الحسين بوزيان بقفصة حادثة معزولة أو خطأً فردياً. فتح تحقيق قضائي وآخر إداري قد يُرضي الإجراءات الرسمية، لكنه لا يُرضي ضمير مجتمع بأكمله بدأ يتطبع مع المأساة. هذه الوفاة المؤلمة لم تكن سوى مرآة لواقع صحي منهك، غير عادل، وغير متكافئ.
منلايملكالمال… لايُعالج
في تونس 2025، تحوّل العلاج إلى امتياز لا حق. إذ يدفع المواطن من جيبه أكثر من 38% من كلفة العلاج، وهي من أعلى النسب في المنطقة. هذا العبء لا يعني فقط التخلّي عن الدواء أو التحاليل، بل في أحيان كثيرة التخلّي عن الحق في الحياة ذاته. الفقر أصبح قاتلاً صامتاً، لا يفتك بالجسد فحسب، بل يحرم صاحبه حتى من فرصة الشفاء.
الجهاتالداخلية:خريطةلتمييزصحيصارخ
قفصة، القيروان، جندوبة، سيدي بوزيد… مدن بأكملها تحوّلت إلى مناطق خطر صحي. مستشفيات بلا تجهيزات، أطباء تحت ضغط، نساء يلدن في سيارات الأجرة، ومرضى ينتظرون دون إنعاش أو إسعاف. وما يُوصف بـ”الخلل الإداري” ليس سوى تغطية على خلل هيكلي، تاريخي، ومتواصل.
المؤشراتلاتكذب:الظلمبالأرقام
معدلات وفيات الأمهات، تفاوت متوسطات الأمل في الحياة، وصعوبة النفاذ إلى الرعاية الطبية… كلها مؤشرات تكشف عمق اللاعدالة الاجتماعية والمجالية في تونس. هذه الأرقام ليست تقنية ولا محايدة، بل تعبّر عن نظام يُنتج التمييز ويفرضه، حيث لا يُعامل المواطنون على قدم المساواة، فقط لأنهم وُلدوا في مكان أو طبقة دون أخرى.
الصحةحقلاشعار
رغم كثرة التصريحات عن “الحق المقدس في الصحة”، لم تتم ترجمته فعلياً في السياسات العامة. ميزانية وزارة الصحة لا تتجاوز 5.4% من الميزانية العامة للدولة، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بنسبة لا تقل عن 12%. في غياب الإرادة السياسية، وتفشي الفساد، وانعدام التخطيط، تزداد الهوة بين الخطاب والواقع.
الصحةليستالعلاجفقط… بلمشروعمجتمعي
لقد نسينا الصحة وركّزنا فقط على العلاج. المنظومة الحالية تقوم على التدخل بعد وقوع المرض، وهي مقاربة مكلفة وغير فعالة، نابعة من منطق تسليع الصحة وتحويلها إلى خدمة تجارية. أما الصحة، فهي رؤية شاملة وطويلة المدى، تتعلق بالوقاية، والتغذية، والبيئة، والعدالة الاجتماعية.
العلاج ضرورة لحظة، أما الصحة فهي حماية دائمة.
العلاج عبء مالي، أما الصحة فهي استثمار في الإنسان والوطن.
العلاج يُنقذ، لكن الصحة تُجنّب.
مسارالعلاج:الحلقةالمنسيةفيالإصلاح
أحد أسباب المآسي المتكررة هو غياب تنظيم واضح لمسار العلاج، وترك المريض يتنقل عشوائياً بين المؤسسات دون توجيه أو مرافقة. إعادة هيكلة هذا المسار وتحديد نقاط الدخول، التصفية، والمتابعة، أمر ضروري لتجنّب ضياع الوقت وإنقاذ الأرواح.الصحة ليست فقط تجهيزات، بل تنظيم عقلاني وإنساني وعادل للمسارات العلاجية.
منظومتانفيبلدواحد؟ هذالايُبنىعليهوطن
لا يمكن بناء مجتمع عادل على أساس منظومتين صحيتين: واحدة للفقراء في مستشفيات عمومية متهالكة، وأخرى للأغنياء في مصحات خاصة متقدمة.الصحة ليست سوقاً، بل مرفق عام، وحق جماعي، وثروة وطنية.
ولا يمكن أن يوجد في بلد واحد سوى منظومة صحية واحدة، موحّدة، يتساوى فيها الجميع في الحق في الوقاية والعلاج، دون تمييز جغرافي أو طبقي.
الدفععندالمرضهوظلممقنن
النظام القائم اليوم يُجبر المواطن على الدفع عند الحاجة، وهو منطق مجحف. يجب أن يكون الدفع المسبق (prépaiement) هو القاعدة، عبر تأمين صحي موحّد وشامل، لأن المرض لا يُخطَّط له، ولا أحد يختار توقيته أو كلفته. فرض تكلفة العلاج على المريض في لحظة ضعفه هو تحميله مسؤولية لا يستطيع تحمّلها.
جائحة كوفيد-19 : لمتخلقالأزمة… بلعرّتها
خلال جائحة كوفيد-19، دفع آلاف التونسيين ثمن العلاج من مدخراتهم، أو استدانوا، أو باعوا ممتلكاتهم، وسقطت العديد من العائلات في الفقر. هذه المأساة لم تكن استثناءً، بل كشفت ما كان قائماً قبلها ويستمر بعدها.
كوفيد لم يخلق الأزمة… بل عرّى هشاشة النظام، وعمّق وعي الناس بمدى خطورته.
حتى اليوم، لا يزال المواطن رهينة بين مستشفيات عمومية مفقّرة، وسوق دواء مرتبك، ومصحات خاصة لا ترحم.
الوقتليسللترقيع… بلللتغييرالجذري
الإصلاح لا يكون بلجان مؤقتة أو بإقالات شكلية، بل يتطلب إرادة سياسية حقيقية ومساراً شاملاً يشمل:
• تفعيل التغطية الصحية الشاملة والفعلية لكل المواطنين
• اعتماد سياسات وقائية قائمة على التوعية والعدل الصحي
• إعادة بناء الثقة في القطاع العمومي وتحسين خدماته
• وضع تمويل عادل ومستدام للقطاع الصحي
• بناء نظام وطني للبيانات الصحية، ودعم البحث الطبي
• إعادة هيكلة مسار العلاج وضمان وضوحه وإنسانيته
حينتغيبالدولة، يحضرالظلم
إذا كان هناك مجال يجب أن تستعيد فيه الدولة سلطتها وقيادتها، فهو الصحة. لا مكان فيه للتردد أو التساهل.
الصحة مسؤولية سيادية بامتياز، والدولة التي لا تتحكم في نظامها الصحي، لا تتحكم في مستقبل شعبها.
الصحة حق لا امتياز. وهي مسؤولية دولة، لا فضل منها.
الصحة ليست مجرد خدمة طبية، بل ركيزة من ركائز العدالة الاجتماعية، ومؤشر سيادي لمدى احترام الدولة لحقوق مواطنيها.من لا يضمن هذا الحق، لا يحق له التحدث باسم الدولة أو الكرامة أو السيادة.
تغيير النموذج الصحي ليس ترفاً فكرياً… بل مشروع وطني جامع يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة.