Print this page

مستطاع غزّة ومستطاعنا

1
غزة بالمؤشرات السوسيولوجية مجال حضري فقير كثيف السّكان الي حّد الاختناق،

اقتصادها ضعيف و نصف قاطنيها أطفال عطّل الاحتلال و الحصار طاقتهم الطبيعية على الحلم , و صادر قدراتهم علي تحويل رغباتهم المشتهاة ككل أطفال الدنيا , الي عالم الخيال , العيش فيها صعب على الكلّ , الحياة في غزة لا تشبه الحياة في أي مكان على وجه الأرض , هي تمدّ كلّ قامتها على ضفاف البحر, و تعيش بين بوابتين , مغلقة على المكان مفتوحة على الوقت
كلّ الدلائل كانت تشير أن موتا بطيئا سكن الغزاويين و الغزاويات , و الأرض خرساء بلا ملح و اللغة لم تعد تجدي نفعا للتواصل بين أهل غزة و العالم , لكن كانت غزة طوال ما يقارب العقدين تقاوم حينا و تتعب حينا , يحتاج مقاتلوها قليلا من الوقت للعلاج و التدرب للمعركة القادمة في صمت , ينام صبايها كتومات صابرات على كلّ شيء , تفتح مساجدها و كنائسها للصلاة و لبقاء الروح على قيد الحياة للقاء الرّب راضية مرضية . الصلاة في غزة مقاومة هي أكثر من تعبّد هي تثبيت للهوية الصامدة في وجه الهوية المستوطنة المدجّجة بالسلاح . دروس المعلمين في المدارس مقاومة , مساعدة قابلة أما على وضع وليدها مقاومة , الأكل و الشراب لما يبقي على قيد الحياة مقاومة . لعب الأطفال بالحصي مقاومة .. كلها مقاومات تزيد جنون العدوّ الذي لا يحتمل وجود غيره على أرض فلسطين .
2
رغم كلّ وهنها و تعبها وقسوة تضاريسها لم تترك لنا غزة مرثيتها غاضبة منا , رافضة أن نرثيها نحن بكلام لا يليق بها حين تسلم الروّح , بل ولدت من جديد , من جرحها , من بحرها , من برّها , من سماءها , دون استئذان من أحد . كانت وحدها قادرة على المستحيل , ضربت العدو في مقتل نرجسيته و اعتداده بنفسه , هم صبية كبروا فيها ومعها زادهم إيمانهم بالحق هدي و الغضب الدفين طاقة , فانفجروا في وجه الظالمين كبركان من قوة صادمة
3
مجتمع غزة الكثيف شدّ العالم , وحمل فلسطين بعيدا حيث لا يتكلم الناس العربية و لا يدينون بدين محمد ولا يقرؤن القرآن ولا تربطهم بالجامع الأقصى أي علاقة رمزية . ثمة حدس مواطني عالمي بأن انتصار غزة فاتحة عودة العدالة للعالم , الحرب عليها غطت على كلّ الحروب الأخرى , وهي اليوم تقاتل من أجل عزّتها وعزّة المضطهدين , من كان يخشي المقاومة فصبرا جميلا وانتم تئنون تحت وخز ضمائركم , أنصتوا الي ضمائركم ولا تكترثون بمن يتهمكم بالتطرف في الحق . ومن كان يؤمن بها فالمقاومة حية لا تموت , تتعب و لا تموت .
4
غزة جزء من فلسطين وهي كما قال درويش الأكثر جدارة بالحب و جزءا من الأمة و جزءا من عالم المضطهدين نساؤها , رجالها , شباباها و فلاحوها , رعاتها , بحارتها , عمّالها , طلبتها , وتلاميذها و معطلوها عن العمل , حماسها الإسلامية و كلّ فصائل مقاومتها منا وإلينا , قد نختلف مع كتائب القسام غدا في كلّ شيء حول شؤون الدنيا وقضايا الآخرة , ولكننا اليوم نلتقي معها في معركة التحرر الوطني , المقاومة إبداع المقاومين و بنت أهلها هي ضمير الوطن وصورته الروحية الصاعدة . لذلك نقول والحرب لم تضع أوزارها بعد : ما مستطاع غزة ؟ و ما مستطاعنا نحن ؟

5
كلنا نخجل من أنفسنا حين نستمر في الحياة بسطحية عاجزين , نبكي كلّ ساعة بين صورة وصورة مؤلمة موجعة , و أمام وجه طفلة دام . صبّ جيش الاحتلال منتقما على غزة أطنانا من القنابل فاقت حجم الجحيم , لا وقت في غزة للحداد وتقبّل العزاء من فرط سرعة الموت , غابت أمكنة العزاء بين الأنقاض وضاقت المقابر , يدفن الأب ابنه و الأب اباه و الأم فتاها و الطبيب أهله و الصحفي أسرته ويستأنف الرحلة ما دام على قيد الحياة . الكلّ يعلم أنه قد يقتل بعد ساعة ولا بدّ من فعل شيء ما قبل سقوط القذيفة القادمة .
نبصر من بيوتنا نحن عشاق فلسطين المفجوعين , قافلات دواء و غذاء في معبر رفح تنتظر , لم يملك حتي الأمين العام للأمم المتحدة رغم اعتداله القوة القانونية و المعنوية للإد خالها , وهو عجز يدق مسمارا جديدا في نعش النظام العالمي القديم . ربما ننام قليلا بين نشرتي أخبار لنصحو على كابوس جديد , على محرقة أو على فاجعة .
عدّ الشهداء و الجرحى بعد كلّ قصف يؤجج فينا حقدا وغضبا لا نعرف مداه و مآله , ساخطون نحن على عالم لم يعد لنا نحن العرب و نحن المسلمون نحن شعوب المستعمرات القديمة المحرّرة نحن اللاّغربيون نحن المستضعفون والمبعدون من حسابات العولمة اقتصادا وثقافة وسلما وحربا . غزة بيان الحق ساطعا بين ما به نكون نحن وما به يكونون هم . لا فصل بين الدين و الدوّلة حين يتعلق الأمر بإسرائيل ولا بالمساواة بين البشر , ولا بالسلام . تهاوت الأصنام وسقطت الأقنعة . لكننا لا نريد أن نتخلى عن يتوبيا الحرية و العدالة و المساواة مع كلّ أخوتنا في الإنسانية ليس مستقبل العالم في صعود الفاشيات الجديدة في الشرق و الغرب .
6
لن ينسي العدو زلزال 7 أكتوبر لأنه كسر شوكة جيشه بعقيدته وعدته وعتاده , حين أتاه المقاومون من حيث لا يحتسب و كسر شوكته بالمعني الأبعد عن العسكري , 7 أكتوبر هو انتصار صلابة الإرادة وجوديا عن عماء القوة , فالضعيف في صراع الحياة و الوجود ليس ضعيفا , حين يختزن لأجيال وجع الظلم و طاقة ردّ الاعتبار يورثها جيلا بعد جيل , و القوي أوهن من بيت العنكبوت و يمكن إصابته في مقتل .
من صدمه عنف المقاومة وأثر فعلها وتألم بصدق قلبه وهو على حق لصور المدنيين الإسرائيليين قتلي و أسري , عليه أيضا حتي يكون كامل الإنسانية و حفاظا على التوازن مساءلة القتلة على جرائمهم منذ عقود قبل أن يتهم الفلسطينيين بالهمجية و البربرية . فرانتز فانون على حق أيضا حين فهم عنف المظلومين كحدث متداخل يمكنه إزالة مشاعر الإهانة إن العنف المنتقم لدي الشعوب المستعمرة , هو حقها لاستعادة الشعور بالذات التي دمّرها الاستعمار.
لا نستطيع إتهام المقاتل من أجل الحرية بالإرهاب فنساوي بينه وبين الإرهاب الجهادي التكفيري المدمّر و المرفوض غير أن في هذا الإصرار على تقديم حماس كتنظيم معادي لليهود لا كحركة فلسطينية وطنية استرجاع خبيث لدي الغرب لزمن فصامه العنصري الذي يعطي فيه الحق لنفسه في الحرية و ينكرها على غيره . منذ رفضه ثورة عبيد هايتي و حقوق الهنود الحمر و ثورا الجزائر وثورة الإيرانيين المدنية والروحية على الشاه وثورة تونس 2011 قبل انتصارها بساعات وصولا لغزة العنيدة .
7
غزة أعطت ما تسطيع ولا تزال تكابر و لم تهزم , هي صدقا ثكلي وجريحة ولكنها تعرف أنها اليوم مركز العالم الجديد لذلك تملكت من القوة ما لا طاقة لغيرها به . أما نحن فسنترك للدمع حتي ان جف مجري العين طليقا , ولكننا لا بد ان ننبثق من جديد لا خيار . المقاومة سيرا في الشوارع , و شعر ا , و حرفا , ورسما , و صمتا , و سرا , و لحنا , و فكرا , لا يستطيع الواحد منا امتطاء صهوتها وحده , نحن في حاجة الي أ نفسنا العميقة , والي توائم ارواحنا لنحيا , والي الأصدقاء كلهم حيثما كانوا , المعركة ليست معركة عدد بل معركة وقت وأرض . وهي معركة بوصلة لبناء رؤية جديدة تحصننا من الاقتتال الدّاخلي وقد جربنا قسوته و هي معركة تضمن للمقاومة أن تعبر عن نفسها دون وصاية وأن تتخذ الشكل الذي تريد فلا خير في ثقافة ديمقراطية تطأطئ الرأس للغرب غاصبا محتلا و مهمينا ولا خير في مقاومة تكمم الأفواه وتستخف بالحق في التفكير و الإختلاف باسم علو صوت المعركة قداسة الزعيم . الطريق صعبة وعسيرة لكن لا مفر .
8

غزة جسرنا نحو اللاّغياب , غزة حقنا ان نكون ما نريد وما نشتهي وحقنا في الحضور , لا معني لشيء آخر دون غزة , سيغفر الرّب لكل الشعراء و الشاعرات جنونهم يوم القيامة من فرط حبهم لغزة , حين يشق على قلوبهم حيث الروح مغمسة بثرى غزة . و الأنظار تلمح ثرياها نجمة لامعة في السماء .
لا نستطيع ولا نريد ان نشفي من حب غزة ولن نحبّ من لا يحبّ غزة بعد اليوم , فيا عامل المقصلة لا تقطع رأس القصيدة , وأجّل حكمك القاسي بالفناء حتى لا تموت ويموت شاعرها حزينا.. دعه على حافة الحياة حالما بالمستحيل الممكن: النوم قليلاً بعد المعركة عند الغروب في حضن البرتقال فرحا أو متعبا .
غزة هي المعركة الأخيرة قبل الانتصار إن لحظة التغيير آن لها أن تضيء , إنها الثورة يا سادتي الأعزاء لكنها ''الفلسطينية '' هذه المرة , لعل هذه الهوية الفلسطينية للثورة قد غابت عن زخم الانتفاضات العربية بموجتيها الأولي والثانية و آن الأوان أن تمّد هامتها , لا ثورة ممكنة في حياتنا كثوار دون فلسطين , فكيف ننساها ونحن اللذين كبرنا على دبكة فرقة العاشقين , كم جميلة أنت يا فلسطين لأنك قادرة على الشهادة والولادة وعلى نشر إيقاع العشق في كلّ حياتنا . دورنا أن نقاوم الجدار الحديدي لليأس وأن لا نأخذ حكامنا مأخذ الجد , فهم عاجزون عن فعل شيء و عاجزون عن دفعنا للانتحار كمدا .

9

صبرا آل غزة صبرا آل فلسطين النصر على مرمي حجر فكوفيتكم صارت زينة الرجال و النساء في الكوكب كله , نتألم من صمت العالم القديم ومن استخفاف الجيوش و البنوك و الحكومات اليمنية , بالقانون الدولي ولكننا صدقا فلسطين نسمع دقات قلب العالم الوليد فيك وفي بطنك الخضراء يا ولاّدة .

المشاركة في هذا المقال