Print this page

في دراسة لمركز دراسات «مبادرة سياسات الغد»: كيف يمكن الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار في لبنان؟

أصدر مركز دراسات « مبادرة سياسات الغد» مؤخرا دراسة للباحثتين صوفي بلوميكي ومنى حرب تناولتا فيها عملية تعافي لبنان بعد مرور عامين على انفجار مرفإ بيروت

الذي دمر ثلث العاصمة اللبنانية وقتل أكثر من 220 شخصًا.
وتشير الدراسة الى ما يسمى بإطار الاصلاح والتعافي وإعادة الإعمار وهو كناية عن منصّة أنشأها الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي في العام 2020 في أعقاب انفجار مرفإ بيروت، وتهدف إلى توفير «إطار للعمليات الرئيسية الهادفة إلى دعم التعافي وإعادة الإعمار في بيروت»، وفق «تدابير مؤسسية شاملة» تجمع بين الحكومة والشركاء الدوليين والقطاع الخاص والمجتمع المدني .
وتقوم هذه الدراسة على تعدد المنهجيات استخدم خلالها الباحثان بيانات أولية مستخرجة من 24 مقابلة ومن ملاحظات المشاركين ومن البحث المكتبي، وكان هدفها تقييم أداء إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار الى حد اليوم لتقصّي مدى فعاليته في إطلاق الإصلاحات وتعزيز المؤسسات والقدرة على التكيّف مع السياق السياسي، مع التركيز على إشراك مؤسسات المجتمع المدني، لا سيما على مستوى المجموعة الاستشارية (التي ضمّت مؤسسات مختارة من المجتمع المدني) وعلى مستوى التنسيق القطاعي (من خلال مجموعات العمل).
وتوصّلت الدراسة إلى خلاصتين: أولاهما، أن الإطار، وعلى الرغم من احتوائه على تدابير مؤسسية فعالة وقادرة على التكيّف تتيح إجراء الإصلاحات، يزيد من تجزئة المجتمع المدني. وثانيًا، يؤدي التنافس وعدم الاتساق بين المنظمات الدولية إلى ترسيخ الوضع السياسي الراهن.
الإطار العام للإصلاح والتعافي
وتعنى الدراسة باستكشاف وتحديد ثلاث مجموعات مترابطة من القيود البنيوية التي تحد من فعالية أداء الإطار، وهي: أجندات المانحين المتنافسة وعدم الاتساق المؤسسي للمنصة، والجمود السياسي وافتقار الحكومة اللبنانية للإرادة السياسية، و المشاركة غير الكافية لمؤسسات المجتمع المدني في عمليات صنع القرار.
وقد تناولت الدراسة الإطار العام للإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار في لبنان على نهجٍ قائمٍ على مسارين. ويهدف المسار الأول المتمحور حول الإنسان إلى التعامل مع التعافي الفوري وتأمين الحاجات الملحّة، لا سيّما للفئات الأكثر عرضة، وهو مموّل من خلال المنح الدولية ومشروط بإصلاحات طفيفة. أما المسار الثاني، أي الإصلاح وإعادة الإعمار، فيتم تمويله من خلال القروض الميسّرة والتمويل الخاص، وهو مشروط بتنفيذ الإصلاحات الأساسية واستقرار الاقتصاد الكلي. لتأمين التمويل، أنشأت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي صندوق ائتمانيًا قائم على تعدد الجهات المانحة تحت اسم الصندوق الائتماني المخصص للبنان، وهو كناية عن آلية لجمع المنح التمويلية ضمن إطار موحّد تهدف لتعزيز اتساق وتنسيق التمويل لتلبية أولويات التعافي والإصلاح وإعادة الإعمار على المديين القصير والمتوسط.
ويستند الإطار إلى الإعلان المشترك لعام 2008 بشأن عمليات التقييم ما بعد الأزمات ووضع خطط التعافي. ويذكر الباحثان ان هذا الإعلان يشكل أساسًا للتعاون بين الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي في تقييم ووضع خطط التعافي وإعادة الإعمار والتنمية في الدول المتضررة من الأزمات. وعادةً ما يتم تطبيق هذه الاتفاقية الثلاثية بعد تقييم سريع للأضرار والاحتياجات في الدول المتعافية من الكوارث أو بناءً على تقييم مبادرات التعافي وبناء السلام في الدول الخارجة من أزماتٍ سببها الصراعات أو الأوضاع الهشة.
وقد وضعت الدراسة هذا الإطار العام للإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار في لبنان بناءً على تقييم سريع للأضرار والاحتياجات أجري في الفترة بين 5 و31 اوت2020. يعالج هذا الإطار في المقام الأول إعادة الإعمار والتعافي على مستوى بيروت، بالإضافة إلى بعض الإصلاحات التي تستهدف المستوى الوطني. تستند أولويات الإطار لكل قطاع إلى أربع ركائز استراتيجية ألا وهي: الحوكمة والمساءلة، توليد فرص العمل والفرص الاقتصادية، الخدمات والبنية التحتية (وتحديدًا: الإسكان والخدمات الحضرية، وإعادة إعمار المرفأ). والحماية الاجتماعية والإدماج الاجتماعي والثقافة.
أهم العوائق
وتشير الدراسة الى ان اختصاص إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار يفتقر إلى الوضوح من حيث النطاق الموضوعي والجغرافي، ما يحدّ من مستوى فعاليته. إذ نجد أن نطاق الإطار مرتبط بآليات التنسيق الأخرى، مثل خطة لبنان للاستجابة للأزمة وخطة الاستجابة للطوارئ في لبنان، غير واضح، وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى إضعاف أثر الإطار وخلق بنى موازية بدلًا من الاستفادة من التنسيق القائم حاليًّا. إلى ذلك، نجد أن التنسيق بين المنظمات الرئيسية في الإطار وعلى النطاق القطاعي معقّد بسبب غياب المصطلحات المشتركة وغير ذلك من المسائل المؤسسية الداخلية. من جهة أخرى، تؤدي تدخلات المجتمع الدولي إلى الجمود، ولو كان ذلك غير مقصود، بسبب منطقهم المؤسسي المختلف الذي يخضع للمحاسبة وفقًا لأجندات مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يفتقر الإطار إلى آلية موحدة لمراقبة التقدم المحرز والإبلاغ عنه، مما يضعف من آليات المحاسبة وفقًا للالتزامات، في حين أن آليات رصد الملاحظات، مثل منصة مشاركة المواطنين وآليات تقديم الشكاوى والتظلّمات لم تعالج بشكل كافٍ أو لم يتم تنفيذها بعد. ومن هذا المنطلق، فإن هذه الأساليب غير المتسقة تضر بالتطبيق الفعال للإطار على مستوى المشاريع والإصلاحات على حدّ سواء.
استراتيجية الجمود السياسي
وتذكر الدراسة ان الإطار يضم مجموعات عمل قطاعية يفترض أن تجمع مؤسسات المجتمع المدني والجهات المانحة وممثلي الوزارات المعنية لتفادي تهميش الدولة ولمنع المؤسسات العامة من التنصل بسهولة من مسؤولياتها. نظريًا، يفترض أن تعمل المجموعات القطاعية كوحدات عمل مرنة بغية إلى الاستفادة من آليات التنسيق القائمة وتعزيز فعاليتها. ولكن، لم يكتسب التنسيق القطاعي الزخم المناسب على الرغم من مرور عام على وضع الإطار وهو يعاد التفاوض بشأنه أصحاب المصلحة باستمرار. وهنا لا بد من الإشارة إلى ثلاثة تحديات، هي: يفتقر التنسيق بين المنظمات الرئيسية، القيادية منها وتلك المشاركة في القيادة، إلى تعريف واضح للأدوار، ويزداد الوضع تعقيدًا بسبب مسائل مؤسسية داخلية مثل الأجندات وطرق العمل المختلفة، فضلًا عن غياب المصطلحات المشتركة وعدم الإبلاغ عن التقدم المحرز؛ لا تعرف مؤسسات المجتمع المدني أي معلومات عن وجود مجموعات العمل القطاعية وتكوينها وعملية الانضمام إليها أو الاتصال بها؛ غالبًا ما تضم مجموعات العمل القطاعية، في حال وجودها، موظفين حكوميين و/أو ممثلين عن الحكومة لا يتمتعون بوزن أو سلطة كافيين في عملية صنع القرار وبالتالي يفتقدون للحماسة المطلوبة.
السياق السياسي في لبنان
وتلفت الدراسة النظر الى انه على الرغم من أن المنظمات الرئيسية التي صمّمت إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار أخذت بعين الاعتبار السياق السياسي في لبنان، إلا أن البنية المؤسسية التي أنشأتها لم تأخذ في الحسبان بما فيه الكفاية، العقبات المؤسسية القائمة والجمود السياسي المستمر الذي يعيق الإصلاح البنيوي. وبالتالي، فقد صممت مبادرات الإطار التي تتوخى تعزيز المؤسسات بطرق يسهل احتواؤها أو إضعافها من قبل الحكومة وموظفي الإدارات العامة، ما قد يؤدي إلى ترسيخ الجمود السياسي والنظام السياسي الطائفي. وبالتالي، فقد يكون هذا مثالًا آخر على كيفية تسهيل المساعدات لاستمرارية الطبقة السياسية الطائفية.
وتعتبر المجموعة الاستشارية بنية مؤسسية مبتكرة تجمع مؤسسات منتقاة من المجتمع المدني وتوفر لهم منصة يمكن من خلالها للحكومة والجهات المانحة سماع مطالبهم. تكتسب هذه المنصة أهميتها من غياب أي آلية تنسيق أخرى بين الحكومة والمجتمع المدني. في الواقع، يوفر إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار لمؤسسات المجتمع المدني تمثيلًا رفيع المستوى في المجموعة الاستشارية5، وفي هيئة الإشراف المستقلة ، وفي تنفيذ الالتزامات والمشاريع على المستوى القطاعي. إلا أن الإطار لا يوفر طرقًا كافية لمؤسسات المجتمع المدني للعمل بشكل جماعي بطرق متماسكة وفعالة.
وتوصّلت الدراسة إلى الاستنتاج أن عوامل داخلية وخارجية على حدٍ سواء تقيد فعالية مبادرات المجتمع المدني الإصلاحية. فافتقار الإطار إلى بنى حوكمة واضحة وأحكام تنظيمية يثير التساؤلات حول النوايا التشاركية لأنها تؤثر سلبًا على عملية صنع القرار. ونظرًا لجعل مؤسسات المجتمع المدني مسؤولةً عن التنسيق في ما بينها، والتركيز على وزنها ضمن الإطار القائم على مبدأ الشراكة الندّية، يتجاهل المجتمع الدولي بنى السلطة التي تعيق خاصية العمل التشاركي.
وتخلص الدراسة الى أن مخطط التعافي من الكارثة قد احتل صدارة الأولويات على حساب أصالة التجربة المؤسسية وتفعيلها. فالتحديات التي واجهتها المنصات على مستوى الدول في أماكن أخرى من العالم قد تكررت في تجربة لبنان مع الإطار التنسيق غير الفعال بين الجهات المانحة، والجمود التنظيمي، وإعادة إنتاج اضطراب الأوضاع السياسية، وضعف مأسسة عمليات الإصلاح.

المشاركة في هذا المقال