إذ عبرت الكثير من الأفلام عن رحلة الإنسان في الوجود بحثا عن المعنى لتكشف عن علاقة الأنا بالغيرية وتكون نافذة لفهم الغيرية بطريقة جمالية سينمائية، خاصاّة ونحن نعيش اليوم على مشاريع نيوليبرالية تراهن على تقويض الغيرية ولعلّ هذا ما تجسده الحرب على غزّة والتي مهدّت لتكثيف سينما المقاومة من أجل إنشاء ذاكرة سينماتوغرافية تعتز بالهويّة وتقاوم هذه المشاريع الكولونيالية. ولعلّ هذا ما أثبته الفيلم الفلسطيني "الجنة الآن Paradise Now" والذّي حقّق نجاحا باهرا وساهم في لفت الانتباه إلى الآخر المضطهد.
ومن وجهة نظر نقدية التي تفكك المضامين والدلالات السينمائية على المستوى التقني والدلالي نجد حضورا واضحا للعديد من المفاهيم التي تحيل على حقل مفاهيمي يرتبط بالغيرية مثل الجسد والغيرية والكونية... وهنا يمكن أن نشير إلى فيلم النوري بوزيد "ريح السد".
ولعلّ هذا ما يجعلنا نعتبر أنّ هذا النمط من السينما هي سينما الإنسان ، فقد عايشت كينونته ولم تجعل منه كائنا متعاليا بل منفتحا عن الغيرية بما تحمله من دلالات متكثرة ومتعدّدة تجعلنا نفهم هذه العلاقة، وهذا ما أكدّته الفينومينولوجيا من خلال دراستها للفن السابع وعلاقته القصديّة بالعالم والذي يترجم من خلال مقالة ميرلوبنتي "السينما وعلم النفس الجديد.
تتشكلّ كلّ أدوات التفكير من خلال مفهوم "الصورة-الحركة"، وتتكون السينما من صور متنوّعة، وهذا التنوع يسير وفقا للمفهوم أي أنّ الصورة في السينما ليست مستقلة بذاتها بقدر ما هي مرتبطة بالفهم والرؤية التي تشكلها ، وبمعنى أوضح إنّ جمالية السينما لا تتمثل في مجرّد تمشي إبداعي تقني، بينما هي مفهوم تحدّده الكاميرا، ولعلّ المفهوم الذي سنخصه بالبحث في هذه المناسبة هو الغيرية.
يقول جيل دولوز:" ما من فيلم على الإطلاق كان مصنوعا من نوع واحد من الصور، فنحن نطلق إسم مونتاج على ترتيب الأنواع الثلاثة للصور. فالمونتاج -في أحد وجوهه- هو تنسيق "الصورة-الحركة، فهو إذن التنسيق المشترك "للصور-الإحساس" و "الصور-الفعل" و"الصور-العاطفة"، يبقى أنّ فيلما من الأفلام بميزاته الأشدّ بساطة يغلب دائما نموذجا للصورة." أي أنّ الشريط السينمائي حمّال للأحاسيس والعواطف والهواجس، تجعلنا نتتبع ملامح الغيرية وتكشف لنا عن دلالاتها ومعانيها.
يتنزل كتاب "الآخر في السينما" الذي نشره المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" بإشراف الباحثة في الطب النفسي المرضي، الدكتورة خلود بن محمد غربي في إطار مقاربة الآخر أنطولوجيا وبسيكولوجيا وسينمائيا من خلال الفن السابع، حيث يتضمن الكتاب مداخلات علمية لخبراء في التحليل النفسي وعلم الاجتماع والطب النفسي السريري وسينمائيين تكشف عن قدرة الفن السابع على تحديد علاقتي بالآخر وعلاقته في هذا الواقع.
تبعا لذلك يمكن القول، يحقّ للمنتج أن ينطلق من مرجعية ترميزية تخصّ حقله الدلالي، ويحقّ للمتقبّل أن يمارس تأويله وفقا لمعجم ذي رمزية خصوصية، وهذا ما أجمعت حوله مضامين الكتاب، وإختزلته أستاذة الطب النفسي "ماري روز مورو" في قولها التالي"الصور السينمائية مفعمة بالحميمي"، حيث يلتقطها كل متقبّل طبقا لوضعه النفسي وإستعداداته الذهنية أي معيشه الخاص حسب دراستها.
فمن الطبيعي أن يستوعب كل فرد الأعمال السينمائية تحت تأثيرات تجمع المسارات النفسية والبيولوجية، الواعية واللاواعية، المشتركة والموغلة في الحميمي، ومن البديهي أن تفرز هذه العوامل تعدديّة التأويل للنص الواحد، فهي حمّالة للمعاني ومؤرقة للكيانات المولعة برصد مقاصد الباث، ولعلّ هذا ما خصّه بالذكر الطبيب النفسي، رئيس قسم التحليل النفسي المؤسساتي بمستشفى بيروت، الدكتور شوقي آزوري في دراسته تحت عنوان"الآخر، المرآة،السينما" منطلقا من مقولة شهيرة للشاعر الفرنسي رامبو "أنا هو آخر" ففي السينما يتحول الجميع إلى الآخر" لأننا داخل قاعة السينما المظلمة نكون في موقع الآخر الحالم" حسب قوله، إنها لحظة تبادل المواقع بين الباث والمتلقي يتحول بمقتضاها المتقبّل إلى منتج للرسالة التي يستنبطها لتغدو نصه المعبّر عما يختلج بأعماقه الدفينة، لذلك يستعير الدكتور أزوري شعار فرويد "الحلم هو الدرب الأميري للاشعور" فقد يجد البعض في أعمال سينمائية المكبوت السياسي، ويصعّد البعض الآخر عبر الفيلم المكبوت الغريزي، إنه الآخر المتعدّد في الومضة السينمائية الواحدة، حيث تجد كل ذات مكانا يأويها في بنية النص السينمائي، كما تكشف عبره الجوانب المخفية في جهازها النفسي.
إنّ السينما عالم قائم بذاته، إنه عالم مسطح ومكثف ومنظم، إنه على صلة بالواقع، وهذا العالم الفيلمي هو بمثابة العالم الثاني الذي نعيشه يغذي ويشكل إدراكنا لهذا العالم الذي نعيشه، ويؤثر على مشاعرنا ووجداننا. لذلك خصصت الفلسفة منذ برغسون دراسات لهذا الفنّ وفكرت فيه فلسفيا من زاوية أنطولوجية تجعلنا نتتبع حقيقة علاقتنا بالآخر. فالذهاب إلى السينما هو إيقاظ لمشاعرنا الجمالية والفرجة والنسيان، وهنا يشكل ظلام قاعة العرض لقاء بين الفيلم و المتفرج، إننا نفقد أجسادنا لتستولى عقولنا علينا وتعمل وحدها وقد اشتبكت مع العالم الفيلمي.
إنّ الفنون والتعابير الثقافية تختزل المرآة التي عبرها نتأمّل هويّة الشعوب المنتجة لها، فمن يطرح العرضي لا يمتلك مشروعية التثاقف الندي مع خطاب المتسيدين على العالم، ولا يجوز إختزال الإبداعات في الانتشاء الجمالي الصرف والأبعاد الإستيتيقية الخالصة، بل هي ذات علاقة وثيقة باليومي، وتظل التجارب النقدية للسينما والفنون بحاجة إلى مثل هذه المؤلفات العلمية ضمانا للتحليل العميق والنقد المؤسس.
إنّ الصورة البصرية من أكثر الوسائل تأثيرا إذ تبني جسور التواصل بين الفنان والمتلقي وبين الأنا والآخر التي تحمل عدّة دلالات منها الصراع والتي يعبر عنها جون بول ساتر "الآخر هو الجحيم" وفي المقابل نجد دلالة تقرّ بالانفتاح وتعبر عن علاقة صداقة بين الأنا والآخر إذ يقول ميرلوبنتي في هذا السياق"الآخر هو الشرط الأنطولوجي لوجودي".
تبني السينما رؤية عميقة لقضايا الوجود والمعرفة والقيم" فليست الكاميرا مجردّ آلة محايدة، بل تكشف لنا عن نسق منظم يتوفر على آليات بصريّة وثقافية تسعى إلى الإقناع وفق منطق متعدّد: تقني، لغوي، بصري، إيديولوجي، جمالي...
إذن الفن السينمائي إنتاج ثقافي وصناعة إبداعية يتبلور داخل مجموعة من الظروف الإجتماعية ويتفاعل مع السياسي والإقتصادي والإيديولوجي كذلك الميولات الذاتية إضافة إلى الوعي الجماعي، كما تتداخل فيه التشكلات المعرفية بالجمالية. كما أنّ المعنى المعاصر للصورة يبيّن أنّها تعبيرية تكشف عن نمط جديد للوجود-العالم. فالصورة باعتبارها حركة هي في واقع الأمر جسد يخاطب جسدا آخر، فهي تحوي زخما لغويّا تواصليا ذلك أنّ المرئي هو الذي أستحوذ على الإنسان المعاصر.
قائمة المصادر والمراجع
جيل دولوز،الصورة-الحركة، حسن عودة،دمشق، منشورات وزارة الثقافة-المؤسسة العامة للسينما، 1997.
أفلام تونسية ومقاربات فيليمية، سمير الزغبي، تونس، دار الاتحاد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2019.
الفيلموسوفي –نحو فلسفة للسينما، دانييل فرامبتون، أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى ،القاهرة، 2009
جماليات السينما، نظرية تقنية إنشاء الفيلم، سمير الزغبي،نقوش عربية، 2010، الطبعة الأولى
الأخر في السينما، تحت إشراف الدكتورة خلود بن محمد غربي، المجمع التونسي للآداب والعلوم والفنون ،بيت الحمكة،2017.
ميرلوبنتي، السينما وعلم النفس الجديد، نهاد التكرلي، مجلة أسفار، 1986