج البلاد من الأزمة السياسية في 2013 كطرف تحكيم في النزاع بين التريوكا وخصومها. ما يعاب عليه أنه لم يستنتج كل الدروس من نهاية المهنية المستحدثة المرتبطة تاريخيا بالمنظومة التسلطية. واصل كأن شيئا لم يكن في لعب أدواره التقليدية، وبنفس الطريقة يساند السلطة اليوم ويعاديها الغد (ساند 25 جويلية ثم تراجع، كما كان ذلك مع انقلاب 7 نوفمبر...) يتفاوض اليوم ويضرب غدا.. فلم يعي بمعادات الشعبوية للأجسام الوسيطة. بل هنالك في صفوفه من يفضلها على المعارضة. لذلك فشل الحوار السياسي الذي نظمه الاتحاد لانقسامه بين من يعاضد السلطة ومن يعارضها. وتوّرم دوره بعد 2011 أكثر من اللزوم. ينتظر منه الجميع أن بأخذ موقفا في كل صغيرة وكبيرة. ولا يغضب الحلفاء والروادف داخله والرأي العام الديمقراطي، والسلطة الرقيبة بالمرصاد. فلا يرضي أحدا. والكل يسمح لنفسه محاسبة الاتحاد. وأيضا بقي ملجأ وغطاء للمعارضة خاصة العقائدية منها في حين أن الثورة فتحت العمل السياسي الحر للجميع. كما لم تناقش مواقفه من الخيارات والقضايا الاقتصادية منذ الثمانيات وبقيت جامدة منتصبة بالاءات (لا لكذا) والمشروطية (نعم شريطة). فالقضية تتجاوز إيجاد حل تقني وضرفي للخصم من طرف المؤسسات الحكومية. ما هو ثابت أن الاتحاد عنصر توازن في المجتمع. وينبغي أن تعي السلطة أن تفكيكه هو بداية تفتت الدولة بيزيديها. في المقابل، يقتضي الأمر من طرف الأتحاد فتح حوار حول دوره المزدوج وحول جدوى فك الارتباط مع الحكم-دولة من عدمه. لكي لا يبقى أسير الوضع الراهن ورهين المهنية المستحدثة.
-----------
1 - تطرقنا بصفة ضافية للموضوع في الكتاب الجماعي تحت اشراف محمد السحيمي مسؤول قسم الدراسات والتوثيق :
Hamadi Redisi, Etat fort, société civile faible, in Démocratie, Développement et dialogue social, Tunis, Publications de l’UGTT, 2006.
2 - Joel Migdal, Strong Societies and Weak States. State-Society Relations and State Capabilities in the Third World, Princeton, Princeton University Press, 1988, p. 4.
3 - Philippe Schmitter, « Still the Century of Corporatism ? », dans F. Pike et Th. Stritch, The New Corporatism. Social
and Political Structures in the Iberian World, Notre Dame, University of Notre Dame Press, 1974, p. 93-94.