Print this page

العالم في حالة اضطراب: قراءات نقدية للفوضى العالمية

 

"العالم يعيش في فوضى" تكتسب طابع الحكمة الجماعية. إنها فوضى متعددة الوجوه: حروب مفتوحة في أوكرانيا وغزة والسودان وبين إيران وإسرائيل، وتوترات كامنة في تايوان وبحر الصين الجنوبي وكوسوفو، إلى جانب تحالفات تفتقر للبوصلة، وقانون دولي ممزق، ومؤسسات متعددة الأطراف مشلولة.
وفي خضم هذا الواقع المضطرب، وسط هذا المشهد، تنهار اليقينيات وتتآكل السرديات الكبرى، ويبدو التاريخ نفسه وكأنه يُكتب بلا معنى أو اتجاه واضح. فالأنظمة التي اعتدنا عليها تتزعزع، والقواعد التي كانت تحكم التفاعلات الدولية تفقد بريقها يوماً بعد يوم.
غير أن السؤال الجوهري يبقى معلقاً: ما المقصود حقاً بهذه "الفوضى"؟ هل نصف بها واقعاً قائماً، أم نعبر عن عجزنا عن الفهم؟ هل هي حالة موضوعية، أم علامة على إخفاق العقل في فك شيفرة عالم جديد تُفلت مفاتيحه من أيدينا؟
من هنا، تبرز الحاجة الملحة لتجاوز الانطباعات السطحية والغوص في أعماق هذه الظاهرة. لفهم ما يجري، لا يكفي التوقف عند ظاهر الأمور، بل يجب ربط التحليل النظري بالقراءة الجيوسياسية الملموسة، وإعادة مساءلة تصوراتنا للعالم. فالعالم اليوم أشبه بمتاهة معقدة تتطلب خرائط جديدة للتنقل فيها.
أولاً: الفوضى بين الاضطراب الظاهري والنظام الخفي
لنبدأ بإعادة النظر في مفهوم الفوضى ذاته. في العلوم الطبيعية، الفوضى لا تعني انعداماً كاملاً للنظام، بل تصف أنظمة تتبع قوانين محددة ولكنها حساسة جداً للتغيرات الطفيفة، مما يجعل من المستحيل التنبؤ بسلوكها على المدى الطويل.
وإذا طبقنا هذا المفهوم العلمي على العلاقات الدولية، نجد أنفسنا أمام منظور مختلف تماماً. فإن ما يُسمى بالفوضى قد لا يكون سوى خلل ناتج عن تراكب أنماط متعددة من التفاعلات والصراعات لا تخضع لمنطق ثنائي، بل تعكس توازنات متداخلة ومنظومات متنافرة تتصارع ضمن إطار واحد.
وهنا تكمن المفارقة الكبرى: بعبارة أخرى، العالم ليس بلا منطق، بل يعجّ بمنطقيات متضاربة تتنافس فيما بينها وتخلق ما يبدو للوهلة الأولى كأنه فوضى عارمة. إننا نشهد تصادم حضارات وثقافات ومصالح، كل منها يحمل منطقه الخاص ونظرته للعالم، مما يخلق هذا الانطباع بالعشوائية والارتباك.
ثانياً: ثلاث فرضيات لفهم اضطراب النظام العالمي
في مواجهة هذا التعقيد المتنامي، وفي ظل تزايد بؤر التوتر وتراجع فعالية الأطر الدولية، يمكن طرح ثلاث فرضيات لفهم ما يبدو وكأنه فوضى شاملة. هذه الفرضيات لا تتنافس بل تتكامل لتشكيل رؤية أعمق وأشمل للواقع المعاصر.
1. التفكير الثنائي عاجز عن استيعاب الواقع
تنطلق الفرضية الأولى من فحص دقيق لطريقة تفكيرنا وتحليلنا للأحداث الجارية. لا يزال كثيرون يقرؤون العالم من خلال ثنائيات القرن العشرين: شرق/غرب، شمال/جنوب، ديمقراطية/ديكتاتورية. غير أن هذه التصنيفات الجامدة باتت عاجزة عن احتواء التحولات الجارية وفهم تعقيداتها.
ولعل المثال الأبرز على هذا التعقيد هو مجموعة البريكس: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، إضافة إلى دول جديدة انضمت مؤخراً مثل إيران ومصر والإمارات. هذه المجموعة ليست تكتلاً أيديولوجياً موحداً، بل تجمعاً استراتيجياً براغماتياً يطمح إلى إعادة رسم موازين القوة الدولية خارج الإطار الغربي، دون تقديم بديل واضح أو مشروع متماسك.
وهنا تبرز المفارقة الحقيقية: أعضاؤها يعارضون الهيمنة الأميركية لكنهم يتعاملون مع واشنطن اقتصادياً، يتشاركون الرفض لكن لا يوحدهم مشروع واضح المعالم. هذا النوع من التحالفات الهجينة يعكس طبيعة العصر الذي نعيشه.
إن هذا الالتباس والغموض لم يعد استثناءً بل أصبح القاعدة التي تحكم السياسة الدولية المعاصرة. تركيا العضو في حلف الناتو تشتري الأسلحة من روسيا وتتعامل مع إيران، والهند تتعامل مع جميع القوى الكبرى دون التزام بمعسكر واحد رغم الضغوط الأميركية والصينية المتزايدة. حتى إسرائيل تحافظ على علاقات سرية مع دول عربية رسمياً معادية لها.
في هذا السياق المتشابك، نجد أن الحدود الأيديولوجية تلاشت لتحل محلها منافع متقلبة ومصالح متقاطعة. هذا الغموض المتعمد والمرونة الاستراتيجية هما ما يغذيان الإحساس بالفوضى لدى المراقبين والمحللين.
2. فوضى مضخمة بفعل فرط المعلومات
أما الفرضية الثانية فتتجه نحو تحليل دور الإعلام والتكنولوجيا في تشكيل إدراكنا للواقع. ترى هذه الفرضية أن الفوضى قد تكون إدراكاً أكثر منها واقعاً موضوعياً. فعبر التاريخ الطويل للبشرية، عرفت الحضارات مراحل أعنف وأكثر دموية من الحاضر: الحروب النابليونية والحروب العالمية والحقبة الاستعمارية والحرب الباردة، جميعها شهدت مستويات من العنف والدمار تفوق ما نعيشه اليوم.
لكن ما يميز زمننا المعاصر هو ثورة المعلومات وتضخمها وسرعة انتشارها بشكل لم تشهده البشرية من قبل. كل حدث محلي يُبث عالمياً في لحظات، وكل أزمة تُضخم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخوارزميات الخوف والإثارة التي تحكم المنصات الرقمية. العالم لا يبدو بالضرورة أكثر عنفاً، بل أكثر وضوحاً وتكشفاً وسرعة في نقل الأحداث، وهذا ما يجعله أكثر إثارة للقلق والتوتر.
في المقابل، فإن هذه الشفافية الكثيفة والضوضاء الإعلامية تحجب أيضاً مسارات عميقة وتحولات هيكلية تمر دون ضجيج إعلامي كبير: تحولات الطاقة والثورة في مصادر الطاقة المتجددة، والانفجارات الديموغرافية في أفريقيا وآسيا، والقفزات التكنولوجية في الذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا، وصعود الاقتصادات الناشئة في الجنوب العالمي، وهي قضايا استراتيجية قلما تحظى بالاهتمام الإعلامي المناسب خارج النخب المتخصصة والدوائر الأكاديمية.
3. تفكك القانون الدولي وتعطل المؤسسات
أما الفرضية الثالثة فتركز على البُعد الهيكلي والمؤسسي للأزمة المعاصرة: الفوضى ليست مجرد شعور أو انطباع بل واقع ملموس ناتج عن تصدع القواعد التي كانت تنظم العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
القانون الدولي الذي كان يشكل المرجعية الأساسية للعلاقات بين الدول لم يعد يحظى بالاحترام والالتزام المطلوبين، بل فقد كثيراً من فاعليته وقدرته على ردع المخالفين. الغزو الروسي لأوكرانيا وضم الأراضي بالقوة، والقصف المتكرر لغزة وانتهاك القانون الإنساني الدولي، والحرب المفتوحة بين إيران وإسرائيل، والتدخلات العسكرية المتكررة في القارة الأفريقية، والعقوبات الأحادية التي تفرضها القوى الكبرى، والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان في مناطق مختلفة من العالم، كلها تتم دون مساءلة فعلية أو عواقب رادعة.
في السياق نفسه، نجد أن المؤسسات الدولية التي كانت تشكل عمود النظام العالمي - مجلس الأمن الدولي والمحكمة الجنائية الدولية ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي - فهي إما مشلولة بفعل التنافس بين القوى الكبرى أو خاضعة للتوظيف السياسي المباشر من قبل الدول المهيمنة.
وما يزيد الأمر تعقيداً أن حتى القوى الغربية التي كانت تدعي حماية النظام الليبرالي الدولي والدفاع عن قيمه أصبحت مرتبكة أو منعزلة في مواقفها. الولايات المتحدة تحت رئاسة دونالد ترامب تعمق نهجها الانعزالي والحمائي لكنها لا تتخلى عن تدخلات موضعية عند الحاجة لحماية مصالحها الحيوية. أما أوروبا فهي منقسمة ومثقلة بتناقضاتها الداخلية وأزماتها الاقتصادية، تكافح لإثبات نفسها كفاعل دولي موثوق وقادر على التأثير في مجرى الأحداث.
هنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: فهل نحن أمام أفول نهائي للدور الأوروبي في الشؤون الدولية؟ أم أمام تحول بطيء نحو موقف أكثر واقعية وبراغماتية يتمحور حول المصالح الحيوية أكثر من القيم المعلنة؟
في مقابل هذا التراجع والتشتت في المعسكر الغربي، تصعد قوى أخرى بثبات ووضوح في الرؤية. الصين تواصل بناء منظومة اقتصادية موازية عبر مشروع "الحزام والطريق" الطموح وتُبرز قوتها المتنامية في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ. روسيا رغم تورطها في معارك مكلفة وخسائر اقتصادية توسع دوائر نفوذها الاستراتيجي بالتعاون مع كوريا الشمالية وعدد متزايد من الدول الأفريقية التي تبحث عن بدائل للشراكة مع القوى التقليدية.
أما الجنوب العالمي الذي طالما كان على هامش صنع القرار العالمي فهو يطالب اليوم بصوت عالٍ ومتنامٍ بمكان مؤثر على طاولة التفاوض الدولي ومشاركة حقيقية في رسم مستقبل العالم. لكن يبقى السؤال الجوهري معلقاً: هل يشكل الجنوب العالمي مشروعاً متماسكاً وموحداً؟ ما رؤيته الجماعية للمستقبل؟ وما أفقه التاريخي والحضاري؟
ثالثاً: في مواجهة الفوضى، تجديد أدوات الفهم
إن اضطراب المشهد العالمي المعاصر وتعقيداته المتزايدة يستدعي أكثر من مجرد رصد الوقائع والأحداث، بل يتطلب مساءلة جذرية للأدوات المفاهيمية والنظرية التي نستند إليها لفهم العالم وتحليل تطوراته. وهو ما يقتضي بالضرورة تبني نمط تفكير معقد ومركب لا يزيد اللبس والغموض بل يعترف بتداخل المستويات وتشابك المسارات وتعدد الأصوات والفاعلين.
في مواجهة ضجيج السرديات المتنافسة والمتضاربة، ينبغي الربط الإبداعي بين ثلاثة مستويات أساسية: التاريخ والجغرافيا السياسية والاستشراف.
أولاً، التاريخ لفهم الجذور العميقة والبنيوية للصراعات المعاصرة، من إرث الحقبة الاستعمارية الثقيل إلى حدود الدول المصطنعة والهويات المتنازعة التي ما زالت تشكل مصدر توتر في مناطق مختلفة من العالم.
ثانياً، الجغرافيا السياسية لفك خريطة المصالح المعقدة والتحالفات المتغيرة والتوازنات الإقليمية الدقيقة التي تحكم سلوك الدول والفاعلين غير الحكوميين على السواء.
ثالثاً، الاستشراف لا للادعاء بالقدرة على التنبؤ الدقيق بالمستقبل - وهو أمر مستحيل في عالم شديد التعقيد - بل لتخيل البدائل الممكنة والسيناريوهات المحتملة وتجنب الوقوع في فخ تكرار الأخطاء التاريخية.
المهم في هذا المسعى ألا نحول "التعقيد" إلى ذريعة مريحة للشلل الفكري والعجز عن الفعل، بل أن نعتمده نقطة انطلاق حقيقية لتحليل أكثر دقة وعمقاً وتواضعاً. فلا خلاص حقيقي في الشعارات الجوفاء أو الثنائيات المتكلسة التي عفا عليها الزمن.
هذا الموقف المنهجي الجديد يتطلب منا الاعتراف الصادق بحقيقة بسيطة وعميقة في آن: العالم ليس بسيطاً ولا سهل الفهم والاستيعاب، لكن ذلك لا يعني مطلقاً أنه عصي على الفهم أو مستحيل التحليل.

الفهم بوصفه فعل مقاومة

في ختام هذا التأمل، لا تبدو الفوضى التي تعصف بعالمنا مجرد وصف لحالة خارجة عن السيطرة، بل هي مرآة صادقة تنعكس فيها حدود وعينا، وعجز أدواتنا الذهنية عن ملاحقة التحولات العاصفة. إنها لا تشير فقط إلى العالم، بل إلينا نحن، إلى قصورنا عن التفكير خارج قوالب أرهقها التكرار، ونماذج فكرية بالية لا تُجيد إلا تفسير الماضي.

تدعونا هذه الفوضى إلى مواجهة قاسية ولكن ضرورية مع أنفسنا، وتحثّنا على ارتكاب فعل الخيال، على اقتراح عوالم جديدة ممكنة، وعلى صياغة سرديات بديلة قادرة على احتضان تعقيدات الزمن لا إنكارها.
تسمية الفوضى ليست استسلاماً لها، ولا إذعاناً لمصير مزعوم، بل محاولة شجاعة لسبر أغوارها، لفهم منطقها المتواري خلف الضجيج، وللبحث عن مخارج مبدعة تليق بكرامة الإنسان وتطلعه إلى عالم أكثر اتزاناً وإنصافاً.
السؤال الجوهري إذًا لا يكمن في معرفة ما إذا كان العالم فوضوياً بطبعه، بل في كيفية بناء ذكاء جماعي حيّ، متجدد، قادر على مجابهة الفوضى من دون أن ينكسر أمامها أو يذوب في دوّامتها القاسية.
إن الفهم، حين يكون نقدياً وعميقاً، يتحول إلى فعل مقاومة. وفي زمن مضطرب كهذا، قد يكون الفهم هو آخر ما تبقى لنا من أدوات البناء، وأول ما نحتاجه لتخيل مستقبل لا يُكتب على هامش الانهيار.

بقلم: أمين بن خالد محامي ودبلوماسي سابق 

 

المشاركة في هذا المقال