Print this page

على هامش اليوم الدراسي بالمعهد العالي للغات بتونس: الدرس الحضاري في الجامعة التونسية علم أم مسائل فكر نقدي وتأويل؟

بقلم: محمّد الكحلاوي 

احتضن فضاء المعهد العالي للغات بجامعة قرطاج تونس أعمال يوم دراسيّ

حول تخصّص الدرس الحضاري وخصوصية البحث في مسائل الحضارة بأقسام اللغة والآداب العربية، وذلك من خلال أربع مداخلات وما تبعها من مناقشات وتعقيبات، حيث تمّت محاولة بيان خصوصية البحث في الحضارة من جهة كونها علما مخصوصا ذا منهج محدّد أو مسائل في الفكر وقراءة التراث وعلوم الدّين والتاريخ والحداثة والإصلاح والحريات وتأويل النصوص الدينية وأشكال التعدّد والاختلاف في المعتقد ومسائل الاجتماع وفي الإبداع.. تُعتمد فيها مناهج العلوم الإنسانية كالانتربولوجيا والفلسفة وأدوات تحليل الخطاب والمعرفة بالتاريخ وأصول الحضارات الأخرى وثقافاتها.
وقد كان برنامج هذا اليوم على النحو الآتي:
جلسة علمية أولى ترأسها ونّاس الحفيان شملت مداخلة هشام المسعودي مدير المعهد العالي للغات: الدراسات الحضارية بين الفلسفي والتاريخي. ومصطفى التواتي: في علم الحضارة وتدريسه. وجلسة علمية ثانية ترأسها نادر الحمامي قُدّمت ضمنها ثلاث مداخلات؛ محمّد الحدّاد: درس الحضارة في الجامعة التونسية. والطاهر المناعي: إيضاحات أساسية حول الدرس الحضاري بالجامعة التونسية ونجم الدين القزدغلي: نحن والحضارة الروسية. وقد تمّ بهذه المناسبة تكريم الأستاذ مصطفى التواتي بوصفه من أبرز من حاولوا التأصيل لخصوصية البحث في الحضارة ومكانتها داخل أقسام العربية بالجامعة التونسية.
وللإشارة فقد ضمّت لجنة التنظيم والتنسيق لهذه الندوة الأساتذة: الزهرة بالحاج وهاجر حنفير وهناء الطرابلسي وفتحي الشواشي.
على هامش مثل هذه المناسبة يجدر القول إنّ للبحث في الحضارة أو الدرس الحضاري أو مسائل الحضارة العربية والإسلامية خصوصية نوعية في الجامعة التونسية، إنّه التخصّص الأكاديمي الذي انتشر واشتهر في أقسام اللغات والآداب والحضارة بمختلف كلية الآداب والعلوم الإنسانية، حيث يمتدّ مجال التخصّص في العربية وآدابها إلى كلّ ما كتب بلسانها من آداب وفنون وعلوم عقلية ودينية ومصنّفات في التاريخ والفلسفة والرحلة والجغرافيا وفي مجال الفكر الديني والفنون والعلوم الأخرى كالطب والحساب والفك والأخلاق والمنطق..
ولعلّ طرافة الدّرس الحضاري تمكن خصوصيته وانفتاحه على حقول معرفية أخرى، وعمق طرحه وجدّية التكوين وعمق التفكير والتنوير الذي يحمله خطابه، كما أشار إلى ذلك الطاهر المناعي في مداخلته. وهنا يمكننا القول إّه لئن ارتبطت دراسة مسائل الحضارة والتراث والفكر والثقافة الإسلامية في دول عربية أخرى بتخصصات مثل الفلسفة وعلوم الشريعة وأصول الدّين أو بالتاريخ وغير ذلك، فأنّه في تونس هناك خصوصية واستقلالية للدرس الحضاري الذي يطلّ حاملا لذاك المنحى النقدي العلمي معتمدا الطرح المنهجي العقلاني لقضايا التراث وقراءة متون الفكر والفلسفة وعلوم الدين وتفسيره ومن ضمنها الفقه وعلوم العقيدة (أصول الدين) وغير ذلك من فنون النثر العلمي ومصنفات الفنون الأخرى... ويينع هذا التخصّص داخل أقسام اللغة العربية وآدابها...وتزدهر وتنمو المقاربة النقدية التحليلية الموصولة بالحداثة وبجديد المعرفة داخل أقسام العربية وضمن رسائل الماجستير والدكتوراه، وفي دروس وحدات الحضارة، فترى فنونا في النقد والتحليل واستنتاجات في فهم وجوه الفصل بين قداسة الدّين ونسبية اجتهادات البشر وأشكال فهم المفسرين والمتكلمين والفقهاء للخطاب القرآني لإدراك مدى نسبية ذلك، ومن ثم تبدو نتائج الدرس الحضاري مفيدة ومهمّة لكونها تقرّ الاختلاف وتبحث عن المؤتلف بين مختلف أشكال الفكر والقول المختلف.
هكذا اكتسب الدرس الحضاري بالجامعة التونسية خصوصيّة فكرية دينية، وحضارية ثقافية، وفلسفية معرفية، واجتماعيّة جعلته يمثّل إضافة للمنجز الأكاديمي والعلمي التونسي. فيتقاطع محموله المعرفي في بناء معالم الشخصية المعرفية للطالب/ الباحث التونسي مع معالم تخصّصات علمية معرفية أخرى.
ولذا فتخصّص الحضارة الذي يراه البعض دخيلا وغير ذي أصل علمي ومرجعية منهجية محدّدة، فالأمر عكس ذلك، لاسيما وقد سبقت نشأته بالغرب وفي بلاد الشرق، وكتب فيه علماء ومفكرون ومؤرخون كبار، مثل الألماني آدم ميتز صاحب كتاب "الحضارة الإسلامية" وبروفنصال صاحب مؤلف "حضارة العرب بالأندلس"، وموسوعة هيجل الفلسفية ومصنفاته في علم الجمال والعقل في التاريخ. وفي بلاد المشرق العربي عُرف الدّرس الحضاري بالتميّز في دراسة العلوم والأفكار وتحليل تطوّر الفنون والمذاهب في بلاد العرب والإسلام، مع طه حسين وأحمد أمين وحسين مؤنس، قبل أن تصبح دراسات الحضارة مختصّة بقضايا الإسلاميات أي التحليل النقدي لمصادر الفكر الإسلامي ولمصنفات الفقه والتفسير وعلم الحديث والسير والكلام والتصوف كما هو الأمر لدى رائد هذا التخصّص محمّد أركون وصاحب مشروع علوم النصّ والقرآن والتأويل نصر حامد أبو زيد. ففي سياق ذلك جاءت أعمال رواد المدرسة التونسية، في دراسة مسلة الحضارة بعد ما حاولت أن تنفصل عن البحث التاريخي ابستمولجيا، إذ نشأ درس المسائل الحضارية في الجامعة التونسية موصولا بالتاريخ، فكان الأعلام المؤسسين الرواد من كبار المؤرخين مثل أحمد عبد السلام ومحمد الطالبي وفرحات الدشرواي ومنصف الشنوفي، باحثين في التاريخ آمنوا بأهمية دراسة المنتج الفكري في الدين والثقافة ورصد أثر ذلك في حياة المجتمعات، فأطّروا أساتذة صاروا أعلاما في هذا المجال مثل عبد المجيد الشرفي وتوفيق بن عامر والراحل سعد غراب الذي أتمّ دراسته في السربون، فمع هذا الثلاثي والراحل صالح المغيربي، شهد الدرس الحضاري ولادته المعرفية في الجامعة التونسية. وقد تفرّعت لاحقا عن ذلك تخصّصات فرعية وجزئية دقيقة، مثل الدراسة الأنتربولجية لمتون الفكر الإسلامي ومصادره الأولى مع منصف بن عبد الجليل وآمال قرامي وغيرهم، أو الدراسة العلمية للوحي والقرآن في علاقته بالأديان الأخرى التوحيدية الكتابية خاصّة، مع الراحل حسين القرواشي وفوزي البدوي ومحمّد الحداد، وغيرهم، أو دراسة مسائل الفقه والأصول وقضايا التشريع والاجتهاد وعلوم القرآن مع زهية جويرو ونائلة السليني ونادر الحمامي ورضا حمدي، وفي مجال التصوّف حيث تميّز محمّد بن الطيّب وآخرون من أبرزهم صابر السويسي ونو الدين المكشر... أو في مجال قضايا الفرق والمذاهب ومسائل التوحيد والتأويل مع ناجية الوريمي والراحل الحبيب عيّاد ومحمّد حمزة ومحمد بوهلال ومحمد الهادي الطاهري، أو في دراسة تراث كتابة السيرة النبوية مع حسن بزاينية.. وآخرون غيرهم تميّزوا في دراسة قضايا الفكر الإصلاحي وحداثة الدولة والمجتمع والتاريخ..
ولعلّ مثل هذه البحوث تلتقي مع كتابات طريفة جاءت من حقول أخرى كاللسانيات وعلوم النصّ فولّدت بحوثا جدية في قضايا الاجتهاد والتفسير ومسائل الحريات الدينية والتعدد في أشكال الفهم والتأويل للقرآن الكريم وما يعتبر أنه سنة صحيحة مروية، من ذلك أعمال ألفة يوسف حول الحرية والمساواة أو أعمال جماعة البحث في الجندر وعلاقة المقدّس بالحرية والحداثة وقيم الحداثة....
ولعلّ تلك خصوصية أخرى للدرس الحضاري تظهر من جهة تمثّل صورة القيم والمثل العليا في بعديها الفردي والاجتماعي.

المشاركة في هذا المقال